حين غاب الجهاد غابت الأمة… آثار التنصّل عن المسؤولية الإيمانية والجهادية على واقع الأمة ومقدّساتها “2”
يحتلّ مفهوما الشهادة والجهاد مكانة مركزية في الخطاب القرآني، بوصفهما من أبرز القيم التي شكّلت وعي الأمة الإسلامية وهويتها الحضارية. وقد قدّم القرآن الكريم تصوراً فريداً لهذين المفهومين، يقوم على إعادة تعريف الموت والحياة، بحيث يصبح الجهاد سبيل الحياة الحقيقية، وتغدو الشهادة ذروة الارتقاء الإنساني في سبيل الله.
وقد تناول الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي هذه المفاهيم في سلسلة محاضراته القرآنية، مبيناً عمقها الإيماني والروحي، وناقلاً إياها من الإطار الشعاراتي إلى الفهم القرآني المتكامل، الذي يجعل الشهادة فعلاً واعياً نابعاً من إدراك عميق لمعنى الحياة والمصير…
القرآن الكريم قدّم مفهوماً حضارياً متكاملاً للحياة والموت، يتجاوز النظرة البيولوجية إلى رؤيةٍ روحية ووجودية، فالحياة في القرآن هي حياة الإيمان والجهاد، والموت الحقيقي هو موت القيم والضمير.
إن الشهادة، في هذا السياق، تمثل ذروة الوعي الإيماني، حين يتحول الموت إلى ميلاد جديد، والجهاد إلى مشروعٍ لإحياء الأمة وصون كرامتها.
ومن ثمّ، فإن القرآن الكريم لا يقدّم الجهاد والشهادة كقضايا عسكرية أو طقوسية، بل كمنظومة متكاملة لإعادة بناء الإنسان على أساس من الحرية والعزة والإيمان.
في محاضراته التي لا تزال تصدح في آذان الأحرار، يضع الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي يده على الجرح النازف في جسد الأمة. إنه السكوت والخذلان، ذلك الداء الذي استشرى في كل مفصل من مفاصل الحياة الإسلامية المعاصرة.
بصوت حازم وحجة دامغة، قال الشهيد القائد في محا ضرة [معرفة الله وعده ووعيد الدرس الثالث عشر]:
“السكوت هو الخطورة، لو كان السكوت من ذهب -كما يقولون- لما تحدث القرآن الكريم عن الجهاد، عن التضحية، عن الاستبسال، عن انفاق الأموال، عن التواصي بالحق، أليس القرآن كله حركةً وكلاماً، أم أنه صمتٌ وجمود؟ كله حركة، كله كلام، فعلاً قد يكون السكوت من ذهب ليذهب كل شيء، إذا سكتنا سيذهب ديننا، وستذهب كرامتنا، ونذهب -ونعوذ بالله- إلى الجحيم في الأخير، يذهب الناس إلى الجحيم.”
هذه الكلمات ليست مجرد تحذير، إنها صرخة في وجه أمة غارقة في سباتها، تُنتهك حرماتها وتُسلب أراضيها، بينما تتمسك بأوهام “الحكمة” و”الحذر” التي ليست سوى أقنعة لجُبن متأصل وخوف مستحكم.
ويُكمل الشهيد القائد تشخيصه العميق، منتقداً الثقافات المغلوطة التي مسخت الفطرة الإنسانية الأصيلة:
“لم يعد العرب حتى في مواقفهم من الآخرين، لم يعودوا على فطرتهم السابقة كعرب يوم كانوا عرباً على فطرتهم كانوا يمتلكوا قيماً، يأبى العربي أن يضام، يأبى أن يظلم… أما الضلال، أما مصيبة الضلال، أن يعيش الإنسان في ضلال، أن يعيش الناس في ضلال فإن آثاره سيئة جداً عليه في الدنيا وفي الآخرة.”
لقد كشف الشهيد القائد حقيقة مُرة: ما نشاهده اليوم أن هذه الأمة التي كان المطلوب أن تكون هي من تَجُوب البحار طولاً وعرضاً فتقف في سواحل أوروبا وفي سواحل أمريكا هي الأمة التي تُؤْمَر هي وزعماؤها بالقعود والخنوع, قعود الذلة، قعود الخزي، قعود الخنوع والاستسلام، ونرى أولئك الذين لُعِنوا على لسان الأنبياء هم من يَجُوبون البلاد طولاً وعرضاً، فرقاً عسكرية تمتلك أفتك الأسلحة، أليست هذه من تقليب الموازين؟ أليست هذه من القضايا المقلوبة، والحقائق المعكوسة؟. في البحار الفرنسيون والبريطانيون والأمريكيون والأسبان وغيرهم هم من يتحركون، يحملون الأسلحة، هم من يحركون قطعهم البحرية في داخل وأعماق البلاد الإسلامية، والمسلمون كلهم لا يجوز لأحد أن يتحرك قيد أنملة.
