سيِّدُ الشعراء السيد الحميري
إعداد/ عبدالرحمن الحمران
مولده وبيئته الأولى:
هو إسماعيل بن محمد بن يزيد الحميري، صاحب الكلمة النافذة، عظيم القدر المنزلة، ينسب إلى حِمْيَر إحدى قبائل اليمن المعروفة .
و السيد نسبة لغوية لا أسرية ، حيث لم يكن فاطمياً و لا علوياً .
كان رحمه الله تعالى من شعراء أهل البيت ( عليهم السلام ) المجاهرين بولائهم، و المصرحين بتشيعهم رغم ما كان يحيط بهم من ظروف معاكسة .
ولد بعمان سنة : 105 هجرية و نشأ في البصرة، و توفي في أيام هارون العباسي، في عام : 178 هجرية.
كان أبواه من النواصبِ المتشدِّدين ببغضهم لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وكانا على مذهبِ الإباضية، وهي فرقة من فِرَقِ الخوارج التي تُكفّرُ علياً، إلّا أن حبَّه لأمير المؤمنين كان أكبر من كل عاطفةٍ أو صلةٍ مهما كانت لصيقة به، فكان يرتعدُ عندما يسمعُ والديه وهما يسبَّانِ أمير المؤمنين وولده آناءَ الليل وأطرافَ النهار، وكثيراً ما يحبسُ دموعَه عندما يسمعهما وهما يسبَّانه ويلعنانهِ بعد صلاةِ الصبح، فينتظرُ طلوعَ الشمسِ ليخرجَ عنهما إلى قارعة الطريق… يطوفُ في الطرِقِ والأزقّة لا يلوي على شيء فكلُّ همِّه هو الابتعاد عن هذا البيت اللعين.
لم تمنع هذه المعاناة ذلك الصبي من حبِّه لعلي، بل إن حبَّه كان يزدادُ يوماً بعد يوم رغم الشقاء اليومي الذي يعانيه جرّاء هذا الحب الذي فاق حبَّه لوالديه بل إنه أبغضهما غاية البغض وأحبَّ فراقهما لسبِّهما علياً، ولنستمع إليه وهو يصف شعوره نحو والديه في تلك الفترة فيقول: (كنتُ وأنا صبي أسمع أبويّ يثلبانِ أمير المؤمنين فأخرجُ عنهما وأبقى جائعاً، وأؤثر ذلك على الرجوع إليهما، فأبيتُ في المساجد جائعاً لحبِّي فراقهما وبغضي إياهما حتى إذا أجهدني الجوع رجعتُ فأكلتُ ثم خرجت).
ضاق أبوه به ذرعاً وعزمَ على ثنيهِ عن حبِّ عليٍّ مهما كلّفَ الأمر حتى وأن اضطره ذلك إلى قتله! فأمره بسبِّه فامتنع، وألحَّ عليه في ذلك، لكنه فوجئ بابنه وهو يردُّ عليه:
خِفْ يا مــحــمّدُ فالـقَ الأصباحِ وأزِلْ فسادَ الــديــنِ بالإصـــلاحِ
أتــسـبُّ صـنوَ محـمدٍ ووصــيَّهُ ترجـو بذاك الـفـــوزَ بالإنــجاحِ
هيهاتَ قد بعُدا عـلـيـــكَ وقـرَّبا منكَ العذابَ وقابـــــضَ الأرواحِ
أوصى النبيُّ له بــخـيـرِ وصيةٍ يـومَ الــغديـرِ بأبـــيـنِ الإفــصاحِ
من كنتُ مولاهُ فــهــذا واعلموا مولاهُ، قـــولُ إشـــاعةٍ وصِــراحِ
قاضي الديونِ ومــرشدٌ لكمْ كما قد كنتُ أرشدُ من هـدىً وفـــلاحِ
أغويتَ أمِّي وهـــي جِدّ ضعيفة فـجرتْ بقاعِ الغيِّ جريَ جِــــماحِ
بالــشتمِ للعَلَمِ الإمــامِ ومــن لــه إرثُ النبــيِّ بـــأوكــدِ الإيـــضاحِ
إنِّي أخـافُ عليكمـــا سخطَ الذي أرسى الجبالَ بسبسبٍ صحصاحِ
أبــويَّ فــاتَّـقـيـا الإلــــهَ وأذعِـنـا لـلـحـقِّ تـعـتـصـــما بحبلِ جناحِ
لم يستطعِ الأبوانِ مقارعة هذه البلاغة المدعومة بالحجج والقرائن الواضحة على منزلة أمير المؤمنين العظيمة، ولكنهما أبَيَا أن يستجيبا لابنهما وأخذتهما العزة بالإثم فصمَّمَا على قتلهِ وتواعدا على ذلك!
