غزة.. الحصار المُستمرّ وامتحان الضمير العربي والإسلامي
شاهر أحمد عمير
في لحظةٍ فارقة من تاريخ الأُمَّــة، تقف غزة وحيدة في مواجهة آلة القتل والحصار، كمدينة تقاتل عن كرامة العرب وضمير المسلمين، بينما يتناثر حولها صمتٌ دوليٌّ مخزٍ، وتواطؤ إقليمي يثير الاشمئزاز والأسى.
غزة اليوم ليست مُجَـرّد ساحة حرب، بل مرآة صادقة تعكس واقع الانحدار الأخلاقي والسياسي الذي تعانيه كثير من الأنظمة والمجتمعات العربية والإسلامية. أن يُترك شعب بأكمله ليواجه الجوع والدمار، وأن تُغلق في وجهه أبواب الحياة، لهو عار يتجاوز السياسة، ويضع الإنسانية كلها أمام مسؤولياتها.
لقد تجاوز الحصار المفروض على غزة عقدًا ونصفَ عقد من الزمن، وازداد قسوةً ووحشية في الأشهر الأخيرة حتى أصبح الموت جوعًا مشهدًا يوميًّا مألوفًا لا يُحرّك ساكنًا في عواصم العرب. مشهد تقف فيه الأُمهات في طوابير الخبز، ويبحث فيه الآباء عن جرعة حليب لأطفالهم، ويُدفن فيه الشهداء دون كفن، بينما العالم منشغل بمعادلات المصالح وصفقات التطبيع.
المفارقة أن الشعب المحاصَر الذي يُراد له أن يموت جوعًا أَو يستسلم ذلًا، هو ذاته الذي لم يتخلَّ عن المقاومة. يقاتل لا طلبًا لطعام أَو دواء، بل حفاظًا على الكرامة والمبدأ، ويصمد ليحفظ للأُمَّـة ما تبقى من عزة وقضية.
غزة تُقاتل نيابة عن الجميع، وتدفع ثمن وقوفها الصلب عن أُمَّـة تُركت هويتها تُنهب، وقضيتها تُساوَم، وشعوبها تُربكها الحسابات السياسية الضيقة. ومع ذلك، تُترك غزة وحدها، بلا إسناد سياسي حقيقي، ولا دعم إنساني كافٍ، في ظل حصار تتشارك في صنعه أطراف متعددة، بعضها عربيّ قبل أن يكون إسرائيليًّا أَو دوليًّا.
حين تُغلق المعابر في وجه الجرحى، وتُمنع المساعدات من الوصول إلى المحاصرين، ويُحاصر المظلوم بدل أن يُحاصر المعتدي، فَــإنَّ السؤال لم يعد مَن يقتل غزة، بل مَن يخذلها؟ من يتحمّل مسؤولية هذا الانهيار؟ من يصمت؟ من يتواطأ؟ من يغض الطرف عن الجريمة؟ الجريمة هنا لم تعد محصورة في القصف، بل في صمت الشركاء، وتواطؤ بعض الأشقاء، وتراجع الوعي لدى جمهور الأُمَّــة.
ومع كُـلّ هذا السواد، يبرز نور المواقف النزيهة التي لا تساوم ولا تخضع. لقد عرفنا قادة ما زالوا ينتمون لفلسطين بصدق، ويعبّرون عن شرف الأُمَّــة بكلماتهم وخياراتهم. وفي مقدمة هؤلاء القادة السيّد عبد الملك بدر الدين الحوثي، حفظه الله، الذي لم يخذل فلسطين يومًا، ولم يغِب عن مشهدها، بل كان صوته عاليًا في كُـلّ منبر، وموقفه حاضرًا في كُـلّ ساحة، ودعمه ثابتًا لا تحكمه حسابات المصالح، بل يُعبّر عن انتماء راسخ وأصيل.
مواقف السيّد القائد ليست مُجَـرّد تضامن نظري، بل تعبير عن إيمانٍ عميق بقضية فلسطين؛ باعتبَارها جوهرَ قضايا الأُمَّــة ومقياس صدقها. هذا النموذج من القيادة هو ما تحتاجه الشعوب اليوم؛ قيادة ترتكز على المبادئ، وتواجه الواقع بشجاعة، وتربط المصير القومي بمصير فلسطين، لا بمصير العروش والتحالفات الزائفة.
إن الوقوف إلى جانب غزة ليس ترفًا ولا شعارًا للاستهلاك، بل واجب ديني وأخلاقي وإنساني، لا تسقطه ضغوط السياسة ولا تبرّره حسابات الخوف. ومن يخذل غزة اليوم، إنما يُسقط آخر ما تبقى من كرامةٍ في وجدان الشعوب.
لقد آن الأوان أن يدرك الجميع أن التخلي عن غزة هو تخلٍّ عن فلسطين برمّتها، وتخلٍّ عن العروبة في جوهرها، وخيانة لقيم الإسلام في أصفى معانيه. فغزة ليست مُجَـرّد رمز مقاومة، بل هي حجر الزاوية في معركة الوعي والحرية، ومعيار الانتماء الحقيقي.
غزة لا تحتاج إلى بيانات شجب، ولا إلى مؤتمرات عقيمة، بل إلى مواقف واضحة ومساندة عملية، تعيد للإنسانية معناها، وللأُمَّـة هويتها، وتُبرهن أن فلسطين ما زالت في القلب، لا في الهامش.