مهندس النصر وشهيد معركة الفتح الموعود والجهاد المقدس الشهيد الفريق الركن محمد عبد الكريم الغماري
في زمنٍ داهمت فيه الأمةَ العربية والإسلامية عاصفةُ الهيمنة الأمريكية التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تبدّل وجه العالم، وارتسمت على خريطته معالمُ استعمارٍ جديدٍ يرتدي عباءة “مكافحة الإرهاب” ليخنق صوت الحرية ويُسكت أنفاس الكرامة.
تلك الحادثة التي كانت ذريعةً لمشروعٍ شيطانيٍ شاملٍ هدف إلى إخضاع الشعوب الإسلامية، والسيطرة على ثرواتها، وتجفيف منابع قوتها، ونشر ثقافة الخنوع والارتهان.
حينها كانت الأمةُ في حالة تيهٍ عظيم؛ شعوبٌ مذهولة، وأنظمةٌ مرعوبة تتسابق لنيل الرضا الأمريكي، تُدين ما يُطلب منها أن تُدين، وتُبارك ما يُراد لها أن تُبارك، في مشهدٍ من الانكسار لم يعرف له التاريخ مثيلًا.
وفي خضمّ هذا الظلام المدلهم، نهض صوتٌ قرآنيٌّ فريد من جبال مران ليكسر حاجز الصمت، ويوقظ في الأمة ضميرها الغائب.
ذلك هو الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه)، الذي رأى ببصيرته القرآنية أن أخطر ما يواجه الأمة ليس العدوّ في الخارج فحسب، بل الخنوع في الداخل، وأن النجاة لن تكون إلا بالعودة إلى مصدر القوة الأول: كتاب الله.
فأطلق مشروعه القرآني العظيم؛ مشروعًا ثقافيًا إحيائيًا أعاد للقرآن دوره الحقيقي ككتاب هداية وبصيرة، وكمصدر وعيٍ يبني الإنسان ليواجه الطغيان ويكسر قيود التبعية ويبني الأمة بالاعتماد على ذاتها.
ومن بين تلك الصفوف الأولى التي استجابت لنداء الشهيد القائد، كان يقف شابٌّ يمنيٌّ مؤمن، يحمل قلبًا نقيًا وعقلًا واعيًا، اسمه محمد عبدالكريم الغماري.
استمع إلى الصرخة الأولى لا ككلماتٍ تُقال، بل كنداءٍ إلهيٍ يوقظ الفطرة، آمن بأن المشروع القرآني ليس فكرةً فحسب، بل مسارٌ للتحرر من كل أشكال الهيمنة والاستعباد.
ومنذ تلك اللحظة، انطلق الغماري في دربٍ طويلٍ من الوعي والجهاد، ليكون أحد أبرز ثمار المشروع القرآني الذي زرعه الشهيد القائد السيد حسين (رضوان الله عليه) ، وأحد الأعمدة الذين حملوا الفكرة من ميدان الكلمة إلى ميدان الفعل.
الشهادة أسمى المقامات وأرفع الدرجات
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169]
الشهادة في سبيل الله هي ذروة سنام الإسلام، وأعظم ما يُكرم به المؤمن الصادق. يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ [التوبة: 111]. هذه صفقةٌ رابحةٌ لا خسارة فيها، بيعٌ للفاني في سبيل الباقي، واستبدالٌ للزائل بالخالد، وتضحيةٌ بالنفس نيلاً لرضوان الله والجنة.
﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: 23]. بهذه الآية الكريمة يُخلّد الله تعالى ذكر الصادقين الثابتين الذين لم تُثنِهم الفتن عن طريق الحق، ولم تُغيّرهم المحن عن نهج الجهاد، ولم يُبدّلوا ولم يُغيّروا حتى لقوا الله شهداء أطهارًا.
