هل ستنقذ هذه الهدنة مستقبل المشروع الصهيوني؟

هل ستنقذ هذه الهدنة مستقبل المشروع الصهيوني؟ ماذا يقول الاتزان الكيميائي للمفاوضات والمعارك وحقوق الشعب الفلسطيني؟

خالد شحام*

مرة أخرى يا شارع الرشيد تتصدر مشهد السعادة وفرحة الحياة المنتزعة من قلب الموت، مرة أخرى تنتصر بمسيرة العودة الخالــدة والصبر على الألم طيلة سنتين، هنيئاً لكم يا أهل غزة يا أهل الصمود والبطولة والإيمان، مرة أخرى ترفعون شارة النصر برجوع أهل الدار والانتصار على مشروع الإبادة لنتانياهو ومشروع التهجير لترامب ومشروع الاستسلام لحكام العرب.

نعايش اليوم وقف إطلاق النار وفق خطة الرئيس ترامب السياسي الذكي جداً والباحث عن السلام، ولا شيء يشبه خطة ترامب للسلام سوى ذلك الرجل الذي يريد الوصول إلى حفلةٍ ما وهو متأخر جداً، لذلك لبس بذلته بسرعة دون تفكير، وقام باستنفار زوجته وبناته على عجالة لتوضيب أمورهن وارتداء ملابسهن ووضع المكياج خلال خمس دقائق للانطلاق بأقصى سرعة، وهو لا يعلم كيف ستتسع السيارة لكل هذا العدد ولا الطريق الذي سوف يسلكه، ثم أخذ يعلن للجميع بأنه جاهز للحفلة ومستعد للتألق فيها ولكنه تفاجأ بأن الحفلة انتهت لدى وصوله.

على الرغم من فرحتنا الحذرة وسعادتنا بالفرج عن أهلنا في غزة وتوقف الغارات والقصف إلا أن هذه الفرحة تشوبها مساحات غائمة ومناطق غير مفهومة ولا هي مأمونة، والخوف هنا ليس هدفه التنغيص أو الطعن أو تجاوز ما قررته المقاومة التي خاضت معركة الحياة ولكنه مبدأ المؤمن الذي لا يلدغ مرتين من نفس الجحر، نعم لقد قدمت المقاومة أداءها المتوقع في المفاوضات وندرك تماماً أنها المؤتمنة والحريصة على شعبنا ومصيرنا وحياتنا، لكننا ندرك في ضمير الغيب بأن هذه المفاوضات والوجوه التي تديرها وتخطط فيها إنما تحاول الاستحواذ على النتيجة النهائية لمعركة غزة وتحاول الإحاطة بالثمار والمخرجات المحلية والعالمية التي صنعتها المقاومة وصمود أهلنا في القطاع، لقد شعرت بحسرة هائلة وأنا أشاهد طاولة المفاوضات التي يجلس عليها أربعة من قادة المقاومة وحيدون يتامى محاطون بوجوه الحلف العالمي للقضاء على المقاومة ومحاطون بمؤامرات وقرارات تكفي لتدمير بلاد بأكملها، إن خطة ترامب المقدمة على عجالة وبهذا الشكل تقدم نموذجاً مثالياً للعقلية والإدارة الكارثية التي تقعد مقعد الرئاسة في أمريكا وتقدم نموذجاً فجّاً من انعدام الحرفية السياسية حتى في حدها الأدنى، وتقدم نموذجاً لمجموعة من تجار البندقية الهواة الذين يجمعهم نهم الثروة والجشع ومستعدون لاعتناق عقيدة الشيطان بنفسه مقابل ذلك.

ما هي النتائج والمكتسبات الشكلية التي حققها حلف الشر من خلال هذه الصفقة أو الهدنة؟

1- إن مشروع “حيونة العرب والمسلمين” تم تطبيقه بالتمام والكمال، والخارطة الوحيدة التي لم تخضع لهذا المفهوم هي غزة وأهلها، والمجموعة (لبنان – اليمن – إيران والشعوب التي ثارت ضد الصهاينة) التي قاومت هذا المفهوم الإسرائيلي طيلة سنتين كاملتين وثبتت ولم تتنازل فيما استمرت بقية الشعوب في الخضوع واستمراء الهزيمة وقبول الجرائم وفقاً للأمر الإسرائيلي الذي يقضي بأنه محكوم علينا العيش ضمن ثلاثية الحيونة التي بشر بها غالانت في بداية العدوان: الطعام – الشراب – المتعة ومحظور ما عدا ذلك.