أحسَّ الولدُ بما يضمرُه أبواهُ له من الشر فهربَ إلى الأمير عقبة بن سلم وأخبره بقصته فقال له: لا تقربهما، وأعدّ له منزلاً أمر له فيه بما يحتاج إليه وأجرى عليه مالاً يكفيه ويفضل على مؤونته، فكان هذا الفراق بينه وبين والديه أبديَّاً حتى ماتا فورثهما.
البداية الأدبية:
قال أبو الفرج في الأغاني: وروى الحسن بن علي بن المغيرة ، عَن أبيه ، عن السيد قال : رأيت النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِه وَسَلَّمَ في النوم وكأنَّه في حديقة سبخة فيها نخل طوال وإلى جانبها أرض كأنها الكافور وليس فيها شيء فقال : أتدري لمن هذا النخل ؟ قلت : لا يا رسول الله قال: لامرىء القيس بن حُجْر فاقلعها واغرسها في هذه الأرض ففعلت.
فأتيت ابن سيرين فقصصت عليه رؤياي فقال : أتقول الشعر ؟ قلت : لا ، قال : أما إنك ستقول الشعر مثل شعر امرىء القيس إلا أنك تقوله في قوم بررة أطهار قال : فما انصرفت إلا وأنا أقول الشعر.
زادتْ هذه الرؤيا من إيمانه ويقينه بعلي وأولاده البررة وكان يعرف أن حبه هو الصراط المستقيم .
صدّق السيد الحميري بشعره رؤياه فقد سخّرَ شعره لمدح أهل البيت وفاق شعراء عصره كثرة وجودة حتى قال له الإمام الصادق (عليه السلام): أنت (سيد الشعراء)، وهذه الشهادة من الإمام لا تحتاج إلى توضيح على مكانة السيد في عالم الشعر، أما في التاريخ فله باع طويل فيه، وقد ذكرت المصادر أن له كتاب (تاريخ اليمن).
أقوال أئمة الشعر والأدب:
ومما يوضحُ تقدّمه على شعراء عصره أقوال أئمة الشعر والأدب ممن عاصروه وما بعدهم بحقه، فقد عدَّه المؤرخون أحد الشعراء الثلاثة الذين كانوا أكثر الناس شعراً في الجاهلية والإسلام وهم: السيد الحميري، وبشار بن برد، وأبو العتاهية. الأغاني ٧ / ٢٢٩.
يقول عنهم أبو الفرج الأصفهاني: (لا يُعلم أن أحداً قدر على تحصيل شعر أحد منهم أجمع).
وقال المرزباني: (لم يُسمَع أن أحداً عمل شعراً جيِّداً وأكثر غير السيِّد)
ويقول مروان بن أبي حفصة عندما سمع شعراً للسيد: (ما سمعتُ قط شعراً أكثر معاني وألحظ منه).
وقال التوزي: (لو إن شعراً يستحق أن لا ينشد إلّا في المسجد لحسنه لكان هذا ولو خطب به خاطب على المنبر في يوم الجمعة لأتى حسناً ولحاز أجراً).