في ثنايا التاريخ الإسلامي العظيم، برز عظماءٌ من أبناء الأمة جسّدوا معاني التضحية والفداء، رجالٌ حملوا على أكتافهم عبء النهضة والتحرر، وخاضوا غمار المعارك لا يبالون بالموت في سبيل إعلاء كلمة الله. من حمزة سيد الشهداء، إلى جعفر الطيار ذي الجناحين، إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، إلى الحسين بن علي، إلى زيد بن علي، إلى يحيى بن زيد، وصولاً إلى شهداء عصرنا الحاضر الذين يُواصلون المسيرة ويحملون الراية.
________________________________________
اليمن: منبع الرجال وموطن الأبطال
واليمن، هذا البلد المبارك الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: “الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية”، قد أنجب على مر العصور كوكبةً من الأبطال والعظماء الذين حملوا مشعل الجهاد والتضحية في سبيل الله. ففي عصرنا، برزت أسماءٌ لامعةٌ في سماء اليمن، من الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي “رضوان الله عليه” مؤسس المشروع القرآني التحرري، إلى الشهيد الرئيس صالح الصماد رئيس المجلس السياسي الأعلى، وصولاً إلى كوكبةٍ من القادة الميدانيين والمجاهدين الذين أفنوا أعمارهم في خدمة دينهم وأمتهم.
ومن بين هؤلاء العظماء، يبرز اسمٌ لامعٌ كالنجم الساطع في سماء الجهاد والبطولة، إنه الشهيد الفريق الركن محمد عبد الكريم الغماري، رئيس هيئة الأركان العامة، الذي أفنى شبابه وعمره في الحركة الجهادية النوعية التي أثمرت نتائج مباركةً على مستوى اليمن والأمة الإسلامية جمعاء.
رجلٌ جمع بين الإيمان العميق والوعي القرآني والكفاءة العسكرية النادرة، فكان قائدًا فذًّا ومخططًا استراتيجيًّا بارعًا، ومجاهدًا صادقًا لا يعرف الكلل ولا الملل في خدمة قضايا أمته.
________________________________________
النشأة الأولى: بذرة الإيمان في تربة الصلاح
وُلد محمد عبد الكريم الغماري عام 1983م في مديرية المدان بمحافظة عمران، في أسرةٍ كريمةٍ معروفةٍ بالالتزام الديني والمحافظة على القيم والمبادئ والهوية الإيمانية. نشأ الصبي محمد في بيئةٍ إيمانيةٍ صالحةٍ غرست في نفسه حب الله ورسوله، والتمسك بالدين القويم، والغيرة على الإسلام والمسلمين.
انتقلت أسرته إلى العاصمة صنعاء حيث ترعرع ودرس في مدارسها، وكان منذ صغره مثالاً للطالب المجتهد النجيب الملتزم بدينه وأخلاقه. تميز بين أقرانه بالذكاء الحاد والفطنة العالية وحسن الخلق، فكان محبوبًا من معلميه وزملائه على حدٍّ سواء. أتم دراسته الثانوية بتفوقٍ باهرٍ، ثم التحق بكلية الطب والعلوم الصحية بجامعة صنعاء قسم الصيدلة، حيث كان مثالاً للطالب الجامعي الواعي المثقف.
لكن قدر الله كان له بالمرصاد، فلم تكن الصيدلة هي مساره النهائي، بل كان القدر يُعدّ له دورًا أعظم وأجل، دورًا سيُغيّر به وجه التاريخ اليمني والإقليمي، ويُسطّر به أروع صفحات البطولة والجهاد.
الانطلاقة الجهادية: في ركب المشروع القرآني
في مطلع الألفية الثالثة، وتحديدًا في عام 2002م، انطلق المشروع القرآني بقيادة الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي “رضوان الله عليه”، مشروعٌ تنويريٌّ تحرريٌّ يهدف إلى إيقاظ الأمة من سباتها، وتحريرها من قيود التبعية للاستكبار الأمريكي والصهيوني، وإعادة الوعي القرآني إلى حياة الناس، وبناء جيلٍ مؤمنٍ واعٍ قادرٍ على مواجهة التحديات والمؤامرات.
