اتفاق شرم الشيخ: خطة لإعادة هندسة الشرق الأوسط وتصفية جوهر القضية الفلسطينية

اتفاق شرم الشيخ:

بين هندسة واقع جديد وإقصاء الفلسطينيين من المشهد السياسي

ما غاب عن خطاب ترامب أخطر مما ورد فيه

الحقيقة ـ جميل الحاج

لم يكن ما جرى في شرم الشيخ اختراقاً سياسياً بقدر ما كان إعلاناً عن واقع جديد يُعاد تشكيله بعيداً عن جوهر القضية الفلسطينية.. فالقمة التي جمعت أكثر من ثلاثين زعيماً عربياً ودولياً، إلى جانب توقيع اتفاق “وقف الحرب في غزة” برعاية أمريكية، بدت في ظاهرها لحظة سلام، لكنها في جوهرها إعادة توزيعٍ للأدوار وموازين القوى بما يخدم المشروع الأمريكي –الإسرائيلي في المنطقة.

خطاب بلا فلسطين.. ومقاربة بلا دولة

اللافت في خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المرافق للاتفاق، أنه تجنّب تماماً الحديث عن أي أفق سياسي للفلسطينيين. لا ذكر لحلّ الدولتين، ولا للسلطة الفلسطينية، ولا حتى لعبارات بروتوكولية كانت الإدارات الأمريكية السابقة تكررها في كل مبادرة “سلام”.

الخطاب بدا كأنه يتعمد إقصاء الفلسطينيين كطرف سياسي، ويحوّلهم إلى “ملف أمني وإنساني” يمكن التعامل معه عبر إدارة منفصلة في غزة، وأخرى منزوعة السيادة في الضفة.

في المقابل، ركّز ترامب على “المسار الإقليمي” كعنوان رئيسي، محدداً هدفه في توسيع اتفاقيات أبراهام واستقطاب أطرافٍ عربية وإسلامية جديدة إلى دائرة التطبيع. بهذا المعنى، لم يكن الفلسطينيون جزءاً من الحل، بل العقبة التي يجب تجاوزها لضمان استمرار هذا المشروع.

اتفاق بلا حرب.. لكنه أيضاً بلا سلام

الاتفاق الذي وُقّع في القمة، بحسب الوثيقة الرسمية، “يضع حداً لعامين من المعاناة والخسائر” ويفتح فصلاً جديداً من “السلام والازدهار المشترك”., لكن القراءة المتأنية تُظهر أنه ليس إعلاناً عن نهاية حرب بقدر ما هو إعادة تنظيمٍ لها.

فالمستوى الأمني لم يُرفع عن الطاولة، بل أُعيد توصيفه بطريقة تُبقي العمليات العسكرية مفتوحة ضمن الأطر الأمنية الميدانية، تصريحات وزير جيش الاحتلال حول استمرار تدمير الأنفاق في إطار نزع السلاح تكشف أن النزاع لم يتوقف، بل غيّر شكله فحسب.

بكلمات أخرى، ما يُسمّى بـ اتفاق شرم الشيخ ليس سلاماً، بل هدنة مؤقتة مغلفة بخطاب دبلوماسي ناعم، تسمح لواشنطن وتل أبيب بإدارة الميدان بأقل كلفة سياسية وإعلامية.

غزة ككيان إداري منفصل.. والضفة خارج المعادلة

أخطر ما في الاتفاق أنه يتعامل مع غزة بوصفها كياناً إدارياً قابلاً للإدارة المحلية، لا جزءاً من كيان وطني جامع، فالخطة تطرح تشكيل إدارة فلسطينية انتقالية لإدارة شؤون القطاع، من دون أي التزام بأن تكون هذه الإدارة ممثلة للشعب الفلسطيني أو مرتبطة بمشروع الدولة.

هذا التوجّه يعني عملياً تكريس الفصل الجغرافي والسياسي بين غزة والضفة، وتحويل القضية الفلسطينية إلى ملفين منفصلين: أحدهما أمني إنساني، والآخر إداري اقتصادي.

اللقاء الأخير بين حسين الشيخ وتوني بلير عكس استعداداً في بعض الأوساط الفلسطينية الرسمية للتعاطي مع هذه الصيغة كـ فرصة لضمان البقاء المؤسسي ، لا كمدخل لاستعادة الحق السياسي.

(إسرائيل) تنفّذ “لا حماسستان ولا فتحستان”

من الجانب الإسرائيلي، يُترجم الاتفاق رؤية بنيامين نتنياهو القديمة: “لا حماسستان ولا فتحستان”، فـ (إسرائيل) ترفض الاعتراف بأي دولة فلسطينية، وتواصل الضم التدريجي للضفة الغربية كأمرٍ واقع، فيما تدفع غزة نحو إدارة معزولة خاضعة للرقابة الأمنية.

النتيجة المرجّحة هي إعادة تعريف الفلسطينيين بوصفهم “سكاناً” لا  شعباً ، أي تجريدهم من حقهم في تقرير المصير وتحويلهم إلى ملف إداري ضمن ترتيبات أمنية إقليمية.

