اتفاق غزة بين الانفراج والتعثر .. واقع التنفيذ والمالات المحتملة
الحقيقة ـ جميل الحاج
حتى الآن، يبدو أن اتفاق التهدئة بين كيان الاحتلال الإسرائيلي من جهة، وبين حركة المقاومة الإسلامية “حماس” من جهة أخرى، قد قطع شوطًا أوليًا كبيرًا لصالح العدو الإسرائيلي في تسليم الأسرى الإسرائيليون، وفقا للمرحلة الأولى ضمن الاتفاق المسماة بـ (خطة ترامب).
ووفقا لما أعلن عنه رسميًا، سلّم الاحتلال أسراه الأحياء من قطاع غزة، وعددهم عشرون أسيرًا، جميعهم في حالة صحية جيدة، مقابل إطلاق سراح عدد غير قليل من الأسرى الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية. كما نفّذ الاحتلال انسحابًا جزئيًا من مناطق داخل القطاع، لكنه ما زال يحتل ما يزيد عن 50% من أراضي غزة.
وفي المقابل، تسلّمت “إسرائيل” عشر جثث فقط من أصل 28 جثة تعود لأسرى إسرائيليين قضوا خلال المعارك، معظمهم نتيجة القصف العنيف الذي شنّه الاحتلال على الأنفاق والمباني، في إطار عملياته الهجومية على القطاع لعدم وجود المعدات الضرورية لرفع الأنقاض واخراج الجثامين من تحت الركام. هذا الملف أي جثث الأسرى سرعان ما تحوّل إلى نقطة اشتباك سياسي وأمني.
وبعد استكمال المرحلة الأولي بالأفراج عن أسرى العدو، والمعتقلين الفلسطينيين، وجه الاحتلال الإسرائيلي بوقف وصول المساعدات لقطاع غزة حتى إشعار آخر، وقررت إغلاق جميع معابر القطاع، فيما شنت طائرات الاحتلال الإسرائيلي عشرات الغارات على مناطق في القطاع مما أدى إلى استشهاد عدد من الفلسطينيين وإصابة آخرين.
تعثر في تسليم الجثث واتهامات متبادلة
في بيان صادر عن حركة حماس، أكدت الأخيرة أنها لم تعد تحتفظ بأي جثة لأسير إسرائيلي، موضحةً أن بقية الجثث لا تزال تحت الأنقاض، وأن الوصول إليها يتطلب معدات خاصة وموارد غير متوفرة لديها حاليًا، بفعل حجم الدمار الهائل الذي لحق بالقطاع، والذي جعل من انتشال الشهداء الفلسطينيين أنفسهم مهمة مستحيلة.
كما كشفت الحركة أن نحو 10 آلاف شهيد فلسطيني ما زالوا مفقودين تحت ركام المباني المدمرة، في مشهد إنساني كارثي يعكس حجم الكارثة التي خلّفها العدوان.
بالمقابل، عبّرت الجهات الرسمية في كيان الاحتلال عن امتعاضها من أداء حماس، واعتبرت أن الأخيرة لا تبذل جهدًا كافيًا لانتشال جثث الأسرى الإسرائيليين، ما يُعدّ من وجهة نظرها خرقًا لأحد أبرز بنود الاتفاق.
المرحلة الثانية: انحسار في الالتزام
ردًا على ما اعتبرته “خرقًا”، قلّصت (إسرائيل) إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة إلى النصف، ومنعت دخول مواد البناء والوقود، وشدّدت من إجراءاتها العسكرية، خاصة في مناطق شرق غزة وشرق خان يونس. في تلك المناطق، فتحت قوات الاحتلال النار على المدنيين العائدين إلى منازلهم، بزعم أنهم تجاوزوا خطوطًا وهمية وضعها الجيش، على الرغم من صعوبة التعرّف على هذه الخطوط وسط الدمار الهائل الذي غيّر معالم الأحياء والطرقات.
حدث رفح يعيد التوتر إلى الواجهة
زاد الوضع توترًا بعد مقتل جنديين إسرائيليين في انفجار آلية هندسية في رفح جنوب القطاع.. وبينما اتهم الإعلام العبري عناصر من حماس بالمسؤولية، نفت كتائب القسام أي علم لها بوقوع اشتباكات هناك، مشيرة إلى أن المنطقة تخضع لسيطرة الاحتلال بالكامل، ولا تملك أي اتصال مع مجموعاتها فيها منذ عودة القتال في مارس الماضي.