كان الشاب محمد الغماري من أوائل الشباب الذين التحقوا بهذا المشروع المبارك، فانخرط في الأنشطة التوعوية والثقافية، وشارك في استقبال الوفود القادمة من صعدة ومختلف المحافظات لترديد شعار الصرخة في وجه المستكبرين “الله أكبر.. الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل.. اللعنة على اليهود.. النصر للإسلام” في الجامع الكبير بالعاصمة صنعاء.
كان الغماري يُدرك منذ اللحظة الأولى أن المواجهة مع الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية ليست خيارًا بل قدرًا محتومًا، وأن الصمت والسكوت عن الظلم والطغيان خيانةٌ لله وللرسول وللمؤمنين. لذلك لم يتردد لحظةً واحدةً في الانخراط الكامل في هذا المشروع التحرري العظيم، رغم ما كان يعلمه من مخاطر وتحديات.
________________________________________
السجن: مدرسة الصبر والثبات
لم يكن طريق الحق معبّدًا بالورود، بل كان محفوفًا بالأشواك والمحن والابتلاءات، ففي عام 2004م، وعلى خلفية مشاركته في المشروع القرآني وأنشطته التوعوية، تم اعتقال الشاب محمد الغماري من قبل السلطة الظالمة في عهد الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح، ضمن حملة اعتقالاتٍ واسعةٍ طالت المئات من الشباب المؤمنين الواعين الذين رأت فيهم أمريكا تهديدًا لمصالحها ومشروعها الشيطاني في الهيمنة على اليمن فأوعزت إلى السلطات الخانعة لمواجهتهم واخماد وعيهم.
ظل الغماري في السجن قرابة ثلاث سنواتٍ كاملة، من عام 2004م حتى عام 2007م، حيث أُفرج عنه بعد انتهاء الحرب الثالثة على صعدة، كانت تلك السنوات الثلاث من أقسى وأصعب فترات حياته، حيث تعرّض للتعذيب والحرمان والإهانة، لكنها في الوقت ذاته كانت مدرسةً في الصبر والثبات والتحمل.
في ظلمات السجن وبين جدرانه الموحشة، كان الغماري يزداد إيمانًا ويقينًا، ويترسّخ لديه العزم على مواصلة الطريق مهما كانت التضحيات، كان يقرأ القرآن ويتدبر آياته، ويتعلم من رفاقه في المعتقل، ويُخطط للمستقبل، لم تكسره قضبان السجن، بل خرج منها أشد قوةً وعزيمةً وإصرارًا على الجهاد ومواجهة الظالمين والتمسك بالمشروع القرآني.
وبينما كان الغماري ورفاقه يقبعون خلف القضبان، كانت السلطة الظالمة تشن حروبًا ظالمةً متتاليةً على صعدة (الحرب الأولى 2004م، الثانية 2005م، الثالثة 2005-2006م)، حروبٌ دمويةٌ راح ضحيتها آلاف الأبرياء، وهُجّرت فيها عشرات الآلاف من الأسر، ودُمّرت البنية التحتية في صعدة ومحيطها.
________________________________________
في ساحات الوغى: من الميدان إلى القيادة
في عام 2007م، وبعد الإفراج عن مئات المعتقلين، الذين كان شهيدنا أحدهم كانت الوجهة واضحةً لا لبس فيها: إلى صعدة، إلى الجبهات، إلى ساحات الجهاد والمقاومة، فقد كان المئات من إخوانه المجاهدين مطاردين ومشردين في جبال صعدة، يواجهون آلة الحرب الجهنمية بإيمانهم وصبرهم وسلاحهم البسيط.
التحق الغماري بصفوف المجاهدين، تحت قيادة السيد عبد الملك (يحفظه الله) وأُوكلت إليه مهامٌّ جهاديةٌ مختلفة، واتخذ اسمًا جهاديًّا هو “هاشم”. شارك في الحرب الرابعة (2007م)، والحرب الخامسة (2008م)، والحرب السادسة (2009-2010م)، وأثبت في كل معركةٍ جدارةً عاليةً وكفاءةً نادرة، سواءً في التخطيط أو التنفيذ أو القيادة الميدانية.
