إرهاب العالم بفزاعة “معاداة السامية”
فيما لم يعد بمقدور العدو الصهيوني حصر وملاحقة منتقديه ورافضي السلوك الإجرامي الذي يمارسه ضد الشعب الفلسطيني في غزة، في أبشع صور الانتهاك للإنسانية والامتهان للكرامة العالمية، بفزاعة “معاداة السامية”، تواتَرَ الحديثُ عن هذا المفهوم بالكشف والتحليل، ليخلص الجميع إلى أنه لمثل هذا المستوى من الوحشية الذي ظهر به الكيان الصهيوني في غزة، ومن العربدة في غير دولة من دول المنطقة، عمل اللوبي لعقود على ترسيخ المفهوم، من أجل خدمته بردّ أي اتهامات عنه حال مارس غطرسته وتجبرّه على العالم.
باستثناء الصهاينة والمتصهينين، أظهرت كثير من التناولات والمواد الوثائقية حالة الكراهية لليهود، والناتجة عن سلوكهم العدواني ضد كل البشر باستثناء المنتمين للعرق اليهودي. في القرن الـ19 كانت البداية، وحينها نزعوا بصورة مباشرة وغير مباشرة لترسيخ وَهْم “العرق السامي”، فوظفوا كل الإمكانات لفرض هذه المغالطة على العالم، رغم أنهم لم يكونوا إلا أقليات منتشرة في كثير من الدول، وانعكس ذلك على ثقافتهم وسلوكهم. الأمر الذي عقّد اندماجهم، وولّد رفضا عالميا لهذا التعالي والنزعة العنصرية المبكرة. وفي أوروبا المسيحية -حيث تواجدوا أكثر- تم عزلهم وفصلهم بشكل صارم عن المسيحيين في تجمعات سكانية مغلقة عبر نظام “الغيتو”، بما جعلهم منبوذين.
ومنذ ذلك العهد ظل اليهود الصهاينة يعيشون عقدة الشعور بالاضطهاد، بسبب عنصريتهم التي رأوها طبيعية وحقاً. لذلك عملوا على تجييش المؤثرين وقادة القرار بالاستفادة من عوامل القوة التي عملوا على امتلاكها، أهمها المال والإعلام. حينها كان رفض هذا التعالي الصهيوني يتعالى، وبدأ العالم يضيق ذرعا بالسلوكيات المنحرفة التي كان ينشرها اليهود في مجتمعاتهم. وتؤكد المراجع أن مصطلح “كراهية اليهود” كان “ناتجًا من صفاتهم العرقية التي يُزعَم أنها موروثة، وهي مواصفات كانت تُعَدُّ إمّا ممقوتة في الواقع، وإمّا أنها بطبيعتها ذاتها تحضّ الآخرين على الشعور بالكراهية تجاهها”.
نزعة صهيونية لسيادة العالم
وجدت الصهيونية في مصطلح “معاداة السامية” ضالتها لتوجيه القوى العالمية التي تم إخضاعها إلى كل من ترى فيه معاديا، أو يحمل وجهة نظر مغايرة تجاه مشروعها الاستحواذي على العالم، انطلاقا من الشعور بالأفضلية المطلقة التي يرون بها أنفسهم. وقد ورد في ما يعرف بـ”بروتوكولات حكماء صهيون” ما يكشف عن رغبة يهودية في السيادة العالمية، وهو ما أدى إلى إحياء دعاية “معاداة السامية”، بل وحتى الثورات ضد اليهود، كما حدث في المجر عام 1920.
يقول الباحث أحمد الدبش “بات الموقف المعادي للحلم والوهم الصهيوني، أو الممارسات ضد العرب، ينعت بـ “اللاسامية” حتى تحولت سيفاً مسلطا فوق رقاب الكتاب والصحف والحكومات، وإخضاعها لما تريده الصهيونية.” وعلى الرغم من أن المصطلح -في الأصل- يشمل مجموعة واسعة من الشعوب وفي مقدمتهم العرب، إلا أن “إسرائيل” والفكر الصهيوني الذي وُلد متطرفا حصرها في اليهود، ليجري استخدام مصطلح “معاداة السامية” لإدانة أي انتقاد أو مقاومة لسياساتها أو لوجودها.
ومع احتلال أرض فلسطين عملوا على ترسيخ الوهم الصهيوني في عقلية أطفال اليهود من خلال المناهج التعليمية، وبالتالي غرس الكراهية ضد كل من في الأرض سواهم.