إن الله أراد لهذه الأمة هكذا أن تكون أمة تتحرك في العالم كله {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فهاهي تقعد ويتحرك أولئك. ولماذا يتحركون؟. هل ليأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟ أم لينشروا الباطل والفساد والقهر والظلم والذلة والخزي لكل أبناء البشرية وللعرب خاصة؟ للعرب خاصة. هذه أشياء مؤسفة، هذه حقائق نحن نشاهدها.”
هذه المعادلة بسيطة وواضحة: كلما تقاعست أمة، كلما قَوِيَ عليها عدوها، إنه قانون الحياة الذي لا يُستثنى منه أحد، الشعوب التي تنتظر الفرج دون عمل، والأمم التي تُسلم أمرها للطغاة راجية رحمتهم، لن تحصد إلا مزيداً من الذل والهوان.
فالخوف لم يعد مجرد شعور فردي، بل أصبح عقدة نفسية جماعية غُرست في نفوس المسلمين عبر عقود من الهزيمة والانكسار، خوف من أمريكا، خوف من إسرائيل، خوف من “المجتمع الدولي”، خوف من العقوبات، خوف من… كل شيء إلا الله!
وهنا قال الشهيد القائد بكل وضوح:
الإمام علي (صلوات الله عليه) هو الذي قال: ((لا تجد المؤمن جباناً ولا بخيلاً)), ((البخل والجبن خَلَّتان يجمعهما سوء الظن بالله)). من كلام الإمام علي (عليه السلام) ((يجمعهما سوء الظن بالله)) مرض، فإذا كان ذلك مرض فيعني أن ذلك الموقف موقف غير صحيح.
هذه العبارات القصيرة يجب أن تكون زلزالاً في عقول المسلمين المهزومين نفسياً، لقد عمل الشهيد القائد على “كسر حاجز الخوف والصمت من أمريكا“ من خلال مشروعه القرآني، مؤكداً أن “منطلق الثقة بالله هو مفتاح التحرّر من الخوف الذي تسعى أمريكا والكيان الإسرائيلي إلى زرعه في قلوب المسلمين.”
من أروع ما قاله في هذا السياق:
“نتحدث بروحية من يفهم أنه طرفٌ في هذا الصراع، ومستهدفٌ فيه شاء أم أبى، بروحية من يفهم بأنه وإن تنصَّل عن المسؤولية هنا، فلا يستطيع أن يتنصل عنها يوم يقف بين يدي الله.”
هذا الوعي بالمسؤولية الإيمانية والجهادية هو الكفيل بأن تحرر الأمة من ربقات الخوف والهزيمة والخنوع..
عندما تخلَّت الأمة عن أداء مسؤوليتها الجهادية التي فرضها الله عليها، تتابعت عليها موجات الاستعمار والاحتلال بأشكال متعددة — صليبي، تاتاري/مغولي، عثماني، استعماري أوروبي، أمريكي وإسرائيلي — وكل حضارة احتلتها تركت أثراً وبقيّة خراب ونهب وتفكيك.
كيف يترجم غياب الجهاد عملاً على الأرض؟
- فقدان المناعة السيادية والمؤسسية: الجهاد بمعناه الشامل يعنى تهيئة مؤسسات قادرة على حماية المجتمع: جيش ومدارس ومؤسسات قضائية واقتصادية، غياب هذا البُعد يُسهِم في ضعف قدرة الدولة على مقاومة الطامعين، فيضعف السيادة ويُسهِل الدخول الفعلي لقوى خارجية تستغل الفراغ.
- الاستباحة الاقتصادية والثقافية: الاحتلال ينهب الموارد، ويهيمن على أسواق الدولة، ويوظف الاقتصاد لتوطيد النفوذ، ثقافياً يقوم المحتل بتقويض القيم، وتشويه الذاكرة التاريخية، وإضعاف القداسة الشعبية تجاه الرموز والمؤسسات الدينية والثقافية.
- التفكك الاجتماعي : لما تخلت الأمة عن مسؤوليتها في حماية نفسها والدفاع عن كرامتها وأنفصلت عن رسالتها وكتابها الذي كرمها الله به أنتجت شعوباً مشتّتة: طوائف وقبائل ومذاهب وأحزاب متناحرة، وأصبحت المجتمعات العربية والإسلامية ساحة صراع داخلي، وتنتشر النزاعات القبلية والطائفية التي تُسهِم في تفتت الوحدة وتغذية نفوذ الأجنبي.
- إضعاف البنية الأخلاقية والتربوية: غياب التربية القرآنية المتوازنة يترك الفراغ لثقافات استهلاكية تضعف جذور الثبات، ويؤدي إلى تهاون في أداء الواجبات العامة، وسهولة قبول الوصاية والعمالة المتعمدة.