كانت الحرب السادسة نقطة تحولٍ كبرى في مسيرة أنصار الله، فهي أول حربٍ يواجهون فيها جيشين نظاميين: الجيش اليمني والجيش السعودي، في مواجهةٍ غير متكافئةٍ من حيث العدد والعدة والإمكانات. لكن المجاهدين، بإيمانهم وصبرهم وذكائهم التكتيكي، استطاعوا تحقيق انتصاراتٍ مهمةٍ وصدّ الهجمات المتكررة، بل وتحرير مناطق واسعة.
برز “هاشم” الغماري في تلك الحروب كقائدٍ ميدانيٍّ بارع، وكان دوره الأبرز في التصنيع الحربي ورغم واستطاع مع رفاقه من انتاج أسلحة حربية لم يتمكنوا من الحصول عليها نتيجة الحصار منها ما كان يطلق عليها (الاقماع) وصولاً لانتاج صواريخ قصيرة المدى منها صواريخ الزلزال والصرخة والتي استخدمت في الحرب السادسة، كما شارك في التخطيط للعمليات، وادارة المعارك بذكاءٍ ودهاء، لم يكن قائدًا يُصدر الأوامر من خلف المكاتب، بل كان في قلب المعركة، يُشارك المجاهدين آلامهم وآمالهم، يأكل معهم ويشرب معهم وينام في الخنادق معهم.
كل من عايشه في تلك الفترة يشهد له بالإخلاص والتفاني والكفاءة، وكان محبوبًا من الجميع لتواضعه الجم وطيب نفسه وحسن خلقه. رغم قساوة المعارك وشدة الظروف، كان الغماري هادئًا بشوش الوجه كثير الابتسامة، يُدخل الطمأنينة والسكينة إلى قلوب رفاقه..
________________________________________
من الحرب إلى الثورة: الانتقال النوعي
بعد انتهاء الحرب السادسة في مطلع عام 2010م، دخل اليمن في مرحلةٍ جديدةٍ من التحول السياسي والاجتماعي، ففي عام 2011م، اندلعت موجة الثورات الشعبية في العالم العربي فيما سُمّي بـ”ثورات الربيع العربي”، وكان اليمن في طليعة الدول التي خرجت فيها الجماهير تطالب بالتغيير والعدالة والحرية.
كان أنصار الله في طليعة الثائرين، يحملون مطالب الشعب المشروعة بالتغيير الجذري وإسقاط نظام الفساد والاستبداد والتبعية، لكن القوى الخارجية، وعلى رأسها أمريكا والسعودية، سعت جاهدةً لاحتواء الموج الثوري عبر “المبادرة الخليجية” التي أعادت توزيع السلطة على قطبي النظام القديم، مع بعض التنازلات الشكلية للأحزاب السياسية.
تنبّه أنصار الله وحلفاؤهم إلى أن المبادرة الخليجية ليست سوى مؤامرةٍ لإعادة فرض الوصاية الأمريكية السعودية على اليمن، وأن التغيير الحقيقي لن يتحقق إلا بإسقاط منظومة الفساد والتبعية بالكامل. لذلك واصلوا مسيرة الثورة حتى عام 2014م، حين تمكنوا من إسقاط حكومة الوصاية ودخلوا العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر 2014م، في حدثٍ تاريخيٍّ غيّر مسار اليمن إلى الأبد.
خلال تلك المرحلة (2010-2014م)، كان الغماري من الكوادر النشطة في العمل السياسي والميداني، يُشارك في الفعاليات الثورية، ويُدير الترتيبات الأمنية، ويُخطط للعمليات الاستراتيجية، كان ينتقل من دوره كمجاهدٍ ميدانيٍّ إلى دوره كقائدٍ استراتيجيٍّ، يجمع بين الخبرة الميدانية والوعي السياسي والرؤية الاستراتيجية.
