ثورة 21 سبتمبر وتحويل التحديات إلى فرصٍ للتطوير العسكري

قبل فجر ثورة حملت اسمها تاريخ جديد، كان المشهد العسكري في وطنٍ محاصرٍ يئنّ تحت وطأة وصايةٍ خارجية خانقة. كانت الأرضُ تُفتحُ على كلِّ الرياح، والسُلطاتُ تُدار بيدٍ أمريكية إسرائيلية. في مشاهدٍ من زمنٍ كاد أن يطمس ذاكرة الأمة، يجدر بنا التذكير بحربٍ ممنهجةٍ شنّها على اليمن أعداؤه، تقودها أمريكا قبل الثورة المباركة: جيشٌ مُعادٌ هيكلته لصالح مصالحٍ بعيدة، أسلحةٌ استراتيجيةٌ تُهدر وتُدمَّر، واغتيالاتٌ وجحيم من التفجيرات والإرهاب التي راحت تزهقُ الأرواح على جوانب الطرقات وفي ساحات العروض أمام بوابات الكليات. كانت السماء تمطرُ طائراتٍ تعبثُ بأمن الناس، وتطيحُ برموز الوطن، فيما الجماعات التكفيرية تنشر الرعب، وتفرضُ الانفجاراتُ اليومية نمطًا من الإجرام الصارخ الذي لم يعد يثيرُ سوى اليأس في قلوب البعض.

كل ذلك لم يكن صدفةً، بل كان مخططًا رُسم في أروقة سفارةٍ خارجية، حيث تُخططُ للسيطرة وتُوزع الأدوار: مئات من العسكريين وضباط المارينز الذين تدخّلوا وأنزلوا سيادة البلد، وحوَّلوا رموز الحكم إلى قطع شطرنجٍ يحركها سفيرٌ من دون رقيب أو حساب.

ثم بزغت ثورة 21 سبتمبر، تلك الشرارة التي أرادت أن تُنقذَ الوطن من احتلالٍ بمسميات أخرى. حملت الثورة لواءَ التصحيح؛ وجاء في مقدمة ذلك استعادة الجيش وبناؤه من جديد. رأى المحتلون في هذه الرؤية خطرًا وجوديًا، فانطلقوا لمحاولة إجهاضها بتعبئة أذرعٍ داخلية وخارجية — من حكوماتٍ متواطئةٍ إلى مرتزقةٍ جنَّدوا باسم الدين والسياسة — إلى أن اشتعلت نيران العدوان الأمريكي-السعودي في 26 مارس 2015، مستهدفةً كلَّ مقارّ الجيش ومخازن السلاح حتى تُبقي الثورة بلا أدوات دفاعٍ ولا قدرة على الردّ.

لقد كانت الحملة شاملة: موارد مالية وإعلامًا مضلِّلاً، وجحافل مرتزقةٍ قادمة من شتّى الاتجاهات. وقد بدا للوهلة الأولى أن هذا المدّ قادرٌ على ابتلاع الثورة ووأدها في مهدها. لكنَّ تدافعَ الشعب وحكمةَ القيادة، وعنايةَ الله، حالت دون ذلك، فكانت الأرضُ أنصعَ شاهدةً على معجزةٍ من صمودٍ لم يعرف التاريخُ مثيلاً لها.

ومع اندفاع العدوان، وغياب عناصر الجيش المنهك أو المتخاذل، ظهرَ جانبٌ آخر من الأمة: الأحرار، والقبائل اليمنية، الذين حملوا على عواتقهم مسؤولية الدفاع. تشكَّل الجيش واللجان الشعبية من هؤلاء، وبدأوا يقاومون بعتادٍ بدائي: بندقيةٌ، رشاشٌ، وإرادةٌ لا تلين، أمام طائرات إف-15 وإف-16، ودباباتٍ من طرازٍ مُهيب، وطائرات أباتشي، وجحافل مرتزقة. كانت المواجهة ليست مجرد قتالٍ مسلح، بل امتحانَ صمودٍ وذاكرةٍ شعبيةٍ ترفضُ الانكسار.

نقلات نوعية في صناعة الصواريخ

ومن رحم الحاجة بدأت معالمُ التصنيع الحربي تتكوّن. أولى الصواريخ البدائية هيّأت الأساس، ثم تتابعت الإنجازات، كلُّ منها أقوى من السابق. ضرباتُ الجيش واللجان المتكررة أوجعت العدوانَ ومرتزقته، وأفشلت كثيرًا من المخططات المرسومة. وكان دخولُ منظوماتٍ محلية الصنع من صواريخٍ باليستية — مثل منظومة “الصرخة” وصواريخُ الزلزال التي خرجت إلى الوجود عام 2016 — نكسةً لخطط المُهاجمين؛ إذ أثبتت دقَّتها وقدرتها على اختراق التحصينات وتدمير معسكرات العدو في مواقع حساسة.

وتوالت المحطاتُ الحاسمة: إطلاقُ بركان-1 المطوّر محليًا على قواعدٍ سعودية، حتى بلغ صاروخٌ ما للمرة الأولى مدينةً مثل جدة، في مؤشرٍ صارخٍ إلى أن القدرةَ الدفاعية لم تعد محض كلامٍ بل واقعٌ ميدانيٌ يفرض نفسه.