- هجرة العقول والكوادر: الفراغ التنموي والحروب المتكررة والفساد يجعل الأفضلين يهاجرون؛ فتتراجع طاقة التجدد، ويزداد التخلّف، وتطول فترة إعادة البناء.
- استباحة المقدسات والرموز: لم يكتف الأعداء بانتهاك كرامة هذه الأمة بل دنسوا واستباحوا مقدساتها وتعرضوا حتى لرسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) بالسب والتشويه واحرقوا كتاب الله.
- الهيمنة: لما تخلت الأمة عن الجهاد في سبيل الله فقدت قرارها وأصبحت تُصاغ وفق مصالح الآخرين، لا وفق مصالح الأمة.
- تعمّق الفقر الاعتماد على أعدائها غياب القيادة المجاهدة المتمسكة بكتاب الله والاقتداء برسول الله فتح المجال لأعداء الأمة لسرقة خيراتها وتحويلها إلى أسواق استهلاكية لمنتجاتهم حتى أصبحت معتمدة في قوتها على الخارج، ما يجعل التحرّر الوطني أمراً صعب التحقيق.
- صعود أنظمة عميلة وفاقدة للشرعية: غياب الثقافة القرآنية من واقع الأمة مكن الأعداء لاختراقها وتقديم عملاء ليحكموها ويربونها على الخنوع والاستسلام..
التاريخ المعاصر يبيّن أن الأمّة التي حافظت على وعيها وهويتها الثقافية كانت قادرة على الصمود، أو على الأقل إعادة البناء بسرعة، كاليابان والصين مثلا بينما تلك التي تخلّت عن مسؤولياتها التربوية والدفاعية واجهت استنزافاً طويل الأمد كحال أمتنا الإسلامية التي وصلت لمستوى رهيب من الخنوع والذلة حتى لمن ضرب الله عليهم الذلة ولعنهم. إذن، القضية ليست حتمية تاريخية، بل نتيجة انفصال عن الهوية والدين والثقافة ترك أثرا عميقا على الناس والأجيال.
يمكن للأمة أن تستعيد مكانتها وأن تحافظ على كرامتها وتدافع عن مقدساتها من خلال:
- العودة الجادة إلى القرآن الكريم والتحرك في سبيل الله والانطلاقة تحت عنوان “في سبيل الله” وليس بشعارات وطنية أو قومية
- الاعتماد على النفس: الأمة يجب أن تمول نفسها من داخلها وعدم الاعتماد على مساعدات خارجية حفاظاً على الاستقلالية ومن خلال الإنفاق في سبيل الله من كل أفراد المجتمع.
- بناء الأمة المادي والمعنوي: إعداد القوة بكل أشكالها: “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ“
- الوحدة والتماسك: التطبيق العملي لقول الله سبحانه وتعالى “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا“
والتعاون التعاون على البر والتقوى وتجسيد الأخوة الإيمانية: “إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ“
- فهم أهمية الجهاد في سبيل الله وعظمة التضحية وبيع النفس والمال من الله كما أوصانا بذلك:{ إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المْؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ}
- الثقة بنصر الله: يجب أن تعود الأمة بكل جدية إلى الله وأن تثق به وتثق بنصره كما قال جل شأنه {إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} لا أن تلهث وراء البحث عن السلام من أعدائها..
- تحصين الأجيال وحمايتهم من الغزو الثقافي والحروب الناعمة التي يحاربنا بها الأعداء لهزيمتنا نفسيا فصلنا عن قيمنا وأخلاقنا وتعاليم ربنا..
- فهم طبيعة العدو: معرفة طبيعة الصراع مع العدو كما قدمها القرآن الكريم ومعرفة أن اليهود والنصارى أعداء : “وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ“
إن غياب الجهاد بمعناه الصحيح قاد إلى سلسلة متصلة من النتائج المؤلمة: احتلالات متعاقبة، نهب موارد، هدم قيم، تفكيك مجتمعي، واستباحة لمقدسات وتحويل مجتمعات إلى أرضٍ خاضعةٍ لغيرها. لكن التاريخ يقدم أيضاً دروساً في أن الاستعادة ممكنة حين تُعاد الأمور إلى نصابها: وعي قرآني ، مؤسسات قوية، اقتصاد مستقل، ثقافة وطنية متينة، ووحدة مجتمعية قادرة على مقاومة أدوات الاستلاب النفسي والسياسي. هذه العناصر ليست رفاهية فكرية، بل شروط عملية لكرامة الأمة وعودتها إلى دورها الحضاري الذي وصفها الله به: «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ…»، وما استعادتها لذلك الدور إلا بمسؤوليةٍ جماعيةٍ واعيةٍ متجددة.