خطة الإملاءات الأمريكية على حكومة لبنان: مصلحة “إسرائيل” أولًا

نجحت الإدارة الأميركية في حجب الأنظار عن الخروق “الإسرائيلية” المتمادية ضدّ سيادة لبنان، ومنحتها صفة تبريرية بمفعول رجعي، حين نقلت كرة النار إلى داخل البيت اللبناني عبر ورقة تتضمن الرؤية الأميركية لإنهاء حالة الحرب المفروضة من جانب واحد على لبنان منذ التوصل إلى اتفاق وقف النار في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024.

وأرسل الموفد الأميركي توم برّاك هذه الورقة في سياق رفض التعديلات اللبنانية على ورقته السابقة، وأبرز ما في التوجّه الأميركي الجديد، الذي يعكس إملاءً غير قابل للنقاش، تحديد جدول زمني يفصّل أربع مراحل تنتهي بنهاية السنة الجارية لتجريد المقاومة من سلاحها كشرط أساس قبل تنفيذ بقية البنود التي نص عليها اتفاق وقف النار. وكان برّاك قد صرح في زيارة سابقة إلى بيروت بأنه لا توجد مهلة زمنية أمام لبنان في موضوع السلاح، وإن لم تكن هذه المهلة مفتوحة. ويشير هذا التغير إلى أن جهات مؤثرة في القرار الأميركي تدخلت لإعادة توجيه المسار، وسط غموض وتشابك في التقارير حول إنهاء مهام توم برّاك وإعادة تكليف مورغان أورتاغوس بمتابعة ملف لبنان، وهي التي أعفيت من هذه المهمّة مطلع حزيران/يونيو الفائت بسبب ما قيل عن امتعاض وزارة الخارجية الأميركية من تصرفاتها التي تتسم بالاستعلاء على مسؤولي الوزارة.

ويمثل فرض 31 كانون الأول/ديسمبر المقبل موعدًا نهائيًا لتسليم سلاح المقاومة من دون انتظار أي عملية سياسية لبنانية داخلية محاولة لقطع الطريق على أي نقاش يهدف لإنتاج إستراتيجية دفاعية تحمي لبنان من تغوّل الاحتلال. وبذلك، تُحرج الإدارة الأميركية لبنان مرة أخرى وتُخضعه لامتحان صعب قد يصيبه بهزات داخلية، كما تُعرّضه لمزيد من الإرهاب “الإسرائيلي” بذريعة عدم التجاوب مع “المطالب الدولية”، وهي تتنصل ثالثًا من أية التزامات تتحملها بوصفها ضامنة لاتفاق وقف النار الذي وضع نهاية للأعمال الحربية، من الناحية النظرية.

وتُعدّ الخطة الأميركية الجديدة تخليًا عن موجبات وقف النار وتغييرًا لخارطة الضمانات المطلوبة للبنان، وهي تعكس بالدرجة الأولى المطالب “الإسرائيلية”. فماذا في هذه الخطة؟.

خطة المراحل الأربع

تتوزع الخطة الأميركية، التي تم إعدادها وإملاؤها من جانب واحد، على 4 مراحل زمنية:

تتضمن المرحلة الأولى وتمتد 15 يومًا موافقة مجلس الوزراء اللبناني على إصدار مرسوم يتضمن “التزامًا بنزع سلاح حزب الله والجهات الفاعلة غير الحكومية الأخرى بالكامل بحلول 31 كانون الأول 2025″، مع التركيز على “التسليم الفوري والتدريجي للأسلحة الثقيلة مثل الصواريخ والطائرات من دون طيار إلى الجيش اللبناني في جنوب نهر الليطاني وشماله”، ومنع تحركات حزب الله العسكرية ومنها “الوصول إلى البنية التحتية العسكرية فوق الأرض وتحتها والمعدات العسكرية والمواقع العملياتية ومخابئ الأسلحة في جميع أنحاء البلاد”. وفي المقابل، تنص الخطة على وقف العمليات العسكرية البرية والجوية والبحرية “الإسرائيلية”، وتتعهد الولايات المتحدة وفرنسا بالضغط من أجل التزام “إسرائيل” بالتنفيذ الكامل لهذه المذكرة، واستئناف اجتماعات نصف شهرية للآلية الخماسية التي تضم الولايات المتحدة وفرنسا ولبنان وكيان الاحتلال وقوات “اليونيفيل” الدولية التي تعمل في جنوبي لبنان. علمًا أن هذه الآلية تم تعطيلها من الجانب الأميركي الذي منع تنفيذ موجبات وقف النار خلال الفترة الماضية، لا سيما لجهة وقف الاعتداءات “الإسرائيلية” على لبنان وانسحاب قوات الاحتلال إلى ما وراء الخط الأزرق في مقابل إخلاء المقاومة منطقة جنوبي نهر الليطاني. وتنص الخطة الأميركية أيضًا على “بدء مفاوضات بتيسير من الولايات المتحدة وفرنسا والأمم المتحدة”، وذلك “لحل مسألة المناطق والنقاط المتنازع عليها وترسيم الحدود بين لبنان و”إسرائيل””.