2- إن هذا الاتفاق المصنوع كما يزعم وفقاً لطبخة ترامب السياسية لا يمكن أن يكون مظهراً للسعي نحو حلولٍ أو سلامٍ أو أمانٍ دائم كما يروج، إنه اتفاق هشٌّ سريع الكسر ولا يحمل أي نوع من كفالة أو ضمانة من طرفٍ مشهود له بالوثوقية أو الطمأنينة أو ثبات الرأي، خاصة في وجود عالم أصبح بلا قوانين وتلاشت منه الأمم المتحدة ومجلس الأمن، بما يعني أن لغة التهديد والوعيد والفكاك من التعهدات لا تزال هي مادة البناء اللاصقة لهذا الاتفاق والذي يبدو أنه تم سلقه على عجالة للحاق الحفلة ولا تهم أي من تبعاته عقب الانتهاء من مرحلته الأولى، بمعنى أن الهدوء الذي يسود غزة حالياً ليس سوى هدوء اضطراري لتحرير الأسرى فقط وما بعد ذلك لا يمكن إلا توقع عكسه أو بنسخته من اتفاقية السلام اللبنانية.

3- إن شكل الحالة العربية الرسمية الحالية يُعد نصراً خفياً وثابتا للكيان ولم يطرأ عليه أي نوع من التغيير في الولاء أو التمرد على الهيمنة والإملاءات الأمريكية، بما يعني أن حلف الولاء العربي للصهيونية الأمريكية لا يزال بخير وثابتاً على عهوده واتفاقاته ولم تحدث أية بوادر انقلابات أو تفلت، ولذلك فغزة لا تزال تحت الحصار العربي بالمطلق والمنطقة العربية لا تزال مغلقة بالختم الأمريكي – الصهيوني إلى إشعار آخر.

4- إن هذا الاتفاق ليس محمياً بأي شكل من الأشكال من القوى الكبرى عالمياً أو إقليمياً، إن غياب الصين وروسيا في هذا الاتفاق يمثل مظهراً سياسياً فارغاً لمثل هذا النوع من المفاوضات الذي تعدى مكانته وحجمه الإقليمي وأصبح يمس البعيد والقريب، إيران التي لها صلة ضليعة في هذا الصراع لم تُدع إلى الاتفاق ولم تكن جزءاً من الرؤية أو الرأي فيه، ولم يتم بحث التهديدات بضربها أو طمأنتها، تركيا بوصفها الطرف الأقوى الحاضرة ليست إلا جزءاً من المظلة الأمريكية التي ترى مصالحها ضمنها ولا يمكن احتسابها لصالح الاتفاق.

