الحج بين الفريضة الربانية والقيود السعودية: حين تتحول العبادة إلى رهينة السياسات

الحقيقة:

في كل عام، يُقبل شهر ذو الحجة حاملًا معه أحد أعظم الشعائر الإسلامية وأركان الدين الحنيف: فريضة الحج. هذه العبادة العظيمة التي شرّعها الله لعباده ليتحقق فيها معنى التوحيد، والتجرد من الهوى، والانتماء للأمة الواحدة، باتت اليوم – بكل أسف – محاصرة ومقيدة تحت قيود الأنظمة السياسية، وعلى رأسها النظام السعودي، الذي بات يتعامل مع فريضة الحج بمنطق أمني واقتصادي وسياسي، لا بمنطق ديني.

الحج.. الفريضة الجامعة

الحج ليس مجرد عبادة طقسية تؤدى في أيام معلومة، بل هو محطة سنوية جامعة يتلاقى فيها المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها، يوحدهم الإحرام، ويجمعهم الذكر، ويوجههم بيت الله الحرام. فيه تتجلى وحدة الأمة، وتتعزز روح الإخاء، ويعلو نداء التوحيد فوق كل انتماء مذهبي أو قومي.

يقول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97].

ورغم وضوح النص وعموميته، إلا أن ما نشهده اليوم من تقييد وتمييز ومزاجية في إدارة الحج يناقض المقصد الإلهي، ويهدد هذه الفريضة الجامعة.

حج محاصر.. لاجئون على بوابات البيت الحرام

يُفترض أن يكون موسم الحج تتويجًا لرحلة إيمانية تُجسّد وحدة الأمة الإسلامية في أسمى صورها، لكنه تحوّل اليوم إلى تجربة مريرة تتقاطع فيها الجباية، والسياسة، والتضييق، لتجعل من هذه الفريضة العظيمة حلمًا مؤجلًا، بل مستحيلًا، بالنسبة لملايين المسلمين حول العالم.

 

من عبادة مقدسة إلى رفاهية محصورة

الحج، الذي جعله الله فريضة على المستطيع، لم يعد مرتبطًا بالاستطاعة الجسدية أو المالية فقط، بل أضيفت إليه شروط ومعوقات لم يشرعها الإسلام، بل فرضتها اعتبارات سياسية واقتصادية وأمنية. فتكاليف الحج بلغت مستويات خيالية تجعل منه امتيازًا لا يحصل عليه إلا الميسورون، أما الفقراء فهم يقفون على بوابة بيت الله الحرام، لاجئين روحيًا، محرومين من الدخول، لا لذنب اقترفوه، بل لأن كلفة الفريضة باتت تعادل في بعض الدول تكلفة شراء منزل صغير!

في بعض البلدان، كاليمن دول عربية وإسلامية أخرى لم يعد الحج متعذرًا فقط بسبب ارتفاع التكاليف، بل بسبب المنع السياسي المباشر.

فالحكومة السعودية استخدمت الفريضة سلاحًا للابتزاز والعقاب الجماعي، حين منعت شعوبًا بأكملها من أداء الركن الخامس من أركان الإسلام، إما لاعتبارات سياسية، أو تنفيذًا لأجندات أمريكية وإسرائيلية لا تخفى.

تأشيرة الحج.. قرار سيادي أم أداة قمع؟

أصبحت تأشيرة الحج خاضعة لمزاج السلطة السعودية، وليست حقًا إلهيًا للمسلمين. وقد أُقصيت منها دول بأكملها، وحُرم الآلاف من أداء الفريضة بسبب توجهاتهم أو مواقف حكوماتهم. بل إن المعايير أصبحت مزدوجة، حيث يُفتح الباب أمام المطبعين مع الكيان الصهيوني، ويُغلق أمام المقاومين للاحتلال وأعوانه، وكأن البيت الحرام أصبح “ملكية خاصة” لا مكان فيه إلا لمن ينحني للمشيئة الأمريكية.

وفي هذا السياق، شهدنا ممارسات قمعية ممنهجة ضد الحجاج الذين يرفعون شعارات البراءة من أعداء الله، أو يعبرون عن تضامنهم مع قضايا الأمة، وعلى رأسها فلسطين وغزة. حيث تم اعتقال بعض الحجاج، وضُرب آخرون، وزُجّ بالبعض في السجون لمجرد أنهم نطقوا بكلمة “البراءة” أو دعوا بدعاء “اللهم انصر المجاهدين”. فأي عبادة هذه التي تُمارس تحت طائلة القمع؟ وأي بيت لله هذا الذي لا يُسمح فيه بذكر المظلومين؟

بيت الله تحت الحراسة السياسية

ما يحصل اليوم هو اختطاف للحج، وتحويل الحرمين الشريفين من مركز إشعاع روحي وأممي، إلى “منطقة مغلقة” تخضع لحراسة سياسية مشددة. فالتنظيم الأمني للحج بات أقرب إلى منطق “منع الشغب” منه إلى تسهيل العبادة. فالكاميرات منتشرة في كل زاوية، ورجال الأمن يحيطون بالحجاج كما لو كانوا سجناء في معسكر لا ضيوفًا عند الله.