ترى الدكتورة “نوريت بيليد-الحنان”، أستاذة فقه اللغة بالجامعة العبرية بالقدس، أن المكوِّن الأوضح في المناهج التعليمية الإسرائيلية هو العداء لكل ما هو غير يهودي، فالأطفال يتعلمون في المدارس أن الجميع يلاحقهم من فجر التاريخ لمجرد كونهم يهودا، بينما تتفق دراسات وبحوث تطبيقية على “أن العنف الممنهج الذي يمارسه الجنود الإسرائيليون اليوم هو نتيجة مباشرة لأسلوب تربوي يقوم على زرع الكراهية فيهم منذ الطفولة”.
الصهيونية الأمريكية منذ التأسيس
بطبيعة الحال كانت أمريكا في صدارة من تبنوا توجه الحركة الصهيونية، التي ظهرت بذورها مع الأطوار الأولى لتكوّنِ الولايات المتحدة وظهورها على الخارطة، ومن خلالها فرضت الصهيونية استخدام مصطلح “معاداة السامية” للإشارة إلى “كل أشكال العداء أو النقد الموجه لليهود”، فجعلت الولايات المتحدة للأمر مساحة في أدبياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. تقول وزارة الخارجية الأمريكية إن “معاداة السامية” تشمل عددا من المواقف، منها: رفض الاعتراف بشرعية “إسرائيل”، أو تحميلها مسؤولية الصراعات السياسية والدينية في المنطقة، أو إنكار حق اليهود في تقرير مصيرهم، أو التشكيك في الأرقام المرتبطة بالاعتداءات التي تعرضوا لها. كما لا تحظر الولايات المتحدة نقد أنظمة تقوم على أسس عرقية أو دينية، باستثناء “إسرائيل” التي جعلت لها قانونا يُعَدُّ بموجبه التنديدُ بجرائم كالفصل العنصري أو الإبادة الجماعية تهمةً بـ”معاداة السامية”.
في عام 1998 تأسس تحالف دولي الهدف منه تعزيز الوعي بما يسمى الـ”الهولوكوست”، حسب ما جاء في بيانه، وفي عام 2016 أعد هذا التحالف ما وصفه بـ”تعريف عملي لمعاداة السامية”. ورغم أن التحالف شدد على “تعزيز التعاون بين الحكومات من أجل عالم خالٍ من الإبادة الجماعية”، إلا أن التعريف بات -حسب الكاتبة والمؤرخة أفيفا تشومسكي (الابنة البكر للمفكر الأمريكي نعوم تشومسكي)- “أداة تُسهم في تجريم الأصوات المعارضة للإبادة الجماعية”.
غزة ضحية العالم
وبرز التوظيف السيء للمصطلح في الحرب الصهيونية غير الأخلاقية على أهالي غزة، إذ ظهر كجدار حامٍ يعطي الحق للكيان الصهيوني بملاحقة كل من ينتقدهم بذريعة “معاداة السامية”، غير أن تتابع النقد والرفض للمنهجية الصهيونية في فلسطين المحتلة حشر الكيان بشكل أعجزه عن التوقف عند ذلك كثيرا، وإن كان التصنيف يشير إلى مسألة تأجيل يمكن التلويح به لاحقا.
تشير الكاتبة تشومسكي إلى أنه وفق التعريف غير الأخلاقي لمصطلح “معاداة السامية”، فإن “مجرد الإشارة إلى ما يحدث في غزة قد يُعد محظورا، ما يمنح “إسرائيل” حصانة فعلية من المساءلة”. التحالف الدولي سيء الذكر لإحياء ذكرى “الهولوكوست” يرى أن “أي مقارنة بين سياسات “إسرائيل” والنظام النازي، أو وصفها بكيان عِرقي يرتكب إبادة جماعية أو جرائم حرب، يُعدّ “معاداة للسامية”. ويمنح هذا التعريف “إسرائيل” حصانة من التحقيق أو الإدانة”، بينما يؤكد المؤرخ “الإسرائيلي” عمير بارتوف، المتخصص في دراسات الإبادة، أن هناك إجماعًا متزايدًا بين باحثي الإبادة الجماعية على توصيف ما يجري في غزّة كإبادة، يقابله رفض واسع من باحثي “الهولوكوست” الذين يربطون أي اتهام لـ”إسرائيل” بـ”معاداة السامية”.
المثير في التعريف -الذي وضعه التحالف- هو تعاطي البعض معه كقواعد تُوجب التعاطي معها، ورغم أنه غير ملزم قانونيًا، إلا أن منظمات يهودية كبيرة تحركت لتحويله إلى قانون، وفي الأشهر الماضية وبينما كان الكيان الصهيوني يزيد من وحشيته ضد الأبرياء في غزة، تبنّت 46 دولة هذا التعريف، الذي أصبح يُستخدم فعليا في أمريكا وأوروبا كقانون.
موقع أنصارالله