قلق الصهاينة من كارثة تفوق السابع من أكتوبر… أيُهبُّ طوفان الصحراء من اليمن؟
مع اقتراب الذكرى السنوية الثانية لاشتعال أوار الحرب على غزة، وفي ظل المجازر الوحشية التي أودت بحياة عشرات الآلاف من أبناء فلسطين على يد الكيان الصهيوني، لا تزال ملحمة “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر عام 2023 تمثّل منعطفاً مفصلياً في سجل هذا الكيان الأمني، إذ سطرت أفدح إخفاق استخباراتي في تاريخه المزيف.
تجمع تحليلات وسائل الإعلام ومعاهد البحث العبرية التي تناثرت في الأشهر التي أعقبت نيران الحرب، على أن مزاعم التفوق الاستخباراتي للكيان كانت أوهى من خيوط العنكبوت أمام صلابة الواقع الميداني، ولا سيما يوم تنفيذ فصائل المقاومة الفلسطينية لضربتها المباغتة، وقد عُزي هذا الإخفاق المدوي إلى قصور التقدير في استشراف قدرات المقاومة، والركون المفرط إلى الوسائل التقنية الباردة بديلاً عن استقراء نبض الميدان، ولم تقتصر تداعيات هذا الفشل الاستخباراتي الفادح على الخسائر البشرية والسياسية فحسب، بل قوضت أيضاً صرح المصداقية الأمنية لتل أبيب الذي شيّدته على مدى عقود.
وخلافاً لمزاعم ساسة تل أبيب حول تفوقهم الاستخباراتي المزعوم، كشفت ملحمة طوفان الأقصى عن ضحالة إدراك الصهاينة للمخاطر المحدقة بهم، وقصورهم البائن في استشعارها، وفي أعقاب هذا الإخفاق المدوي، استشرى القلق في أوصال الصهاينة من تكرار سيناريوهات مماثلة، فلم يعد شبح التهديد في تصورهم قابعاً خلف أسوار غزة والضفة الغربية فحسب، بل أضحى يلوح من لبنان والأردن، وخاصةً من أرض اليمن.
ومع تحول الضربات الصاروخية والمسيّرات اليمنية نصرةً لفلسطين إلى نهج يومي لا ينقطع، استفحلت المخاوف في دهاليز السياسة والأمن في تل أبيب، وبات قادة الكيان ومراكز أبحاثه يقرون صراحةً بفداحة التهديد اليمني، ويطالبون بإعادة النظر في منظوماتهم الاستخبارية واستراتيجيات الردع لديهم درءاً لنكبة أخرى تماثل السابع من أكتوبر أو تفوقه هولاً.
دقّ مركز “مئير عميت” للمعلومات الأمنية، التابع لوزارة خارجية الكيان الصهيوني، ناقوس الخطر للمرة الأولى في سبتمبر 2024، معلناً أن قوات أنصار الله اليمنية قد انسابت إلى الأراضي السورية وشرعت في التخطيط لشن هجوم بري على الكيان الصهيوني، ووفقاً لهذا التقرير، فإن التنسيق المحكم بين أركان محور المقاومة، قد مهّد السبيل لأنصار الله لنقل قواتهم من الأراضي النائية إلى تخوم الأراضي المحتلة تمهيداً لتوجيه ضربة برية مباشرة تزلزل أركان الكيان.
كما أطلقت صحيفة “إسرائيل هيوم” في صيف هذا العام صيحة تحذير مفادها أن جيش الاحتلال، إذ يستشعر جسامة التهديد اليمني، قد شرع في الاستعداد لسيناريو توغل المقاتلين اليمنيين إلى فلسطين المحتلة – سيناريو بلغت معه هواجس تل أبيب ذروتها في ظل التدريبات المكثفة للقوات اليمنية واضطراب المشهد الإقليمي.
وکتبت مؤسسة “مشجاف” المتخصصة في دراسات الأمن الداخلي والاستراتيجي الصهيوني في تقرير نشرته مؤخراً: “أثبتت عمليات اليمن أنه لا مجال للاستهانة بتهديدات صنعاء”، وأشارت المؤسسة إلى الطفرة النوعية الملحوظة في طبيعة وشدة قدرات الردع لدى القوات المسلحة اليمنية.