والملاحظة الأساسية على هذه المرحلة هي بدء تجريد المقاومة من سلاحها مقابل تعهد بوقف العدوان، وهذا تكرار للتجربة السابقة التي نصت على إخلاء قوات المقاومة من جنوبي الليطاني مقابل وقف العدوان، ولم يتم الالتزام من جانب العدوّ الذي لجأ إلى تأويل القرار 1701 ووسَّع غاراته إلى بقية الأراضي اللبنانية. فما الذي سيجبر العدوّ على التقيد بأي التزام بوقف العدوان طالما أن الأميركي (الخصم والحَكَم) يجاري الجانب “الإسرائيلي” في كلّ ذرائعه الأمنية ولا يوجد أي رادع في الجانب اللبناني؟.

وفي المرحلة الثانية التي تمتد من اليوم 15 إلى اليوم 60 من بدء التنفيذ المفترض للخطة، تبدأ حكومة لبنان في تنفيذ خطة نزع السلاح. وهنا، تحدد الخطة مراحل جغرافية خارج منطقة جنوب الليطاني (على سبيل المثال، المرحلة الأولى حتّى نهر الأولي شمال مدينة صيدا، المرحلة الثانية بيروت الكبرى، المرحلة الثالثة البقاع). وتم تفصيل أنواع السلاح المطلوب نزعه مثل قذائف الهاون، قاذفات الصواريخ/ القنابل، المتفجرات، صواريخ أرض – جو أرض وأرض – أرض، والطائرات المسيّرة، على أن يتم تفكيكها في جميع أنحاء البلاد في غضون 30 يومًا. واللافت أيضًا أن اللائحة تضم أسلحة الدمار الشامل مثل الأسلحة البيولوجية والكيميائية!! مع العلم أن أحدًا – حتّى العدو – لم يدّع يومًا أن المقاومة تحوز على هذا النوع من الأسلحة المحرمة دوليًا.

وتتحدث الترتيبات الأميركية عن نشر قوات الجيش اللبناني تدريجيًا في المناطق المشمولة بالخطة (وهو ينتشر فيها بالفعل)، وإقامة نقاط التفتيش (تحدّد الخطة “على سبيل المثال” تركيز 10 نقاط في النبطية وبعلبك – الهرمل). والمهم هنا أن الخطة تتحدث بوضوح عن وصاية أمنية خارجية على لبنان من خلال “مراقبة انتشار الجيش اللبناني وخطة نزع سلاح حزب الله من قبل الآلية الخماسية التي ستشرف على تقارير أسبوعية عن الامتثال، المراقبة الجوية، ودوريات الجيش للتحقق من تفكيك البنية التحتية العسكرية لحزب الله..”.، إضافة إلى المراقبة عبر الأقمار الصناعية والطائرات المسيّرة من قبل الأصول الأميركية/ الفرنسية للرصد الجوي”. وهذه أول إشارة صريحة إلى تحرك طائرات مسيّرة أميركية وفرنسية فوق لبنان لغرض المراقبة.

