السعي الإسرائيلي لنزع سلاح المقاومة: حروب بلا جدوى

رغم توالي الحروب منذ التسعينيات، عجزت “إسرائيل” عن تحقيق هدفها الاستراتيجي بنزع سلاح المقاومة في لبنان. من “عناقيد الغضب” إلى “حرب تموز” وصولاً إلى حرب الـ66 يوماً عام 2024. تكررت محاولات الإخضاع، لكن النتيجة كانت دوماً ثباتاً وتمسكاً أكبر بالسلاح مع تعزيزه، وتثبيتاً لمعادلة الردع لا كسراً لها.

في الـ19 من آذار/مارس عام 1978 صدر القرار 425، عن مجلس الأمن الدولي، بموافقة جميع أعضائه، دون استثناء، لينص على “الاحترام التام لسلامة لبنان الإقليمية، وسيادته واستقلاله السياسي، ضمن حدوده المعترف بها دولياً”. والدعوة للانسحاب الإسرائيلي، “على الفور”، من جميع الأراضي اللبنانية. وتشكيل “قوة مؤقتة تابعة للامم المتحدة في الحال، تخضع لسيطرتها، لتعمل في جنوب لبنان بقصد التحقق من انسحاب القوات الإسرائيلية، وإعادة السلام والأمن الدوليين، ومساعدة حكومة لبنان على تأمين عودة سلطتها الفاعلة إلى المنطقة”.

ومنذ صدور القرار الداعي إلى الانسحاب الفوري وغير المشروط من الأراضي اللبنانية، لم تلتزم “تل أبيب” بتنفيذه ولو ليوم واحد.

على العكس من ذلك، راحت تنتهج سياسة مزدوجة: تتهرب من موجباتها القانونية، وتضغط في المقابل لتجريد لبنان من حقه الطبيعي والقانوني في المقاومة، وهو الحق الذي تكفله شرعة الأمم المتحدة والمواثيق الدولية لشعب تحت الاحتلال.

فعلى امتداد ما يقارب خمسة عقود، لم تخلُ الأرض اللبنانية من شكل من أشكال الاحتلال أو العدوان الإسرائيلي. من عملية الليطاني، مروراً باجتياح 1982، ووصولاً إلى احتلال الشريط الحدودي حتى عام 2000، لم تتقلص مساحة السيطرة الإسرائيلية إلا بفعل المقاومة المسلحة، لا نتيجة لأي التزام إسرائيلي بالقرارات الأممية.

ورغم انكشاف هذه الحقيقة الميدانية، فإن المشروع الإسرائيلي لم يتوقف عن محاولاته المتكررة لنزع سلاح المقاومة في لبنان، سواء عبر الحروب المباشرة أو عبر الضغوط السياسية والاقتصادية والدبلوماسية. وفي كل مرة، كانت الذريعة واحدة: “ضرورة فرض سيادة الدولة اللبنانية”، بينما السيادة ذاتها كانت تُنتهك يومياً بغارات واعتداءات إسرائيلية متكررة.

من حرب “عناقيد الغضب” عام 1996، إلى عدوان تموز 2006، وصولاً إلى حرب الـ66 يوماً عام 2024، يتكرر السيناريو ذاته. عدوان واسع النطاق، أهداف معلنة، في ظاهرها أمنية، وفي جوهرها نزع سلاح المقاومة، ثم إخفاق ميداني، يتبعه تثبيت جديد لشرعية المقاومة على المستوى الشعبي والسياسي.

فهل تنجح الضغوط السياسية المستمرة، في تحقيق ما عجزت عنه جولات النار منذ أكثر من ربع قرن؟

عناقيد الغضب: تفاهم نيسان.. للمقاومة الحق وباعتراف العدو

في نيسان/أبريل من عام 1996، شنّت “إسرائيل” عملية عسكرية واسعة النطاق على لبنان أطلقت عليها اسم “عناقيد الغضب”، بزعم الرد على عمليات المقاومة في جنوب البلاد. إلا أن السياق الحقيقي للعدوان كان يتجاوز مجرد رد الفعل، إذ جاء في لحظة إقليمية دقيقة، سبقت الانتخابات الإسرائيلية آنذاك، وسعت خلالها حكومة شمعون بيريز إلى تعزيز رصيدها السياسي من خلال إظهار قبضة أمنية حازمة على الجبهة الشمالية.

