هيكل الصمود.. كيف حوّلت غزّةُ اليأسَ إلى إعجاز؟!
عدنان عبدالله الجنيد
في زمنٍ تتهاوى فيه الجيوش أمام صفعات الحصار، وتنحني إرادات الدول على طاولات المساومات، تتقدّم غزّة من تحت الرماد كأنها معجزة العصر، شمس لا تُغلب، ونبض لا يخفت.
فكيف استطاع هيكل الصمود أن يُذهل العقول، ويُربك مراكز القرار، ويُعيد تعريفَ المقاومة في زمن القوة العمياء؟
بين المطرقة والسندان.. أين يكمن سر البقاء؟
أليست الحسابات المادية تقول إن الحصار يقتل، والقصف يُفني، والعزلة تُحطّم؟
فكيف إذن ظلّت غزّة تنبض بالحياة، تُدار بعقل منضبط، وتنهض من تحت النار بإتقان إداري يربك العدوّ قبل الصديق؟
إنه الهيكل التنظيمي الفريد الذي نجح في الجمع بين روح الجهاد وإتقان الإدارة؛ حَيثُ تتحَرّك الفرق الميدانية بدقة الساعات السويسرية، وتُدار خطوط الأنفاق كأنها شرايين جسد واحد نابض بالحياة.
منظومة الإيمان والإدارة:
ليست المقاومة في غزّة مُجَـرّد بندقية تُطلق، بل منظومة وعي وتنظيم تُفكّر وتُخطّط وتُنتج.
فهنالك وحدات متخصّصة تتولّى تسليم الأسرى في إطار إنساني منضبط، وفرق ميدانية تُحافظ على الأمن الداخلي والأسواق وسط ألسنة اللهب، وطاقم إداري يُنسّق حركة الإمدَادات عبر الأنفاق كأنه يُدير دولة تحت الأرض!
أمّا الإعلام المقاوم، فقد صار جيشًا من الوعي، يوازن بين حق الجمهور في المعرفة ومتطلّبات الأمن الميداني.
كُـلّ صورة تُبثّ بميزان، وكل كلمة تُقال بوعي.
يصنعون الرأي العام بذكاء، فيوجّهون ضربات الوعي قبل ضربات الصواريخ.
وهكذا تُخاض الحرب بالسلاح والإعلام والفكر في آنٍ واحد.
من تحت الأرض.. تُصاغ معادلات السماء:
في باطن التراب الذي أرادوه مقبرة، صنعت غزّة عاصمة من العزم، ومدّت خطوط الأمل في أنفاق تشبه شرايين الأُمَّــة.
هناك، حَيثُ يتوقف المنطق المادي، يبدأ منطق الإرادَة والابتكار.
لقد حوّلوا الحصار إلى مدرسة في التنظيم، والضغط إلى طاقة إنتاجية، واليأس إلى وقود للنهضة.
فهل رأى العالم يومًا جيشًا من الظروف يصنع المستحيل؟
وهل أدرك الاستكبار أن هذا الشعب المحاصر لم يَعُد يُدار بالقوة، بل يُلهم بها العالم؟
المفاوض المقاوم.. وكرامة السياسة:
في ميدان السياسة، تُثبت غزّة أن المفاوضات ليست انحناء، بل امتداد للمعركة بوسائل أُخرى.
إنها تفاوض من موقع الندّ للندّ، تُدير مِلف الأسرى بعين المقاتل لا بلسان الدبلوماسي، فتُرغم العدوّ على الاعتراف بأن الإرادَة لا تُقصف، وتُجبره على الجلوس إلى طاولة يعلم أنها منحوتة من خشب المقاومة.
رسالة إلى العالم المادي: من أين تأتون بهذا الثبات؟
كيف يمكن لإنسان أن يُنظّم السوق بينما الصواريخ تُغنّي فوق رأسه؟
كيف يمكن لطفل أن يبتسم والعالم كلّه يتداعى حوله؟
أليست الحياة تحت القصف أعظم معجزة إنسانية؟
لقد سقطت مقاييس “القوة” الغربية، وتهاوت فلسفة “الردع” الأمريكية أمامَ طفلٍ فلسطيني يحمل في يده اليمنى قلمًا يصنع مستقبلًا، وفي يده اليسرى حجرًا يدافع عن حقه في أن يكون!
للتاريخ كلمة أخيرة:
ما يجري في غزّة ليس حربًا فحسب، بل ثورة في المفاهيم، ودروس في القيادة والإدارة والإيمان تحت النار.
لقد أثبتوا أن التنظيم إذَا اقترن بالمبدأ، والإيمان إذَا تماهى مع الوعي، صنعا إعجازًا يتجاوز حدود الممكن.
إنها تجربة تستحق أن تُدرّس في جامعات الحرب والإدارة والإنسانية.
فحين تُدار دولة تحت الحصار، وتُربك منظومات الاستخبارات العالمية، ويتحوّل الألم إلى طاقة للخلق والبناء، فذاك هو الإعجاز الفلسطيني بعينه.
تحية إجلال لأمة لا تنكسر:
تحية لغزّة التي حوّلت حجارة الحصار إلى سُلّم للمعجزات، وعلّمت العالم أن المستحيل مُجَـرّد وهم في قاموس الإرادَة، وأن من يؤمن بعدالة قضيته لا يُهزم، ومن يختار طريق العزة لا يضلّ مهما اشتد الظلام.
«لا يضرّهم من خذلهم، ولا من خالفهم..؛ لأَنَّهم اختاروا طريقَ الله، ومضَوا فيه بثبات لا يُهزَم».