5- هذا الاتفاق لا يمكن أن يمهد لأي نوع من السلام الدائم أو الحلول الثابتة، إنه مجرد جرعة مخدر مضافة لجرعات المخدرات التي تطلع بها سائر المفاوضات التاريخية التي جرت سابقاً ثم عادت في النهاية إلى نفس الموضع أو أكثر منه سوءاً، أي تفاوض أو حلول أو مقترحات لا تقود إلى إحقاق العدالة وإعادة الأرض والشرعية لأصحابها ليست سوى مجرد جرعات مسكنة عابرة لا تتمتع بأي نوع من الاستقرار أو الديمومة، هذا الاتفاق يقدم وعوداً جوفاء بالنظر في حل الدولتين ويطرح حلولاً مجحفة وغير عادلة وظالمة لشعب تم حرقه وقصفه وقتل أطفاله ونسائه وتجويعه وحرمانه من الأمن طيلة سنتين في أشد عدوان وحشي عرفته البشرية، ثم يُعلن علينا بأن أمثال توني بلير وكوشنر وساويرس الصهيوني سيُخصص لإدارة أمور القطاع ونزع سلاحه وإعادة هندسة وعيه ومستقبل صغاره وثقافته العربية الإسلامية، إن هذا الاتفاق مجرد بناء من كرتون النفايات التي جمعها ترامب بسرعة وألصقها باستخدام بصاقه لصنع سقيفة تناسب رؤيته وتفتقر إلى أي نوع من العدالة وتحقيق الاتزان، أين هي محاسبة المجرمين والقتلة على ما فعلوه في غزة؟ من يعوض هؤلاء الناس الذين فقدوا أطفالهم ونساءهم ورجالهم وبيوتهم وكل ممتلكاتهم ليس في غزة فقط بل في لبنان واليمن وسوريا وإيران؟ من سيحاسب أمثال ترامب وقادة أوروبا والحلف الصهيوني على تصريحاتهم وسيل الأموال بالمليارات التي دُفعت على شكل أسلحة ودعم لوجستي لإتمام أعمال الإبادة بحق أهلنا في غزة؟ من يحاسب الأنظمة العربية التي تواطأت وأغلقت البوابات على أهل غزة وحرمتهم من أي تعاطف أو مساعدة؟ من يعيد كرامة الناس التي انتهكها المجرمون بالاعتقال والتعذيب والتغييب القسري؟ من يحاسب هؤلاء المجرمين على قصف المستشفيات ودور العبادة وخيام النازحين وقتل الناس عند مراكز توزيع المساعدات؟

من الجهة المقابلة لهذه الإنجازات الصهيونية، هناك الحقائق التي تقف بالضد والتي لا يمكن التغاضي عنها أو إهمال ثقلها في المرحلة القادمة:

1- لم تكن الاستراتيجية الصهيونية فقط هي الفاشلة في التعاطي مع أحداث 7 أكتوبر وملف غزة، بل هناك فشل مدوٍ بنفس الموازاة مثبت بحق السياسات الأمريكية على كل الصعد وكل الملفات، ويكتشف العالم المذهول خلال هذه الشهور بأن النهج الأساسي الذي تراه في سياسات هذا البلد أصبحت سياسة البلطجة والزعرنة والإتاوة، هذه الاندفاعات الترامبية لم تعد بعيدة عن دفع البلاد لاضطرابات ومعارضات هائلة لسياساته التي أصبحت محور الحديث الإعلامي الداخلي حول نفوذ اليهود وتأثيرهم على قرارات أمريكا والتساؤل عن مؤهلات ترامب أو خطورته في قيادة البلاد.

2- إذا كان من أحدٍ يعتقد أن جريمة الإبادة واقعة في تأثيراتها على الشعب الفلسطيني فقط فهو مخطئ تماماً، هناك تأثيرات مرعبة قادمة على الداخل الصهيوني في عقيدته وتداعيات ردود الفعل العالمية والمأزق النفسي والإحساس بعقدة الذنب الثقافية والإحساس بسقوط الركائز التاريخية للرواية اليهودية، وسوف يكون رد الفعل لهذا الذعر الداخلي الإطاحة بالظاهرة النتنياهوية والسموتريشية وانحدار أسهم هذه الظاهرة حتى في الداخل الصهيوني وصعود الانعكاس التام لسلوكهم الإجرامي، لذلك ليس من المتوقع النجاح الكامل لمسار الخطط المرتبة من جهلة وأثرياء وتجار عقارات.

3- يطيب للمجرم نتانياهو كلما وقف أمام ميكروفون الأخبار ترديد عبارة “لقد قطعنا رأس حماس ورأس حزب الله وأطحنا بإيران راعية الإرهاب ومشروعها النووي”، السؤال هنا إذا كان قد قطع رأس حماس فمن هي الجهة التي تفاوض معها في حصوله على أسرى على طاولة المفاوضات؟ وإذا كان قد قطع رأس حزب الله فلماذا تجري الاستعدادات لغزو لبنان؟ وإذا كان قد دمر المشروع النووي الإيراني ولقن إيران الدرس القاسي مع صديقه ترامب، فلأجل ماذا يتم الإعداد لعدوان جديد على إيران وعلى ماذا يتفاوض الأوروبيون مع الإيرانيين؟

