حروبُ السرديات.. ليس كل (مَن قال حقِّي غَلَب)
شعفل علي عمير
الجذورُ الأولى للسردية الصهيونية تعود إلى الحركة الصهيونية في القرن الـ19، التي سعت إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وقد اعتمدت هذه السردية على مجموعة من الأساطير الدينية والتاريخية المحرّفة لتعزيز مشروعية الوجود اليهودي، مثل وعد بلفور والأُسطورة الدينية حول “أرض الميعاد”.
تُعدّ السردية الإسرائيلية حجرَ الأَسَاس في محاولات ترسيخ الشرعية التاريخية والدينية للكيان الصهيوني؛ ما يجعلها محورًا جوهريًّا في الصراع العربي الإسرائيلي؛ إذ يسعى كُـلّ طرف إلى تبنّي سردية تاريخية تعزز موقفه وتخدم مصالحه على الصعيدين السياسي والدولي. وفي هذا السياق، تؤدي السردية الإسرائيلية دورًا محوريًّا؛ إذ ترتكز على مزيج من المفاهيم التاريخية والدينية والسياسية لتعزيز فكرة (إسرائيل) ككيان قومي للشعب اليهودي. وعليه، فَــإنَّ تحليلَ السردية وفهم مكوناتها الفكرية وتأثيرها في مسار النزاع العربي الإسرائيلي يعد أمرًا ضروريًّا لفهم تعقيدات هذا الصراع المتواصل، ولا سيما في ظل محورية القضية الفلسطينية.
تعتمد السردية الصهيونية على عناصر تاريخية ودينية تستمد منها شرعيتها، حَيثُ تستند إلى أُسطورة “عودة اليهود إلى أرض الميعاد” بعد قرون من الشتات، مدعومة بنصوص توراتية تُروّج لفكرة الترابط الأزلي بين الشعب اليهودي والأرض المقدسة. ويوفّر هذا المنهج أَسَاسًا روحيًّا وقانونيًّا يُستثمر لتبرير الوجود السياسي للكيان الصهيوني.
ومع ذلك، فَــإنَّ تحولات العصر الحديث، مثل العولمة والحداثة، تفرض على هذه السردية تحديث أدواتها الدفاعية وآليات ترويجها؛ مِمَّــا يجعل من وسائل الإعلام والتقنيات الحديثة أدوات حيوية في التأثير على الرأي العام العالمي وتقديم (إسرائيل) بصفته كيان ديمقراطي متقدم.
في المقابل، تتفاعل السردية العربية مع تحديات معقدة، أبرزها تباين المواقف والسياسات بين الدول العربية، واختلاف استراتيجياتها في مواجهة المشروع الصهيوني. وتتمحور السردية العربية حول الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، لا سِـيَّـما حق العودة وتقرير المصير، وتعتمد على سرد تاريخي يُبرز تطور الأحداث من منظور يتناقض بوضوح مع الرواية الصهيونية.
ويُعدّ تحليل سردية “أرض الميعاد” وترويج (إسرائيل) لها، في مقابل الإخفاق العربي في بلورة سردية مناهضة تُبرز تناقضات الرواية الصهيونية، من أبرز القضايا الإشكالية في الصراع العربي الإسرائيلي. فنجاح الكيان الصهيوني في الترويج لسرديته يعودُ إلى جُملةٍ من العوامل السياسية والتاريخية والدينية، استثمرها بفعالية على المستويين الدبلوماسي والإعلامي.
من أبرز عوامل نجاح الرواية الصهيونية قدرتها على توظيف التراث الديني والتاريخي الغربي؛ إذ يحظى الكيان الصهيوني بدعم واسع، خُصُوصًا من الولايات المتحدة والدول الأُورُوبية التي تتبنى سردية توراتية تنظر إلى فلسطين بوصفها “أرض الميعاد” لليهود. وقد جرى استخدام النصوص الدينية ببراعة لصياغة خطاب عاطفي يلقى صدى في المجتمعات الغربية؛ مِمَّــا أضفى على الكيان شرعية دينية وتاريخية مغلّفة بالدبلوماسية.
في المقابل، تواجه الدول العربية تحديات جمة في تقديم رواية بديلة. يبرز ضعف التنسيق الإعلامي والدبلوماسي كأحد أبرز الإخفاقات، حَيثُ تفتقر الجهود العربية إلى الرؤية الموحدة والاستراتيجية الواضحة.
كما تسهم الانقسامات السياسية والدينية داخل العالم العربي في عرقلة صياغة خطاب سردي جامع وفاعل.
وعلاوة على ذلك، فَــإنَّ ضعف الاستفادة من الوسائل الحديثة للتواصل ووسائل التواصل الاجتماعي يكشف عن قصور في الآليات التقليدية التي لا تزال تعتمد عليها بعض الدول العربية في ترويج سردياتها.
وغالبًا ما تفتقد هذه السرديات إلى المصداقية والابتكار؛ ما يُضعف من قدرتها على مجابهة الرواية الصهيونية المدعومة إعلاميًّا ودبلوماسيًّا من قِبل حلفاء فاعلين.
ولا يمكن إغفال البُعد السياسي والدبلوماسي في تكريس السردية الصهيونية، حَيثُ تترافقُ روايتُهم مع جهود دبلوماسية نشطة وشبكة تحالفات استراتيجية مع قوى دولية؛ مِمَّــا يمنحها زخمًا على الساحة الدولية. أما في السياق العربي، فكَثيرًا ما تُستغل القضية الفلسطينية لأغراض سياسية داخلية، بدلًا من التعامل معها كمحور لنضال عربي مشترك يستند إلى خطة شاملة ومدروسة على المستوى الدولي.
لذلك، فَــإنَّ مواجهة السردية الصهيونية تتطلب جهودًا منسّقة واستراتيجيات فاعلة تتجاوز الشعارات الانفعالية. ينبغي على الدول العربية تطوير سردية عقلانية، تستند إلى الحقائق التاريخية والإنسانية والدينية، وتُطرح بأُسلُـوب مدروس وقادر على إقناع المجتمع الدولي.
ويجب أن تشمل هذه الاستراتيجية وسائل التعليم، والإعلام، والدبلوماسية الثقافية، لتفنيد الرواية الصهيونية وفضح زيفها أمام الرأي العام العالمي.