التضييق لا يقتصر على الشعارات السياسية، بل يمتد ليشمل الحركة والتنقل، وحرية التعبير، بل وحتى الدعاء. فكأنك تؤدي الشعيرة في صمت إجباري، لا تجوز فيه النية الصافية إن خالطها موقف، ولا يُقبل فيه التهليل إن صاحبه وعي، ولا يُبارك فيه الذكر إن ترافق مع دعاء للمجاهدين والمظلومين!

هذه الممارسات لا تأتي من فراغ، بل من سياسة متعمدة تهدف إلى تفريغ الحج من محتواه. فبدل أن يكون موسمًا لتجديد الوعي، واستذكار معاني التضحية والبراءة، والتوحد في وجه أعداء الأمة، أصبح أداة للتطويع، ونظامًا لترويض المسلمين على الخضوع للسلطة، حتى في أقدس عباداتهم.

إنها محاولة ممنهجة لتحويل الحج إلى نشاط سياحي فاقد للرسالة، وإلى فريضة “خالية من الدسم”، لا تهز عروش الطغيان، ولا ترفع صوتًا للحق، ولا تُذكّر الأمة بعدوها. وهو ما يصبّ في مصلحة الكيان الصهيوني وحلفائه، ممن يدركون جيدًا أن الأمة إذا ما استعادت وعيها في الحج، فلن تهزم في معركة.

 

ما يجري في الحج اليوم لا يُبشر بخير، ولا يليق ببيت جعله الله مثابةً للناس وأمنًا. فالحج فريضة الله، لا فريضة النظام السعودي، والبيت بيت الله، لا “ملكية خاصة” لآل سعود. وعلى الأمة أن ترفع صوتها، لا فقط للمطالبة بإتاحة الحج لكل المسلمين، بل لإعادة الحج إلى موقعه الطبيعي: منبرًا للحق، وساحةً للوحدة، ومنطلقًا لليقظة والكرامة.

الحج المستهدف: تفريغ الروح والمعنى

تشير المعطيات إلى أن ما يجري في موسم الحج ليس مجرد فوضى إدارية أو ضعف تنظيمي، بل خطة ممنهجة لتجريد الحج من أهدافه الإيمانية والسياسية والاجتماعية.

ومن أبرز مظاهر هذا الاستهداف:

  • تفريغ الحج من مضمونه التوحيدي والجهادي، وتحويله إلى طقس شكلي خالٍ من الروح والموقف.
  • القضاء على المعالم والآثار الإسلامية بدعوى التوسعة، بينما الهدف الحقيقي هو محو الذاكرة الدينية والتاريخية.
  • تسييس الحج وجعله أداة ضغط على الدول الإسلامية المناوئة للسياسات السعودية أو الأمريكية.
  • ترويض الشعوب على تقبل غياب الحج عبر تقليص الأعداد واختلاق الأزمات الصحية والمخاوف الأمنية.

موسم البراءة.. ممنوع من الصرف

لطالما ارتبط الحج بالإعلان العلني للبراءة من أعداء الله، كما في الآية الكريمة: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ [التوبة: 3]

لكن هذا البعد القرآني للحج أصبح “جريمة” في نظر النظام السعودي، يُلاحَق من يجهر به، ويُمنع من الوصول إلى الحرم من يرفع صوته ضد الطغيان والظلم.

الحج بات سلعة خاضعة للمصالح والتحكم الخارجي

يتعامل النظام السعودي مع فريضة الحج كما يتعامل مع الثروة النفطية، على أنها مصدر دخل، وسلعة قابلة للعرض والطلب، وأداة في يد السلطة تُستخدم للضغط السياسي، والابتزاز الدبلوماسي، وتنفيذ الأجندات الخارجية. لم يعد الحج عبادة مستقلة بذاتها، بل أصبح ملفًا سياديًا تتحكم فيه الرياض بالتنسيق المباشر مع واشنطن وتل أبيب، وفق مصالحهم ومخاوفهم مما قد يمثله موسم الحج من تهديد للهيمنة الغربية على الأمة الإسلامية.

لم يعد مستغربًا أن تُضبط أعداد الحجاج بناءً على معايير سياسية، لا دينية. ولا أن يُتحكّم في وفود الحجيج القادمة من بلدان بعينها، أو يُقصى آخرون بحجة “التنظيم”، بل باتت التعليمات الصادرة بشأن إدارة موسم الحج أقرب إلى التعليمات الأمنية الصادرة من غرفة عمليات استخباراتية، لا من مؤسسة دينية.