ونقلت القناة السابعة الصهيونية عن خبير في هذه المؤسسة قوله: “اليمنيون يصنعون بأيديهم أسلحةً تمطرنا بوابلها باستمرار، وهم يسبرون أغوار دفاعاتنا ويسعون لاختراق حصوننا وتوسيع قدراتهم للتغلب على منظوماتنا”.
كما اعترفت القناة الثانية عشرة للتلفزيون الصهيوني الشهر المنصرم قائلةً: “اليمنيون تنظيم فائق الصلابة والعزم، وقدرة إسرائيل على إجبارهم على كفّ أيديهم عن إطلاق صواريخهم محدودة للغاية”.
تنبثق هذه التقديرات من الأداء الباهر لأنصار الله الذين أبانوا على مدار العامين المنصرمين عن دعمهم الصلب للشعب الفلسطيني من خلال ضربات صاروخية ومسيّرات متتالية استهدفت منشآت الكيان الصهيوني، معلنين أن هذه العمليات ستظل مستمرةً حتى اندحار الاحتلال، ويعكس ثبات اليمنيين في نصرة قضية القدس عزماً سياسياً راسخاً وقدرةً عسكريةً متينةً، وقد أورث هذا الصمود الصهاينة هواجس عميقة إزاء التهديدات المحتملة وتداعياتها الأمنية.
كما تشكّل القدرة العسكرية المتنامية لأنصار الله عاملاً آخر يؤجّج قلق تل أبيب ويضاعف هلعها. فخلال العقد المنصرم، نجحت هذه الحركة في تطوير ترسانتها الصاروخية والمسيّرة والاستفادة من خبرات حرب العصابات، ما مكّنها من إعادة رسم خارطة توازن القوى الإقليمي لمصلحتها.
وقد برهنت تجربة اليمن الظافرة في مواجهة التحالف السعودي-الإماراتي، أن أبناء هذا البلد لا ينحنون أبداً أمام عواصف الضغوط الخارجية، وأنهم مستعدون للذود عن حياض مبادئهم وسلامة أراضيهم حتى آخر قطرة من دمائهم، ولهذا السبب، وعلى الرغم من الغارات الجوية الكاسحة التي شنتها الولايات المتحدة والكيان الصهيوني على مدار العامين الماضيين، لم يدبّ الوهن في عزائمهم لحظةً واحدةً، بل واصلوا توجيه ضرباتهم المزلزلة إلى الأراضي المحتلة بعزيمة لا تلين وإرادة صلبة كالجبال، مبرهنين على أن روح المقاومة والصمود متجذرة في أعماقهم رسوخ الجبال في الأرض.
وقد حوّلت هذه القدرات العسكرية الفذة، مقترنةً بالبراعة التكتيكية والقدرة على تنفيذ عمليات بالغة التعقيد، أبناء اليمن إلى قوة ضاربة تلقي بظلال التهديد حتى على أبعد منشآت الكيان الصهيوني، فوصول الصواريخ فائقة الصوت والمسيّرات الانتحارية اليمنية إلى قلب الأراضي المحتلة، أوصل منظري الاستراتيجية في الكيان إلى قناعة راسخة مفادها بأن تهديدات أنصار الله لا ينبغي أن تمرّ مرور الكرام، لأن الاستهانة بهذه القدرات قد تجرّ على الكيان عواقب أشدّ فداحةً من واقعة السابع من أكتوبر، وتبرز الحاجة الملحة لرأب الصدع في الجدار الدفاعي واتخاذ تدابير وقائية عاجلة.
كما تتجلى الإنجازات الاستخباراتية لأنصار الله بصورة لافتة، فقدرتهم على تعقب السفن الصهيونية في مياه البحر الأحمر واستهدافها بدقة متناهية، إلى جانب إحباط مساعي تل أبيب لاغتيال قادة هذه الحركة، تكشف عن متانة شبكتهم ومهارتهم الفائقة في مواجهة التهديدات، وقد أفضى ذلك إلى تعاظم ثقتهم بأنفسهم وترسيخ مكانة أنصار الله، وبالمقابل استحكم الخوف والذعر في أوصال تل أبيب.
