إسرائيل الأولى” و ” إسرائيل الثانية ”

 

كتب سفير الجزائر السابق في العراق عثمان سعدي مقالاً مهماً في صحيفة «رأي اليوم» الإلكترونية حول مخاطر ما يحدث في شمال العراق، وبأن الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين هو أول من استخدم عبارة «إسرائيل ثانية» لوصف التمرد الكردي في شمال العراق الذي قاده والد مسعود بارزاني، الملا مصطفى، وذلك خلال اجتماعه مع الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون بتاريخ 11 نيسان 1974، حيث اضطرب نيكسون عندما قال له الرئيس بومدين: «نحن العرب نرى أنه يبدو أن الولايات المتحدة لم تكتف بإسرائيل واحدة فنراها تعمل على تأسيس إسرائيل ثانية في شمال العراق».
الآن مضى على كلام الرئيس الراحل بومدين حوالي 43 عاماً وتقديره للموقف كان دقيقاً، وصحيحاً، فالمنطقة الآن أمام نقطة تحول تاريخية، وخطرة جداً، فنحن على أبواب رسم الخرائط من جديد ما بعد سايكس بيكو، والعدوان على سورية هدفه تمزيقها، وتفتيتها إلى كانتونات، ومزارع طائفية مذهبية وإثنية، كي تكون نموذجاً لدول المنطقة التي ستأتيها المقصلة واحدة تلو الأخرى.
شكل صمود الشعب العربي السوري، وبسالة جيشه البطل، وحكمة وشجاعة الرئيس بشار الأسد في إدارة المعركة، إضافة إلى دعم الحلفاء، أساساً متيناً لمواجهة مشروع التقسيم الواضح للعيان الذي تستر خلف شعارات براقة من أجل إخفاء الأهداف الحقيقية، وهذه الشعارات المنافقة كانت: الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما تستباح الأوطان بقطعان المرتزقة من أكثر من 82 جنسية من العالم، إضافة إلى قطعان سورية للأسف جروها باسم الدين، والإسلام لتدمير بلدها، وإزالته من الخريطة كي ترتاح «إسرائيل الأولى».
الآن: بعد ثمن باهظ دفعه الشعب العربي السوري ليسقط الورقة المذهبية الطائفية، انتقل «حماة الشعوب» المزعومون لاستخدام الورقة الإثنية، وهي هنا «الورقة الكردية»، والتي سخروا لها كل أبواق الدعاية الغربية والصهيونية لتحريكها، ودفعها للصدام مع شعوب المنطقة، إضافة إلى عمليات التسليح والدعم اللوجستي والمادي للمناضلين الجدد! فبعد أن قارب تنظيم داعش على الانهيار نتيجة ضربات حلف المقاومة، سارعت واشنطن إلى إخلاء قياديين من هذا التنظيم بطائراتها أمام أعين الناس، وفي الوقت نفسه دفعت بميليشياتها ذات اللون الأيديولوجي اليساري للتقدم باتجاه دير الزور على الرغم من أنهم لم ينهوا معركة الرقة بعد!
من الواضح تماماً أن واشنطن، ومن خلفها تل أبيب، تريد فرض منطقة نفوذ خاصة بالكرد في شمال سورية، تشكل مخلباً صهيونياً في الجسد السوري، إضافة إلى المخلب البارزاني في شمال العراق، الذي يتنطع الآن لإعلان الاستفتاء والاستقلال، والذي لم يجد من يؤيده سوى كيان الاحتلال الصهيوني، وللأسف فإن القيادات الكردية في شمال العراق المرتبطة بالمشاريع الأميركية الصهيونية تريد توريط بسطاء الأكراد في حروب لا طائل منها، ولا أفق لها سوى المزيد من الدمار والخراب في المنطقة لمصلحة تل أبيب التي تثير عواطف الأكراد وتدفعهم للصدام مع محيطهم الطبيعي، وهم الذين يواجهون مصاعب اقتصادية ومشاكل سياسية ودستورية، ولكنهم يتنطعون لقضم المزيد من الأراضي، ومنها «كركوك» الغنية بالنفط وتشكيل قاعدة صهيونية أميركية مع شمال سورية في قلب أربع دول مركزية هي سورية والعراق وتركيا وإيران، ما يعني أن إسرائيل تريد الرد على واقعها الإستراتيجي، وقلقها من خلال خلق نموذج مشابه لها تعاديه كل الدول المحيطة، ولكنه يشكل مركزاً للتغلغل في هذه الدول وتدميرها وتقسيمها لاحقاً عبر نقل القلاقل، والاضطرابات إلى داخل تركيا وإيران والاستمرار في استهداف سورية والعراق.