التنسيق الثلاثي: الرياض – واشنطن – تل أبيب

ما لم يكن يومًا خفيًا، بات الآن مفضوحًا وواضحًا: هناك تنسيق ممنهج بين النظام السعودي والإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني بشأن ما يجب أن يكون عليه موسم الحج. فهؤلاء يدركون تمامًا أن الحج الحقيقي – بمضمونه التحرري والإيماني والسياسي – يُشكل خطرًا مباشرًا على مشروعهم في تفتيت الأمة، وتثبيت الهيمنة، وإخماد روح المقاومة.

ولذلك، كان من أولويات هذا الحلف الثلاثي تفريغ الحج من محتواه، وتحويله إلى مجرد طقس ديني معزول عن الواقع.

لم يعودوا يخشون من “العدد”، بل من “الوعي”. ولهذا، تركز الأوامر على منع أي مظهر من مظاهر الرفض للظلم، أو البراءة من الطغاة، أو التضامن مع قضايا الأمة العادلة، وعلى رأسها فلسطين.

 

لأول مرة في التاريخ الإسلامي، تتحوّل مكة والمدينة – وهما رمز الطهارة والتحرر من كل قيد بشري – إلى مناطق خاضعة للوصاية السياسية الأجنبية. فليس سرًا أن القرار الديني في السعودية لم يعد مستقلًا، وأن إدارة الحرمين لم تعد شأنًا خالصًا للمسلمين، بل باتت تخضع لرؤية أمنية أمريكية، وتوجيهات مخابراتية صهيونية.

السلطات السعودية باتت تتعامل مع المشاعر المقدسة كأنها “أرض أمن قومي” لها الحق في منع من تشاء، وإسكات من تشاء، وفرض ما تشاء من قيود، ولو كانت تتناقض مع روح الإسلام ومقاصد الشريعة.

العدو الصهيوني: الحج في مرمى الاستهداف

اليهود الصهاينة – وهم يدركون رمزية الحج في بعث الصحوة الإسلامية – لم يغفلوا لحظة عن هذه الشعيرة. بل إنهم جعلوها بندًا ضمن أهدافهم الاستراتيجية: تفريغ الحج من محتواه، وتحويله إلى مهرجان سنوي لا ضرر منه، لا يوقظ شعورًا، ولا يستنهض أمة، ولا يذكر العدو بعداوته. وقد وجدوا في النظام السعودي خير أداة لتحقيق ذلك، فاستسلم الأخير، وسخّر سلطته ونفوذه الديني لتنفيذ هذه الأجندات بدقة.

ما جرى في سنوات سابقة من منع شعارات البراءة، ومنع التجمهر السلمي، وملاحقة من يتضامن مع فلسطين، ليس إلا حلقة في مسلسل طويل من الهيمنة الغربية الصهيونية على الحج.

السكوت جريمة والتواطؤ خيانة

أمام هذا الواقع المؤلم، لا يمكن أن نكتفي بالبكاء على أطلال الحج، أو بالصمت تجاه ما يجري. السكوت بات جريمة، لأن في صمتنا ترسيخًا لهذه الوصاية، وفي تواطئنا خيانة لهذه الفريضة العظيمة. الحج يجب أن يُستعاد من قبضة السياسة، وأن يُعاد إلى حضن الأمة، ليكون كما أراده الله: شعيرة توحيد، وموسم وحدة، ومنصة براءة.

 

في الختام: لنستَعِدِ الحج من براثن التوظيف الأجنبي

الحج ليس ملكًا للعائلة المالكة في الرياض، ولا ينبغي أن يخضع لمساومات السفارات الغربية، ولا لأوامر البيت الأبيض أو “الكنيست”. الحج ملك لكل مسلم، وميراث إيماني مقدّس لا يحق لأحد مصادرته أو تشويهه.

إن الصمت على ما يجري هو قبول بتدنيس بيت الله الحرام بسياسات العمالة والهيمنة، وعلى الأمة أن تقول كلمتها، لا بالصراخ، بل بموقف واعٍ، ومطالبة جادّة بتحرير الحج من التوظيف السياسي، واستعادته كفريضة تجمع ولا تفرّق، توحّد ولا تفرغ، ترفع الأمة ولا تذلّها.

في ظل هذا الاستهداف الخطير، تتأكد الحاجة إلى:

  • إعادة توجيه البوصلة نحو مفهوم الحج كفريضة ربانية جامعة، لا كرحلة سياحية أو مناسبة موسمية.
  • رفع الصوت بالمطالبة بإخراج الحرمين الشريفين من السيطرة السياسية، وتدويل إدارتهما لتكون بيد هيئة إسلامية مستقلة.
  • فضح الجرائم التي تُمارس باسم التنظيم والسيادة ضد حجاج بيت الله الحرام.
  • الاستفادة من موسم ذي الحجة –حتى لمن لم يحج– في التعبئة الإيمانية والنفسية والسياسية، وتذكير الأمة بمعاني التضحية والبراءة والولاء لله وحده.
قد يعجبك ايضا