ويكتسب البعد الاقتصادي واللوجستي أهميةً قصوى لتل أبيب، حيث يمثّل انسياب التجارة وتأمين السلع الحيوية عماد الاستقرار الاقتصادي للكيان الصهيوني. وقد نجحت أنصار الله، من خلال سيطرتهم على شرايين الطرق البحرية وتنفيذ هجمات واسعة النطاق ضد السفن الصهيونية، ليس فقط في شلّ حركة التجارة للتجار اليهود، بل في إلحاق خسائر مالية فادحة بهذا الكيان. ويعد تراجع نشاط الموانئ الاستراتيجية مثل إيلات، وتوقف قوافل نقل البضائع، والخسائر التي تقدر بمليارات الدولارات، شاهداً جلياً على الأثر العميق لعمليات اليمنيين على اقتصاد تل أبيب وأمنها اللوجستي، ما فاقم هواجس قادة تل أبيب وأرقهم.
إن خشية تل أبيب من هجوم بري يمني ليست وهماً بل حقيقة ماثلة، ولهذا السبب تسعى، متحالفةً مع الولايات المتحدة، إلى تقويض قوة أنصار الله، وتعكس ضغوط واشنطن لإغلاق مكاتبهم والحد من نفوذهم في العراق مدى خطورة هذا التهديد بالنسبة لتل أبيب، لكن هذه المساعي لم تؤت ثمارها حتى الآن، وقد يكون للإصرار عليها ارتدادات عكسية.
ومثلما كانت الألوف المؤلفة من قوات المقاومة العراقية متأهبةً لاقتحام الأراضي المحتلة عبر حدود الأردن في مستهل حرب غزة، لا تزال هذه القدرة العملياتية في أوج جاهزيتها، ويرى بعض المراقبين الإقليميين أنه مع تصاعد حدة التوترات واحتمال استهداف مواقع فصائل المقاومة العراقية من قبل جيش الاحتلال الصهيوني، فإن احتمال تنفيذ عملية مشتركة بين أنصار الله والحشد الشعبي ضد الأراضي المحتلة، حتى بالاقتحام البري، بات وارداً بقوة.
أعلن قادة صنعاء مراراً أنهم وحدهم من يحدّدون زمان ومكان مجابهة الکيان الصهيوني، وأنهم على أتمّ الاستعداد لأي سيناريو تقتضيه الظروف، فإمكانية الوصول من مياه البحر الأحمر إلى جنوب الأراضي المحتلة، واحتمال التسلل عبر الأراضي الأردنية أو حتى عبر هضبة الجولان المحتلة، تعزّز فرص شنّ هجوم بري مباغت، ويشير تضافر هذه القدرات العملياتية مع الإرادة الصلبة والتخطيط المحكم، إلى أن قواعد الاشتباك قد تشهد تحولاً جذرياً في لمح البصر، وأن اليمنيين قادرون في أي لحظة على ممارسة ضغط مباشر ومعقد يزلزل أركان تل أبيب.
ولدرء هذا الخطر الداهم، شيّد جيش الاحتلال الصهيوني في الأشهر الأخيرة، وسط هواجس متصاعدة من احتمال هجوم بري تشنه فصائل المقاومة، تحصينات جديدة في منطقة “غور الأردن” تشمل إقامة متاريس عسكرية، وتدعيم المراكز الأمنية، وتكثيف حضور القوات المسلحة، ما يجسّد حالة الهلع المستشرية في تل أبيب والتدابير الاحترازية المحمومة للذود عن أمن الأراضي المحتلة في وجه التهديدات المتربصة.
وفي خاتمة المطاف، كشف الإخفاق الاستخباراتي المدوي للكيان الصهيوني في السابع من أكتوبر، أن المغامرة خارج الحدود تنطوي على مجازفة محفوفة بالمخاطر لهذا الكيان المتهالك، والأجدر به الآن، بدلاً من توسيع دائرة الصراع لتطال اليمن، هو وضع أوزار الحرب الضروس في غزة، أملاً في التخلص من ضربات أنصار الله متعددة الأبعاد، وإلا فإن الهاجس المرعب من هجوم بري يمني، الذي بات يؤرّق مضاجع الصهاينة، قد يتجسد واقعاً ملموساً يخطف السكينة من أجفان قاطني تل أبيب، ويحيل ليلهم إلى كابوس لا ينقضي.
الوقت التحليلي