ورأت حماس أن ما يجري هو محاولة إسرائيلية مبيّتة لاستخدام أي حادث أمني ذريعة لتعطيل الاتفاق، واستغلال عرقلة تسلّم الجثث للانقلاب على التفاهمات المبرمة، وعرقلة المرحلتين الثانية والثالثة، اللتين تتضمنان انسحابًا كاملًا، وإدخال المساعدات، وإطلاق عملية إعادة إعمار القطاع المدمر.
وتشير المعطيات الميدانية إلى وجود نوايا خفية من قبل (إسرائيل)، مدعومة من الولايات المتحدة، لإدخال قوة إقليمية – دولية إلى القطاع تحت ستار انتشال جثث الأسرى، لكن الهدف الحقيقي، يتمثل في تدمير البنية العسكرية للحركة، والوصول إلى أنفاقها ومواقع قوتها، تمهيدًا لإضعافها سياسيًا وعسكريًا.
هذا التوجه، إن تحقق، سيكون بمثابة إعلان صريح عن فشل الاتفاق، وتحويله إلى أداة لخنق حماس لا لإحداث استقرار.
الحدث الأمني في رفح وخيانة “أبو شباب”
وفي تطور آخر، قالت وسائل إعلام عبرية إن الحدث الأمني في رفح تمثل بمحاولة عناصر من حماس تصفية ياسر أبو شباب، الذي تتهمه الحركة بالخيانة، ما أثار قلق الكيان التي اعتبرت استهدافه “خطًا أحمر”. ورجّحت مصادر إسرائيلية أن جيش الاحتلال كان بصدد التمركز في المكان، عندما وقع في كمين مفاجئ.
من جهتها، أعلنت كتائب القسام أنها عثرت على جثة أسير إسرائيلي خلال عمليات بحثها المتواصلة، وذلك بعد أن سلّمت قبلها بيومين جثتي أسيرين آخرين.
سياسيًا، ردّت حماس على بيان صادر عن الخارجية الأمريكية، اتهم الحركة بأنها بصدد خرق الاتفاق، وشن هجمات على سكان غزة.
ورفضت الحركة هذه الاتهامات جملة وتفصيلًا، معتبرةً أن الولايات المتحدة تشارك في التغطية على خروقات الاحتلال، وتتبنّى روايته دون مساءلة.
اليوم العاشر للتهدئة: الواقع أسود
في اليوم العاشر من اتفاق وقف إطلاق النار، بعد أكثر من 735 يومًا من الحرب المدمّرة، أقدمت القيادة السياسية في إسرائيل على قرار جديد بناءً على توصية الجيش: وقف إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وإغلاق جميع المعابر، وشنّ غارات جوية مكثفة على عدة مناطق، أوقعت عشرات الشهداء والجرحى.
وبحسب مصادر طبية في غزة، استُشهد 51 فلسطينيًا، وأُصيب أكثر من 150 آخرين، منذ إعلان وقف الحرب وحتى اليوم، جراء استمرار هجمات الاحتلال.
خلاصة المشهد: أن الاتفاق الذي بدا في بدايته إنجازًا دبلوماسيًا، تحوّل اليوم إلى ساحة اختبار قاسية، بين تنفيذ الاستحقاقات الإنسانية، والتوظيف الأمني والسياسي لكل بند من بنوده. في ظل الدمار الشامل الذي تعانيه غزة، والمأساة الإنسانية المتفاقمة، يبدو أن الرهانات على الحلول المرحلية تصطدم بجدار الحسابات الاستراتيجية العميقة، التي لا تزال (إسرائيل) وحلفاؤها متمسّكين بها، سواء لتقويض حماس أو لإعادة رسم مشهد ما بعد الحرب بما يخدم مصالحهم وحدهم.
وبينما تغلق المعابر، وتُمنع المساعدات، وتُستأنف الغارات، يبقى أهل غزة، كما في كل مرة، الضحية الأولى، والأكثر وجعًا، في لعبة المصالح الإقليمية والدولية.