منذ الأيام الأولى للعملية، بدا أن أحد الأهداف الرئيسية للعدوان هو تصفية المقاومة اللبنانية أو على الأقل إجبار الدولة اللبنانية على نزع سلاحها، في محاولة لفرض معادلة جديدة تُنهي حالة الاستنزاف التي كانت تشكلها عمليات حزب الله ضد قوات الاحتلال في الشريط الحدودي المحتل.

وقال وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك، إيهود باراك، بعد لقاء مع سفير الولايات المتحدة في إسرائيل، مارتن إنديك، في اليوم الأول للحرب، إن “العنوان السياسي للعملية هو الحكومة اللبنانية، والعنوان العسكري لها هو حزب الله”، وأوضح باراك أن “إسرائيل” تتوقع من الحكومة اللبنانية “أن تمارس سيادتها وأن تعمل على وقف النشاط العسكري لحزب الله ونزع سلاحه”. (صحيفة “هآرتس”، 12/4/1996).

لكن هذه الأهداف اصطدمت بحقائق الميدان. فبدل أن تنكسر شوكة المقاومة، اشتدت عملياتها، واتسعت رقعتها، ونجحت في الصمود، رغم القصف الكثيف والدمار الواسع الذي طال البنى التحتية والمناطق المدنية.

وكانت مجزرة قانا ذروة هذا العدوان، حيث قُتل أكثر من مئة مدني لبناني احتموا بموقع تابع لقوة “اليونيفيل” في بلدة قانا الجنوبية.

وبشكل غير متوَقع إسرائيلياً، انتهت “عناقيد الغضب” بتوقيع تفاهم نيسان، الذي أقر بحق المقاومة في قصف الداخل الفلسطيني المحتل، واستهداف المدنيين، إذا ما أطلقت “إسرائيل والمتعاونون معها النار بأي نوع من الأسلحة على مدنيين أو أهداف مدنية في لبنان”.

وبذلك، حُسم الصراع سياسياً لصالح المقاومة، التي باتت للمرة الأولى طرفاً معترفاً به ضمنياً في معادلة الردع، دون أن تُجرَّد من سلاحها، بل خرجت أقوى في الوعي الشعبي والوطني.

تموز 2006: تكريس الردع

وفي 12 من تموز/يوليو 2006، نفّذت المقاومة في لبنان عملية نوعية على الحدود اللبنانية الفلسطينية أسفرت عن أسر جنديين إسرائيليين، في سياق سعيها لمبادلة الأسرى. إلا أن الرد الإسرائيلي تجاوز كل توقع، بعد أن شنت “إسرائيل” حرباً شاملةً على لبنان، استمرت 33 يوماً، استخدمت فيها مختلف أنواع الأسلحة التقليدية وغير التقليدية، في ما بدا أنه عدوان مخطط له سلفاً أكثر مما هو ردٌّ على العملية الحدودية.

وتمثلت الأهداف المعلنة للعدوان، كما عبّر عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت آنذاك، في “القضاء على البنية التحتية لحزب الله”، و”نزع سلاحه”، و”إعادة بسط سيادة الدولة اللبنانية على الجنوب”. لكن مجريات الحرب كشفت عن فشل ذريع في تحقيق هذه الأهداف، رغم المجازر الإسرائيلية المروعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال.

خلال الأسابيع الأربعة، أمعنت “إسرائيل” في استهداف المدنيين، فدمرت آلاف المنازل، وشردت مئات الآلاف، وقصفت الجسور، والطرقات، والموانئ، وحتى محطات الإرسال والإعلام. وبلغت المجازر ذروتها في قانا، مجدداً، حيث قُصِف ملجأ في البلدة الجنوبية، ما أدى إلى استشهاد أكثر من خمسين مدنياً، معظمهم من الأطفال، في مشهد أعاد إلى الذاكرة مأساة نيسان 1996، وأكد أن الأجساد الصغيرة تُستهدف حين تعجز آلة الحرب عن إسكات البندقية.

