عُقدة العدوّ
د/ عبدالرحمن المختار
وصف اللهُ سبحانَه وتعالى اليهودَ بأنهم الأشدُّ عداوةً للمسلمين، في قوله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾، وهذه الحقيقة القرآنية لم تتغيّر ولم تتبدّل رغم مرورِ قرون من الزمن، ورغم تعاقُبِ أجيال وأجيال تنوَّعت خلالها أساليب ووسائل عداوة اليهود للمسلمين، واستفادوا خلالها من كُـلّ ما هو متاح من إمْكَانيات لضرب الأُمَّــة الإسلامية.
ليس هناك سقفٌ محدَّدٌ يمكنُ أن تتوقَّفَ عنده عداوةُ اليهود الصهاينة، وليس هناك مستوى من الانتقام يمكن القول عند تحقّقه إن الصهاينةَ قد اكتفوا، ووقائع التاريخ عبر ما مضى من الزمن تؤكّـد تلك الحقيقة القرآنية القاطعة، وقد تأكّـدت في زمننا الراهن كما لم تتأكّـدْ في زمن قبله، ليس لغموض أَو لبس في دلالة الآية الكريمة على شدة العداوة؛ بل لأَنَّ هذه الدلالة أصبحت في زمننا الراهن مشاهَدةً للجميع في وقت واحد وبمستوى واحد من الوضوح.
ولذلك فالحُجَّـةُ في زمننا الراهن قائمةٌ ومؤكَّـدة على الأُمَّــة كما لم تتأكّـد في أية مرحلة من الزمن الماضي؛ فما جرى ويجري على أرض الواقع في قطاع غزة ويشاهدُه الجميعُ هو تجسيدٌ حيٌّ لشدة عداوة اليهود، ولا يتعلق ذلك بروايات يرويها ناجون من الإجرام الصهيوني يمكن أن يشوبها شيء من الغموض أَو المبالغة، ويمكن من ثم أن تختلفَ المواقفُ ورداتُ الفعل تجاهَها.
وليس من الدين أبدًا أن تواجهَ أُمَّـةُ المسلمين عداوة اليهود الصهاينة المتجسدة للعيان على أرض الواقع بمواقفَ متباينة، بين باذلٍ لنفسِه في سبيل الله لمواجهة إجرامهم، وبين مساندٍ باذِلٍ مالَه سِرًّا ونائيًا بنفسه عن معاداتِهم علنًا، وبين من اكتفى بالدعوات إلى الله ليخذلَ الظالمين المعتدين وينصر عباده المستضعفين!
وهذا ما يتعلق بافتراض التباين الإيجابي لمواقف أُمَّـة المسلمين، فكيف هو الحال إذَا ما عرضنا الجانب السلبي لتباين هذه المواقف التي ضمنها خِذلان الأُمَّــة لمن استعان بها واستنصرها من أبنائها المظلومين المستضعفين؟ ومنها من ارتضى – ولو سرًّا – بإجرام اليهود، ومنها من أيده علنًا، ومنها من والى وساند وأمد حتى ارتقى موقفه إلى شراكة الصهاينة في الجريمة! متفاخرًا بموقفه المحبّ لهم، متجاهلًا قولَ الله عز وجل: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾.
وما هو حاصلٌ من تبايُنٍ سلبي في مواقف أُمَّـة الإسلام حقيقةٌ واقعةٌ وليس افتراضًا؛ فهذه الأُمَّــة المقسَّمة على سبعٍ وخمسين دولة مواقفها الواضحة – باستثناء قلة قليلة – لا تخرج عن التنصل والصمت والتخاذل والتآمر والتعاون مع العدوّ، وهذه المواقف ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج عقود من الزمن تمكّن اليهود خلالها من تفعيل عداوتهم لأمة الإسلام من خلال السيطرة على حكامها وعلمائها، الذين أبعدوا الأُمَّــة عن دينها خدمةً لعدوها.
ولتُصبح الأُمَّــة بذلك – وفي تناقض صارخ – معاديةً لبعضها ومواليةً لعدوها، خلافًا لنهي ربها القائل جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أولياء بَعْضُهُمْ أولياء بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.
ورغم تأكّـد اليهود الصهاينة من ولاء غالبية حكام أُمَّـة الإسلام، وأن أنظمتها الحاكمة لا تمثل أدنى خطر على وجود كيانهم، لكن عُقدتهم تكمُنُ في الخوف من تلك الروح الجهادية المتقدة والمتوقدة، التي تحولُ الجغرافيا والإمْكَانياتُ المادية في الوقت الراهن بينها وبين الوصول السريع لدَكِّ وتحطيم ما يتحصّنون به من جُدُر وأسوار العصر، كما فعل الأوائلُ من المؤمنين الصادقين في الزمن الماضي بتحصينات خيبر.
وما يفعله الكيان الصهيوني المجرم اليوم في قطاع غزة وجنوب لبنان وجنوب سوريا يعد تجسيدًا واقعيًّا لعقدة هذا الكيان وخوفه ورعبه الشديد من اتصال الروح الجهادية بجسد الأرض المقدسة المحتلّة، اعتقادا منه أن فعله الإجرامي القائم على الإبادة الجماعية والتدمير الشامل من شأنه أن يمنع ذلك الاتصال القادم حتمًا؛ فهذا الكيان المجرم يدرك تمامًا أن قوته وتحصيناته يمكن أن تنهارَ إذَا ما اتصلت الروحُ الجهاديةُ للأُمَّـة بالأرض المحتلّة، وأن تلك التحصينات ستنهار كما انهارت تحصيناته الخيبرية في الزمن الماضي حينما اتصلت بها الروح الجهادية.
ومثلما تعاقبت الأجيالُ اليهودية الصهيونية على مدى الزمن الماضي من بعد سقوط خيبر إلى زماننا الراهن، تعاقبت أَيْـضًا أجيالُ الأُمَّــة الإسلامية، وتعاقبت معها الروحُ الجهادية الإسلامية الإيمانية الحيدرية، ومهما تطورت وارتفعت وعلت التحصينات اليهودية الصهيونية الخيبرية العصرية، فَـإنَّ دكَّها وتحطيمَها مرهونٌ باتصال الروح الجهادية للأُمَّـة الإسلامية، وقد يقتضي الأمرُ إسقاطَ الشعوب لأنظمة الطوق التي تحولُ – مؤقّتًا – دونَ اتصال الروح الجهادية للأُمَّـة بالأرض المحتلّة.
ولعل اليهود الصهاينة يرصدون بحذر شديد تلك الإشارات القادمة من جنوب الجزيرة العربية، من يمنِ الإيمان والحكمة، المنادية لدولِ الطوق والمطالبة بفتح الخطوط المغلقة، لتتصلَ الروح الجهادية للأُمَّـة بالأرض المحتلّة، وهي نداءاتٌ كرّرها ويكرّرُها باستمرار السيدُ القائدُ عبدُ الملك بدر الدين الحوثي – يحفظه الله – لإدراكِه يقينًا أن تحصيناتِ وأسوار الصهاينة المجرمين لن يُسقِطَها فعليًّا إلا اقتحامُ عباد الله المؤمنين الصادقين، وَإذَا ما تحقّق اتصالُ روحهم الجهادية الإسلامية بالأرض المحتلّة تحقّق وعدُ الله بتطهيرها من دنس ورجس الصهاينة المجرمين، قال تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أول مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾. صدق الله العلي العظيم.