الخريطة الجديدة لا تقتصر على التقسيم فقط، بل تغيير الهوية الإثنية للمدن، والمناطق على طريقة العصابات الصهيونية في بداية إنشاء كيان الاحتلال، وهو ما رأيناه في مجازر داعش طوال السنوات الماضية في سورية والعراق، وما نراه اليوم من ممارسات الميليشيات التي تنتحل الصفة الكردية، والتي قامت بعمليات تطهير عرقي للعرب في العديد من القرى في شمال سورية، ولتدعم واشنطن ذلك بغاراتها التي تدعي أنها تستهدف داعش على حين أنها تقتل المدنيين السوريين، وتدمر البنى التحتية بهدف تهجيرهم من مدنهم وقراهم، حتى وصل الأمر بآلة العدوان الأميركية لاستخدام الفوسفور الأبيض، وأسلحة أخرى محرمة دولياً.
هل يعتقد أي منا أن طائرات الاحتلال الأميركي تخطئ الهدف فتقتل المدنيين الأبرياء اللاجئين في مدارس حكومية؟ وهل ممارسات الميليشيات المدعومة أميركياً ضد أهلنا في القامشلي والحسكة سواء تجاه العملية التربوية، وفرض اللغة الكردية ومناهج خاصة، دليل على الانتماء لسورية، والحرص على الوطن السوري؟
لا أعتقد أن أي سوري منتمٍ لهذا الوطن، سوف يقبل ممارسات هؤلاء مهما ادعوا من مظلومية كاذبة منافقة هي لا تختلف عن مظلومية تلك المعارضات التي نشأت مثل الفطر في دهاليز أجهزة الاستخبارات الغربية والإسرائيلية، فالانفصال، أو حتى الفدرلة مرفوضة بالمطلق، ولن تنفع هؤلاء ساعة الندم إن أتت متأخرة!
وصول الجيش العربي السوري إلى دير الزور، وانتقاله إلى الضفة الشرقية لنهر الفرات هو من أجل الاستمرار في معركة تحرير الأرض السورية من تنظيم داعش، وكذلك من دعاة الانفصال من عملاء أميركا وإسرائيل.
دعونا نسمِ الأشياء بمسمياتها فلقد تعبنا من المجاملات، والكلام المنمق حول المظلوميات، والحقوق التي تبدأ بالثقافة لتنتهي بالانفصال، ذلك أن قادة ما يسمى «حزب الاتحاد الديمقراطي» يأخذون الأوكسجين من الناتو، وليس من هواء سورية، وهم على ما يبدو مصرون على الاستمرار في التآمر على بلدهم، وشعبهم تحت عناوين براقة، ومستهلكة قرفنا منها، وتحولت إلى اسطوانات مشروخة لدى كل مواطن سوري.
ما لم يفهم هؤلاء أن لكل شيء حدوداً، وأن الحقوق التي يتحدثون عنها لن يأخذوها إلا من الدولة السورية، وليس من واشنطن وتل أبيب، فأعتقد أنهم سيورطون بسطاء الأكراد الطيبين في حرب ليست حربهم، وفي صراع ليس صراعهم، وإنما هي حرب من أجل «إسرائيل ثانية»، لا يشجعهم عليها سوى «إسرائيل الأولى» التي لا يمكنها الاستمرار في هذه المنطقة إلا من خلال اقتتال الإخوة وصراع دول المنطقة، وبث الفرقة، والتشرذم بين أبناء الوطن الواحد، وحتى البيت الواحد.
كلام الراحل الكبير هواري بومدين حول «إسرائيل ثانية» نراه أمام أعيننا في شمال العراق، وشمال سورية، وسيشمل تركيا وإيران، ولذلك لابد من وأد هذا المشروع في مهده، أحب البعض ذلك أم لم يحب، لأنه إذا لم يتم ذلك فسوف يتحول شمال سورية إلى شأن داخلي أميركي وغربي وإسرائيلي!
اعتقادي أن رهانات الانفصاليين خاطئة جداً، والجيش الذي أذهل العالم بوصوله لدير الزور يضع المسمار الأخير في نعش «إسرائيل الثانية» التي لن ترى النور بهمة جيشنا البطل وقوى الحلفاء ووعي الوطنيين السوريين الأكراد.
بقلم بسام ابو عبد الله – استاذ العلاقات الدولية في جامعة دمشق
قد يعجبك ايضا