لم يتوقف التطور عند الصواريخ. فقد شكّل تصنيعُ الطيران المسيّر تحوّلًا استراتيجيًا فاعلًا في مسار المعركة. في مطلع 2019 أُعلن أن مخزونًا من الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية الحديثة بات في حوزة الجيش اليمني، وأن العام الخامس من العدوان سيكون عام الطيران المسيّر. وما إن تعاظمت هذه القدرات حتى بدأت تشرّقُ في سماء المعركة، تستهدف تجمعات المرتزقة والمنشآت الحيوية، فتوجعُ الاقتصاد وتشلُّ الجبهات. تظلُّ عملية “التاسع من رمضان” في مايو 2019، حين انطلقت سبع طائرات مسيرة لاستهداف محطات ضخ نفطية رئيسية في المملكة السعودية، عنوانًا لعقلٍ عسكريٍ محكمٍ ورصدٍ دقيقٍ أدى إلى توقُّف ضخ النفط وتأثيرٍ مباشرٍ على اقتصاد المملكة.

ثم جاء يومٌ آخر، أكبر حجمًا في دلالته، حين هوت عشر طائرات مسيَّرة في 14 سبتمبر 2019 على حقولٍ نفطية كبرى في بقيق وخريص بالمملكة السعودية، فأحدثت شللاً جعجع العدو وخسارةً هائلة في إنتاجه النفطي. كانت تلك العملياتُ رسالةٌ مفادها أنَّ من أراد أن يُشحِدَ الأمة ويُجردها من أدوات قوتها، قد بات يواجه واقعًا مختلفًا: وطنٌ قادرٌ على الرد، بل وأكثر من ذلك: على صناعة سلاحه بيديه.

ثم مرت الأعوامُ، وصانت القواتُ المسلحة مكتسبات الثورة، وتوسعت في مجال التصنيع الحربي. وفي مناسباتٍ وطنيةٍ عدة، رُفعت رايات القوة وعرضت أسلحةٌ تعكسُ تطورًا ملموسًا: صواريخٌ متنوعة، ومنظوماتٌ باليستية تصل إلى أعماق عدوٍّ كان يظنُّ أنه آمن.

قفزة في التصنيع مع طوفان الأقصى

لكن ما حدث بعد “طوفان الأقصى” كان فصلًا آخر في هذه الرواية؛ إذ دفعَ التضامنُ مع المقاومة الفلسطينية القوات المسلحةَ إلى تسريع وتيرةَ الصناعة والتطوير. خرجت طائرةٌ مسيَّرة اسمها “يافا” لتخترق التهوُّر المناخي للدفاعات، وتصل إلى عمق ما يسمى بعاصمة العدو. وفي مجال الصواريخ، بُثَّ إعلانٌ عن “فلسطين 2” — صاروخ فرط صوتي — يُعدّ من أحدثِ ما جرى الإعلان عنه، لتفوق سرعته سرعة الصوت وعبورِه منظوماتِ الدفاعِ المعقَّدة.

كلُّ هذا التحول لم يكن ليحدث لولا ثورة 21 سبتمبر: قوةٌ غيرت مسار التاريخ الوطني، وحوّلت تحدياتٍ قاسية إلى فرصٍ للإبداع العسكري والاعتماد على الذات. قبل الثورة، كان المخططُ يسيرُ لتحويل اليمن إلى بلدٍ منكسر السلاح، مُنهك، بلا أثرٍ في الحسابات الإقليمية. واليوم، وبعد سنواتٍ من الحرب والصمود، صار اليمن قوةً إقليميةً يُحسب لها حساب، قادرةً على مجابهةِ أعتى القوى، وتهزّ أساطيلُها أمام إرادته، وتختفي حملاتُها أمام صلابةٍ متراكمةٍ يومًا بعد يوم.

إنّ القيادةَ الثورية والسياسية تُبشر بأن القادم أعظم، وأنَّ الطريق نحو مزيدٍ من التقدم في التصنيع الحربي مستمرٌّ، وأن الشعب متسلح بحكمةِ قياداتٍ وصمودِ شعبٍ جاهد أن يُعيدَ لبلده جسارته ووجودَه وكرامته. وهذه الثورة، الصغيرةُ في عمرها الكبيرةُ في أثرها، ستبقى في سجلات التاريخ عنوانًا لمن بنى من رحم المحنة قوةً لا تُقهر.

اليمن اليوم لا يقاتل بسلاح فحسب، بل برسالة: أن الحصار يصنع العقول، وأن الحرب قد تفتك بالبنية التحتية لكنها تبني خبرات هندسية وعسكرية لم تكن في الحسبان. إن كل صاروخ ينطلق من أرض اليمن ليس مجرد قطعة حديد، بل شهادة ميلاد لثورة تقنية وصرخة تقول: “نحن نصنع مستقبلنا بأيدينا”.

وحين يقول الإسرائيليون: إن “العقبة اليمنية” باتت تهدد مشاريع التطبيع، وحين يقرّ خبراؤهم أن تكلفة كل عملية اعتراض تعادل عشرات الملايين، فهذا يعني أن «صُنع في اليمن» لم يعد شعاراً محلياً، بل حقيقة استراتيجية تُربك أعتى الأنظمة العسكرية. هكذا، يكتب اليمن فصلاً جديداً في معركة الإرادات، فصلٌ يُعلّم المنطقة كلها أن الابتكار قد يولد في أقسى الظروف، وأن التكنولوجيا ليست حكراً على من يملك المال، بل على من يملك الإرادة.

قد يعجبك ايضا