وقال بشار بن برد ـ الذي كان متزلفاً للسلطة ـ: (لولا إن هذا الرجل قد شغل عنَّا بمدح بني هاشم لشغلنا ولو شاركنا في مذهبنا لأتعبنا)
يقول الدكتور طه حسين: (ولعل شيعة العلويين لم يظفروا بشاعر مثله ــ أي السيد الحميري ـــ في حياتهم السياسية كلها، وقف عليهم عمره وجهده، وكاد يقف عليهم مدحه وثناؤه، مخلصًا في ذلك كله إخلاصاً لا يشبهه إخلاص).
ورغم أن قول طه حسين قد جانب الحقيقة فتاريخ الأدب الشيعي يزخر بكثير من الشعراء الذين وقفوا عمرهم وشعرهم لأجل أهل البيت وأخلصوا في إظهار قضيتهم كدعبل الخزاعي والكميت بن زيد وغيرهما إلا أنه يعطي مؤشراً واضحاً على إيمان السيد بأهل البيت واستماتته في الدفاع عن مذهبهم الحق.
نماذج من شعره:
يقول عن وقعة كربلاء وما ارتكبه بنو أمية بحق الحسين عليه السلام:
إن كـنـتَ مــحــزونـاً فمالكَ ترقدُ هـلّا بـكـيـتَ لـمـن بـكاهُ محمدُ
هلا بكيتَ على الحسينِ وأهــلِـه؟ إنَّ الـبـكـاءَ لـمـثـلـهـم قد يُحمدُ
لِتضعضعِ الإسـلام يـومَ مــصابهِ فالجودُ يبكي فقدَه والــســــؤددُ
فـلـقـد بـكـتـه فـي السـماءِ ملائكٌ زهــرٌ كــرامٌ راكــعونَ وسجَّدُ
أنسيتَ إذ صارت إليه كــتــائــبٌ فيها ابنُ سعدٍ والطغاةُ الجُحَّدُ؟
فسقوهُ من جُرعِ الحِتوفِ بمـشهدٍ كـثـرَ الــعداةُ بــهِ وقلَّ المُسعدُ
لمْ يـحـفـظـوا حـقَّ الـنـبيِّ مـحمدٍ إذْ جرَّعوه حــرارةً لا تــبــردُ
قتلوا الحسينَ فأثكلوه بـسـبـــطـهِ فالثكلُ من بعــدِ الحسين مـبرَّدُ
كيفَ القرار وفي السبايا زيـنـبٌ تدعو بفرطِ حــرارةٍ: يا أحمـدُ
هذا حسينٌ بالسيـــوفِ مُـبـضَّـعٌ متلـــطِّخٌ بدمــائــهِ مُسْـتَـشْـــهَدُ
عارٍ بلا ثوبٍ صريعٌ في الثرى بين الحوافرِ والسـنابكِ يُقــصَدُ
والطـيـبـونَ بـنـوكَ قَـتـلى حوله فـوقَ الـتُـرابِ ذبــائحٌ لا تـلحدُ
يا جدُّ قد مـنعوا الفـراتَ وقـتَّلوا عطشاً فليسَ لهم هـنالكَ موردُ
تناقلت المصادر الأدبية والتاريخية شعره لجودته وجزالته وعُدَّ من عيون الشعر العربي، فقد خصَّه المرزباني بفصل خاص في كتابه (معجم الشعراء) كما خصَّه بكتابٍ منفرد، وكتبَ عنه أبو بكر الصولي كتاب (أخبار السيد الحميري)، كما اختار من شعره المستشرق الفرنسي دي مينار مجموعة كبيرة في مائة صفحة وطبعت في باريس، أما ديوانه فقد جمعه وحققه شاكر هادي شكر ونشره ضیاء حسین الأعلمی، وشرح ديوانه أيضاً الشیخ محمد هادي الأمینی ابن الشیخ عبد الحسین الأمیني.