لماذا أصابت إيران برفضها دعوة ترامب للعودة الى المفاوضات والمشاركة في قمة شرم الشيخ؟ وما هي الدوافع الحقيقية لهذا الرفض؟
عبد الباري عطوان
في وسط مهرجانات الحفاوة التي أقيمت للرئيس الأمريكي دونالد ترامب أثناء زيارته الأخيرة والقصيرة جدًا إلى المنطقة “احتفالا” بالتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، جرى فرضه بحرب إبادة وتجويع مارستها دولة الاحتلال الإسرائيلي على مدى عامين، وبتواطؤ ودعم مباشر مادي وعسكري من الضيف “العزيز” برز موقفان إيرانيان مشرفان في نظرنا: الأول: رفض إيران للدعوة التي وجهها إليها الرئيس ترامب بالعودة إلى المفاوضات مجددًا مع أمريكا أثناء خطابه الذي ألقاه في الكنيست الإسرائيلي، وحظي به بعدة جولات من التصفيق وقوفًا.
الثاني: اعتذارها عن قبول الدعوة التي بعثها إليها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للمشاركة في قمة شرم الشيخ للسلام التي تزعمها مع الرئيس ترامب، بحضور قادة وممثلي حوالي 20 دولة، كان من المفترض أن تكون إسرائيل من ضمنها.
إذا بدأنا بالشطر الأول، أي دعوة ترامب لإيران بالعودة إلى مائدة المفاوضات، فإن الرد القوي والمشرف والمفحم عليها جاء على لسان عباس عراقجي وزير الخارجية الذي قال فيه “لا يمكننا التعامل مع الذين هاجموا الشعب الإيراني، وما زالوا يهددون بفرض المزيد من العقوبات علينا”.
ويأتي موقف الوزير عراقجي منسجمًا مع موقف السيد الإمام علي خامئني المرشد الأعلى تجاه هذه المسألة، الذي قال “الشروط الأمريكية للحوار وإنهاء التوتر في العلاقات كانت مشينة ومبالغ فيها، وأبرزها وقف كامل لتخصيب اليورانيوم كليًا”، وتسليم 450 كيلوغرامًا من اليورانيوم المخصب، وأضاف “إن مشكلة طهران مع واشنطن أنها تريدها أن تتحول إلى تابع لأمريكا وأداة لها، وهذا مرفوض كليًا”.
أما الموقف الإيراني الثاني، أي الاعتذار عن قبول دعوة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لحضور “قمة السلام” في شرم الشيخ بحضور الرئيس ترامب، فكان موقفًا مشرفًا أيضًا، وكان هذا الرفض ليس ضد مصر، وإنما تجنبًا لمصافحة أو التقاط صور مع رئيس أمريكي ارتكب جريمتين رئيسيتين بحق إيران:
الأولى: في شهر حزيران (يونيو) الماضي عندما أرسل قاذفاته العملاقة لضرب المنشآت النووية الإيرانية دعمًا لعدوان إسرائيلي وبطلب وتنسيق مع نتنياهو، وجاءت النتائج عكسية.
الثانية: إلغاء الاتفاق النووي الذي جرى التوصل إليه من قبل الدول الست العظمى عام 2015، وفي عهد ولاية ترامب الأولى، وكان نتنياهو حريصًا على الإشادة وتقديم الشكر لترامب لإقدامه على هذه الخطوة بطلب منه أثناء خطابه في الكنيست، وإعادة الحصار والعقوبات على إيران، بهدف تجويع شعبها وتحريضه على “الثورة” والانقلاب على نظامه الحالي، والإتيان بنظام عميل لأمريكا، وكان هذا الإلغاء أعظم هدية لإيران والمرشد الأعلى خصوصًا.
القيادة الإيرانية، اتفق معها البعض أو اختلف، كانت مصيبة جدًا في مواقفها هذه، سواء الرافضة للاستجابة لدعوة ترامب للحوار، أو تجنب لقائه في قمة شرم الشيخ، والانضمام إلى جوقة النفاق له بالتالي، فكيف يهرول وفد إيراني للمشاركة في مفاوضات مع عدو (أمريكا) قصف بلاده بالصواريخ، ودماء شهدائه لم تجف بعد، وكيف يتواجد وزير خارجيته في قمة شرم الشيخ، كان معظم المشاركين فيها من الدول العربية المطبعة مع دولة الاحتلال احتفالًا بوقف إطلاق نار هش معها، لا نتوقع له أن يعمر طويلًا، ومن جولة واحدة فقط، ليس لوقف حرب الإبادة، وحقن دماء أبناء القطاع (70 ألف شهيد 20 ألفًا منهم من الأطفال)، وإنما للإفراج عن جميع الرهائن الإسرائيليين حتى يفوز “العريس ترامب بجائزة نوبل للسلام” سواء هذا العام أو القادم.
هذا الرئيس الأمريكي الذي حصل على أطنان من المديح سواء في الكنيست أو في شرم الشيخ، لم يعترف حتى هذه اللحظة بحل الدولتين، أو بارتكاب الجيش الإسرائيلي حرب الإبادة والتجويع في قطاع غزة، ولم يتردد لحظة في دعم قيام إسرائيل العظمى على حساب ست دول عربية وإسلامية، بل ومهد لها بمطالبته “بتسمين” دولة إسرائيل النحيفة، وتأييد ضم القدس الشرقية، ونقل سفارته إليها، وهضبة الجولان، والضفة الغربية، هذا الرئيس الذي تبنى السردية الإسرائيلية باغتصاب منفذي عملية “طوفان الأقصى” قبل عامين، لفتيات يهوديات وإحراق أطفال رضع أحياء في الأفران، وقدم 26 مليار دولار دعمًا للعدوان الإسرائيلي في غزة ولبنان واليمن وإيران، ورفع الحظر عن تزويدها بالأسلحة الفتاكة المتطورة، هذا الرئيس لا يستحق المصافحة، ولا المجاملة، بل يستحق النبذ، وما هو أكثر من ذلك، ويعفو لساننا وأدبنا عن ذكره.
حرب الـ12 يومًا الأخيرة التي استنجدت إسرائيل طوب الأرض لوقفها بعد أن دمرت الصواريخ الإيرانية المتطورة نصف تل أبيب الجنوبي، ومعظم معهد وايزمان للتكنولوجيا في قلبها، وقتل وإصابة مئات المستوطنين، هذه الحرب وتطوراتها هي التي دفعت ترامب لمطالبة إيران بالعودة إلى المفاوضات، لأنه يريد إنقاذ “إسرائيل” وإطالة عمرها، والقواعد الأمريكية في المنطقة، وحلب حفنة جديدة من التريليونات العربية لإنقاذ الاقتصاد والدولار الأمريكي من الانهيار.
الحرب القادمة والوشيكة لن تكون مثل معظم الحروب السابقة طريقًا من اتجاه واحد، فالمقاومة الفلسطينية باقية وتحكم وتتوسع، واليمنية مستمرة بقوة، واللبنانية عائدة حتمًا، والصواريخ والغواصات الإيرانية تتطور، والخلطة النووية جاهزة أوشكت على النضوج الكبير.. والأيام بيننا.