وفي المقابل، تبدأ “إسرائيل” الانسحاب من ثلاث نقاط حدودية من أصل خمس تحتلها في جنوبي لبنان، مع نشر القوات المسلحة اللبنانية في هذه النقاط، وعودة المدنيين إلى قراهم وممتلكاتهم، على أن تسهل الولايات المتحدة وفرنسا والأمم المتحدة ترسيم الحدود في منطقة مزارع شبعا بهدف إكمال الترسيم في المرحلة الرابعة، وإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين المحتجزين لدى “إسرائيل”.

وفي المرحلة الثالثة (من اليوم 60 إلى اليوم 90)، يجري تأكيد “الانسحاب الكامل للوجود المسلح لحزب الله” من منطقة جنوب الليطاني. وتنسحب “إسرائيل” من النقطتين الأخيرتين من النقاط الخمس، مع نشر الجيش اللبناني في النقاط التي تم إخلاؤها وعودة المدنيين إلى قراهم وممتلكاتهم.

وتتضمن المرحلة الرابعة (اليوم 90 إلى اليوم 120) “تفكيكًا كاملًا للأسلحة الثقيلة المتبقية وبقية أنواع الأسلحة في جميع انحاء لبنان”، ويتم وضع “جميع الأسلحة تحت سلطة الدولة، بمساعدة فنية عسكرية أميركية وبمساهمة من الآلية الخماسية”. كما يتم تأكيد انسحاب الجيش “الإسرائيلي” من جميع الأراضي اللبنانية. ويتزامن ذلك مع “إعلان نوايا من الدول الصديقة والداعمة لتنظيم مؤتمر اقتصادي في خريف ٢٠٢٥ لدعم الاقتصاد اللبناني وإعادة الإعمار”.

أما عن “عواقب خرق” هذه الخطة، فالأميركيون يتحدثون عن مكيالين: واحد للبنان يتضمن “تجميد مشروط للمساعدات العسكرية وفرض عقوبات اقتصادية”، وآخر لـ”إسرائيل” يتضمن توجيه “توبيخ من مجلس الأمن الدولي” ومراجعة الترتيبات العسكرية لمنع الاشتباك.

وضع لبنان أمام مأزق

تدل الخطة الأميركية المحبوكة بتفاصيل دقيقة عندما يتعلق الأمر بالمتوجبات على لبنان، وبغموض مقصود عندما يتعلق بسلطة الاحتلال، على أنه يجري وضع لبنان تحت رحمة سلسلة من الشروط والطلبات والإملاءات الأميركية و”الإسرائيلية”. أما الجانب “الإسرائيلي” فلا تقع عليه أي التزامات ثقيلة، بل إن التزاماته جرى ربطها بمجموع التزامات لبنان، وفق الخطة.

إضافة إلى ذلك، تم وضع لبنان ضمنًا تحت خيار صعب: القبول بالخطة كليًا، أو رفضها كليًا. وفي الحالة الثانية، يشرّع الجانب الأميركي للعدو مواصلة غاراته على الأراضي اللبنانية وربما تصعيدها بهدف تحميل لبنان المسؤولية عن رفض الخطة أو التحفظ على بعض أجزائها.

يدرك الأميركيون مسبقًا أن لبنان يريد ضمانات حقيقية لأمنه المنتهَك يوميًا من “إسرائيل”. كما يدركون أن أي تدبير بشأن مستقبل المقاومة يتطلب توافقًا لبنانيًا في سبيل إنجاحه، وهذا ما ألمح إليه توم براك في وقت سابق. وبالتالي، فإن إغلاق الباب الآن على الحوار وحشر لبنان ضمن مدى زمني ضيق ومحدّد قد يؤدي إلى أزمة داخلية في لبنان. فهل يسعى الأميركي إلى هذه النتيجة؟ ومن هو المستفيد منها بالفعل؟.

أما الحوافز الخارجية للبنان بشأن إعادة الإعمار والاستثمارات فبقيت هلامية ومرهونة بالمزاج الدولي، وليس من المستبعد أن يكون حالها حال العديد من المؤتمرات التي عقدت في بروكسل وباريس ولم ينتج عنها غير الوعود الرقمية.

علي عبادي ـ كاتب من لبنان
قد يعجبك ايضا