لكن النتيجة السياسية والعسكرية جاءت، مرة أخرى، بعكس المسعى الإسرائيلي. فخرجت المقاومة من الحرب أقوى من السابق، ليس فقط من حيث البنية القتالية، بل من حيث الرمزية الإقليمية. وتحولت إلى نموذج يُحتذى، وارتفع رصيدها في الوعي العربي والإسلامي، وتكرّست كقوة ردع لا يمكن تجاوزها.

أما القرار 1701، الذي أنهى الحرب، فلم يأت على ذكر نزع سلاح المقاومة، بل أكّد على وقف الأعمال العدائية، ونصّ على دعم الجيش اللبناني وانتشاره في الجنوب بالتنسيق مع اليونيفيل، دون أن يُمنح تفويضاً لنزع السلاح بالقوة.

وهكذا، فشلت “إسرائيل” مرة أخرى في تحقيق هدفها الاستراتيجي، ووجدت نفسها في ختام الحرب أمام مقاومة أكثر تنظيماً، ودولة أكثر تضامناً مع خيارها، وشعب أكثر اقتناعاً بجدوى السلاح في مواجهة العدوان.

وكان المشهد الختامي للحرب، يوم 16 تموز/يوليو 2008، عندما اجتمع انصار المقاومة للاحتفال بخروج الأسرى اللبنانيين، وعلى رأسهم الشهيد سمير القنطار، من السجون الإسرائيلية، في صفقة لتبادل الأسرى، تركت للمقاومة أن تضع هي نقطة النهاية في هذه الحرب.

أيلول 2024: العدوان الأخير… والمقاومة مستمرة

على وقع اندلاع الحرب في غزة، منذ عملية طوفان الأقصى في تشرين الأول/أكتوبر 2023، فتحت الجبهة الشمالية مجدداً بين “إسرائيل” والمقاومة في لبنان، في صراع تدحرج خلال ما يقرب من العام ليصل إلى واحدة من أعنف جولات المواجهة منذ عام 2006.

من الأيام الأولى، ارتفعت حدة الاستهدافات، وتوسعت دائرة النار لتشمل مناطق لم تُقصف منذ حرب تموز، بينما سارعت “إسرائيل” إلى تصعيد حملتها الجوية والمدفعية، واضعة هدفاً معلناً يشبه أهداف الحروب السابقة: تحييد حزب الله، وتفكيك قدراته الصاروخية، ودفع لبنان نحو نزع سلاح المقاومة.

إلا أن الميدان، مرة أخرى، جاء على عكس ما خُطط له، فعلى الرغم من الأضرار الهائلة التي لحقت ببنية المقاومة، والخسائر المدنية الكبيرة، أظهرت المقاومة مستوى غير مسبوق من الجهوزية، وقدرة كبيرة على التكيف مع الواقع الصعب وتجاوز حالة الصدمة.

ورغم كل ما أنزلته “إسرائيل” من نيران، انتهت الحرب، والمقاومة ظلت قلقاً يؤرق قادة الاحتلال، ومصدراً متعاظماً للخوف لدى المستوطنين في الجليل، خاصة بعد أن رأوا مشاهد طوفان الأقصى في غلاف غزة.

وعلى الرغم من الادعاء الأولي بأن “إسرائيل” استطاعت هذه المرة القضاء على المقاومة في لبنان، باغتيال قادتها، وعلى رأسهم الشهيد السيد حسن نصر الله، واستهداف مستودعات الصواريخ الدقيقة والاستراتيجية، إلا أنّ مشاهد الاستهدافات المتكررة، على قسوتها، تعكس واقعاً جلياً، أنّ هذه المقاومة اليوم، لا توال على حالها. فيها رجال مقاتلون لا يزالون يعملون على إلحاق هزيمة مقبلة بعدوهم، ويعملون على ترميم منشآت عسكرية تتحضر للمعركة الآتية؛ وفوق كل ذلك، جاهزون حالياً لأي جبهة قتالية جديدة، بحسب ما أعلن الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم.

والسؤال يعود من جديد، إذا ما فشلت كل تلك الحروب في القضاء على المقاومة في لبنان ونزع سلاحها، فهل حقاً يعتقد الأميركيون والإسرائيليون أنّ الضغوط السياسية المستمرة، ستنجز هذه المهمة؟

قد يعجبك ايضا