4- إن الجريمة الصهيونية في غزة طيلة سنتين تم توثيقها بالتصوير ومقاطع الفيديو والبث المباشر وبشهادات واسعة النطاق من كل الجهات الأممية والفردية والإعلامية، إنها جريمة متكاملة الأركان والدلائل لا يمكن محوها بالضحك على التاريخ والضحايا وبمال الأثرياء الصهاينة عرباً وغرباً، هذا الرصيد الموثق سيكون عبئاً هائلاً على الكيان بكل مجرميه السياسيين والعسكريين والتاريخ سوف يحاكم كل هذه الطبقة ومن شاركهم بالدعم والتأييد المادي والمعنوي.

5- لقد خسر المجرم ترامب أحلامه في نيل جائزة نوبل للسلام والتي أصبحت هوساً كابوسياً في سيرته، وهذه الخسارة ستكون حافزاً وضاغطاً على ذهنيته لاستمرار الحفاظ على تماسك وقف إطلاق النار في غزة ومحاولة توفير مظلة معقولة السياسة حيال هذا الملف لكي يضمن إعادة ترشحه للعام القادم كما يتوقع.

يعد مفهوم الاتزان أحد المفاهيم المفتاحية في هذا الكون، ليس فقط في الحيز العلمي والتطبيقي في العلوم المختلفة بل هو مفهوم يتعدى الحدود السطحية للفهم، والاتزان هنا يعني وصول الأنظمة المادية وغير المادية إلى حالة عدالة التوزيع وعدالة النتائج ضمن سنن الكون وأنظمته وقوانينه، وتخضع كل ظواهر الكون بمعانيها الفلسفية لهذا المفهوم وتسير تحت قوته حتى دون أن تدري.

إن انزياح الاتزان في المعادلة الكيميائية للتركيبة الترامبية وخطته للسلام لا وجود له، إنها معادلة مكسورة فرضها الهزال العربي للشعوب والتآمر الرسمي على المقاومة التي قاتلت بإباء وعزة ولم تتنازل ولم تتغير في منهجها أو عقيدتها، إنها معادلة غير متزنة ولا نزيهة لم تُشبع المجرم حقه من العقاب ولا الضحية حقها من العدالة والتعويض لكنها مفروضة تحت حصار محكم من قوى الشر المتربصة تحت أنين المعذبين والمشردين والجرحى في قطاع غزة المكلوم، إنه اتزان مفقود لكيان يحاول التشبث بالبقاء والديمومة باستخدام القتل والتدمير والاغتيال والغدر والنذالة الأخلاقية لكنه جوبه بالصمود البطولي في غزة ولبنان واليمن، ورفض عالمي أدرك الحقيقة المريعة لهؤلاء المجرمين وعرف ما يحملونه من حقد وكره وتعالٍ على البشرية جمعاء.

في الحقيقة نحن لسنا الخائفين الأكبر في هذه الصفقة الترامبية، لسنا الخائفين من تجدد العدوان وانهيار وقف إطلاق النار الإجرامي، الكيان وحلفاؤه وعصاباته هم الخائفون من هؤلاء الراجعين عبر شارع الرشيد الذي أعلن للتو أنه لم ولن يستسلم مهما فعلوا، هؤلاء المجرمون هم الخائفون من قادم الأيام مما ينتظرهم من السوء والأيام السوداء.

إن الاتزان الحقيقي للمعادلة الفلسطينية محمول في صدور الجيل الجديد وصدورنا جميعاً وصدور العالم الحر، حيث لا يمكن أن ننسى أو نسامح أو نغفر ما فعلوه في غزة وفي شعبنا، إنه ثأر محمول في ضمير هذا العالم شرقه وغربه حتى لو طال الزمان حتى ينالوا العقاب الذي ينصف الشهداء وأرواح الأطفال وتراب غزة المقدس.

*كاتب عربي من فلسطين

قد يعجبك ايضا