غزة.. حرب إبادة تسرق حتى ما يستر الجسد
في خيمة مهترئة على الأطراف الغربية لمدينة غزة، تجلس صباح إبراهيم، أم لخمسة أطفال، تخيط ما تبقى من ثياب قديمة لولدها، الحذاء الذي يرتديه بلا نعل. تقول بصوت حزين: “لا نبحث عن الجديد، فقط ما يسترنا”.
هذه الصورة الصغيرة تختصر مشهدًا أكبر بكثير؛ حرب إبادة دخلت شهرها الثاني والعشرين، لم تبقِ ولم تذر، حتى الملابس والأحذية صارت حلمًا بعيد المنال.
منذ اندلاع الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، دمّر جيش الاحتلال أكثر من 70% من البنية التحتية المدنية في غزة، بحسب الأمم المتحدة، وشرّد نحو 1.9 مليون إنسان — أي أكثر من 85% من سكان القطاع.
لكن الإبادة هنا لا تتجلى في القصف وحده، بل في الحصار الذي يطوق الحياة اليومية: الغذاء، الدواء، وحتى أبسط ما يستر الجسد.
جيش الاحتلال يمنع إدخال الملابس والأحذية منذ أشهر، بذريعة “الدواعي الأمنية”، ما أدى إلى أزمة غير مسبوقة.
وفي أسواق غزة القليلة التي ما تزال قائمة، لا يجد المواطنون سوى بقايا بضائع قديمة بأسعار فلكية: قميص مستعمل بـ 40 شيكلًا، وحذاء مهترئ قد يساوي قوت عائلة ليومين.
الحرب لم تقتل البشر فحسب، بل قتلت سبل العيش. وفق تقرير الأونكتاد (UNCTAD)، انكمش اقتصاد غزة بنسبة 81% في الربع الأخير من 2024، ليصبح أقل من سدس حجمه عام 2022، قطاع النسيج، الذي كان يوظف قبل الحصار نحو 35 ألف عامل، انهار تقريبًا: 95% من المصانع توقفت، ولم يبقَ سوى عشرات الورش الصغيرة التي تحاول البقاء بأدوات بالية ومواد شحيحة.
زياد عبد الفتاح، خياط سابق، يروي: “أحاول تفصيل ملابس لأطفالي من أقمشة ممزقة حصلت عليها من المساعدات، لكن لا تكفي، وحتى الإبر والخيط غالية”.
هذه ليست معاناة فردية، بل جزء من منظومة تدمير مقصودة للبنية الاقتصادية، تجعل الناس رهائن للمساعدات التي لا تكفي.
الأطفال هم الوجه الأوضح لهذه المأساة، في أحد مخيمات النزوح بمدينة غزة، يقف الطفل خالد (11 عامًا) حافي القدمين، بعدما لم يجد حذاءً يناسب مقاسه. تقول والدته: “ألفّ رجليه بأكياس نايلون أحيانًا، أو أتركه حافيًا حين يلعب”.
بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، هناك أكثر من 945 ألف شخص في غزة بحاجة عاجلة لملابس وأغطية وفراش ومستلزمات.
حين نتحدث عن “الإبادة”، يتبادر للذهن القتل المباشر، لكن ثمة إبادة صامتة تسلب الإنسان كرامته قبل حياته، الملابس والأحذية ليست ترفًا، بل هي عنصر أساسي للعيش بحد أدنى من الإنسانية.
منع إدخال هذه المستلزمات، إلى جانب الغذاء والدواء، يشكل شكلًا من أشكال العقاب الجماعي المحظور بموجب القانون الدولي الإنساني. منظمات مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية وثّقت أن هذه السياسات تهدف إلى إخضاع السكان المدنيين عبر إذلالهم وتجويعهم وإفقارهم.
وسط هذا الخراب، تظهر محاولات فردية للمقاومة، في خان يونس، أعاد بعض العمال فتح ورشة خياطة باستخدام آلات استخرجوها من تحت الأنقاض، الهدف ليس الربح، بل توفير ملابس أساسية وتوظيف بعض النازحين. لكن هذه المبادرات تبقى محدودة ما لم يُرفع الحصار، وتدخل المواد الخام بحرية.