الدور الأوروبي: حضور باهت وشروط مسبقة

وجدت أوروبا نفسها أمام مشهدٍ لا تملك أدوات تغييره، فرنسا حاولت حشد اعتراف دولي بالدولة الفلسطينية، ورئيسة المفوضية الأوروبية طالبت بمقعدٍ على طاولة إدارة القطاع. لكن أي دور أوروبي سيأتي ضمن الشروط الأمريكية الإسرائيلية، لا في إطار شراكة مستقلة أو رؤية مغايرة.

السؤال الذي يواجه الأوروبيين اليوم ليس ما إذا كانوا يعترضون، بل: ما الثمن الذي سيدفعونه للقبول؟ وهل لديهم القدرة أصلاً على فرض مسارٍ بديل لما ترسمه واشنطن وتدعمه تل أبيب؟

التهدئة كغطاء لاستكمال المشروع

التجارب الفلسطينية السابقة تُظهر أن ما بعد التهدئة غالباً ما يكون أخطر من الحرب نفسها، فحين تتوقف الصواريخ، تُستأنف السياسات على الأرض بصمتٍ: الاستيطان، المصادرة، وتغيير الواقع الديموغرافي.

اتفاق شرم الشيخ لا يشير إلى تسوية نهائية، بل إلى إدارةٍ متعددة المستويات للصراع: أمنية، إدارية، إقليمية، ودولية، جميعها تتجنب الاعتراف بأي مسار سياسي أو حقوق وطنية للفلسطينيين.

سلام يُعيد إنتاج الصراع

الخطورة في المسار الجديد أنه يُقدَّم كـ حلٍّ ضروري لإنهاء الحرب، فيما هو في الحقيقة إعادة إنتاجٍ للصراع بأدواتٍ مختلفة، فلا يمكن الحديث عن “نزع سلاح” من دون سيطرة ميدانية، ولا عن “إدارة مدنية” من دون تمثيل سياسي.

الاتفاق يرسّخ فكرة أن الاحتلال يمكن أن يستمر من دون احتلالٍ مباشر، عبر أدوات أمنية محلية ودعمٍ إقليمي ودولي يضفي عليه طابع “الاستقرار”، إنها صيغة “سلام اقتصادي” بنكهة أمنية، تستبدل الحقوق بالمعونات، والسيادة بالإدارة، والدولة بالمنطقة الصناعية.

القمة من أجل السلام أم لإعادة هندسة الشرق الأوسط؟

القمة التي عُقدت في منتجع شرم الشيخ جاءت تحت عنوان “قمة شرم الشيخ للسلام”، برئاسة مشتركة للرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي والأمريكي  دونالد ترامب، وبمشاركة قطر وتركيا وفرنسا والأردن والعراق وبريطانيا وإيطاليا وأكثر من ثلاثين وفداً دولياً.

الوثيقة التي وقّعها الرؤساء المشاركون رحّبت بـ الالتزام التاريخي  والرؤية المشتركة للسلام والازدهار، وتعهدت بـ“القضاء على التطرف” و“تعزيز التعاون الإقليمي”، لكنها، في المقابل، لم تتضمن أي التزام سياسي واضح تجاه إقامة الدولة الفلسطينية أو حتى جدول زمني للانسحاب الإسرائيلي.

بنود الاتفاق شملت وقف الحرب، وتبادل الأسرى، وإدخال المساعدات الإنسانية، وتشكيل إدارة فلسطينية انتقالية في غزة، أي خطوات تقنية أكثر منها سياسية. وهنا تكمن المفارقة: فبينما يروّج ترامب للاتفاق كإنجازٍ تاريخي، تتعامل تل أبيب معه كفرصة لترتيب ساحتها الداخلية ومواصلة السيطرة الهادئة على الأرض.

بين خطاب الأمل وواقع التجاهل

نصّت الوثيقة على “احترام الكرامة الإنسانية وتكافؤ الفرص لكل إنسان”، وعلى “رؤية شاملة للسلام المستدام في غزة”، غير أن اللغة الوردية للوثيقة لا تحجب الفراغ السياسي الذي تركه غياب أي التزام حقيقي بحقوق الفلسطينيين.

الواقع أن ما غاب عن خطاب ترامب كان أخطر مما ورد فيه: غياب الدولة، غياب الحق في العودة، غياب الحديث عن القدس، بل وحتى غياب الإشارة إلى الاحتلال ذاته. وكأن المشكلة ليست في وجود الاحتلال الإسرائيلي، بل في طريقة إدارة الفلسطينيين لحياتهم اليومية.

ورغم مظاهر الاحتفال، يدرك الجميع أن اتفاق شرم الشيخ هشّ ومؤقت، فالقضية الفلسطينية لا يمكن اختزالها في ترتيباتٍ إنسانية أو أمنية، وإن لم يُدعم الاتفاق بخطواتٍ جادة نحو إقامة الدولة الفلسطينية وتقييد آلة الإبادة الإسرائيلية، فإنه سيتفكك عاجلاً أم آجلاً.

فالرهان على “إدارة الواقع” بدلاً من حله لا يصنع سلاماً، بل يؤجّل الانفجار القادم، وما لم يُعَد الاعتبار للبعد السياسي والوطني للقضية الفلسطينية، فسيظل كل اتفاقٍ جديد  مهما حمل من وعودٍ بالازدهار والسلام  مجرد غطاءٍ لواقعٍ أكثر قسوة تُعاد هندسته فوق أنقاض العدالة.

قد يعجبك ايضا