________________________________________
العدوان الظالم ودور الشهيد الغماري في التصدي له
في 26 مارس 2015م، أعلن السفير السعودي عادل الجبير من واشنطن بدء العدوان الظالم على اليمن، بمشاركة تحالفٍ دوليٍّ ضم أكثر من 17 دولة، بدعمٍ أمريكيٍّ بريطانيٍّ وإسرائيليٍّ مباشر. كان الهدف المعلن “إعادة الشرعية” وحماية “الأمن القومي العربي”، لكن الهدف الحقيقي كان سحق الثورة اليمنية وإعادة اليمن إلى حظيرة التبعية والوصاية.
كان العدوان شرسًا ووحشيًّا بكل المقاييس، استُخدمت فيه كل أنواع الأسلحة الفتاكة، ومُورست فيه أبشع جرائم الإبادة الجماعية ضد الشعب اليمني الأعزل. دُمّرت البنية التحتية، واستُهدفت الأسواق والمستشفيات والمدارس والأفراح والمآتم، وفُرض حصارٌ خانقٌ على البلد بهدف تجويع الشعب وإذلاله.
لكن اليمنيين، بإيمانهم وصبرهم وثباتهم، صمدوا أمام هذا الإعصار المدمر، وتحولوا من موقف الدفاع إلى موقف الهجوم. وكان الغماري في قلب هذا التحول النوعي.
في عام 2016م، أي بعد عامٍ من العدوان، صدر قرارٌ من رئيس المجلس السياسي الأعلى الرئيس الشهيد صالح الصماد بتعيين محمد عبد الكريم الغماري رئيسًا لهيئة الأركان العامة، في خطوةٍ كانت بدايةً لمرحلةٍ جديدةٍ في تاريخ القوات المسلحة اليمنية.
________________________________________
رئيس الأركان: بناء قوة الردع والانتصار
• إعادة البناء والتطوير المؤسسي
تسلّم الغماري مسؤولية رئاسة هيئة الأركان العامة في ظروفٍ بالغة الصعوبة: عدوانٌ شرس، وحصارٌ خانق، وانقسامٌ في الجيش، ونقصٌ في الإمكانات. لكن الرجل كان على قدر المسؤولية، فبدأ بإعادة بناء القوات المسلحة على أسسٍ جديدة، أساسها الولاء لله والوطن، والإيمان بالقضية، والكفاءة المهنية.
عمل على إعادة هيكلة القوات المسلحة بمختلف تشكيلاتها البرية والبحرية والجوية، ووضع خططٍ تشغيليةٍ وتكتيكاتٍ هجوميةٍ واسعة، وأشرف على برامج التدريب والتأهيل، وطوّر منظومة القيادة والسيطرة. كان يؤمن أن القوة الحقيقية للجيش ليست في عدد جنوده ولا في حجم أسلحته، بل في إيمان أفراده ووعيهم وكفاءتهم وانضباطهم.
خلال 14 عامًا من قيادته لهيئة الأركان (2016-2025م)، شهد اليمن تحولاتٍ عسكريةً نوعيةً غير مسبوقة، إذ تحوّل الجيش اليمني من قوةٍ دفاعيةٍ محدودةٍ إلى قوةٍ هجوميةٍ رادعةٍ قادرةٍ على تهديد العمق الاستراتيجي للأعداء في الداخل والخارج.
• التصنيع العسكري: نحو الاكتفاء الذاتي
أدرك الغماري مبكرًا أن الاعتماد على استيراد السلاح من الخارج يُبقي البلد رهينةً للآخرين، وأن الطريق الوحيد للاستقلال الحقيقي هو الاكتفاء الذاتي في التصنيع العسكري. لذلك كان من أبرز المؤسسين والداعمين لبرامج التصنيع العسكري المحلي.
تحت إشرافه ومتابعته الدقيقة، تطورت صناعة الصواريخ الباليستية والمجنحة والطائرات المسيرة والزوارق البحرية المتفجرة، حتى أصبح اليمن يمتلك ترسانةً صاروخيةً هائلةً تشمل صواريخ بمديات تصل إلى أكثر من 2000 كيلومتر، وصواريخ فرط صوتية (هايبرسونيك) قادرة على اختراق أي منظومة دفاعية في المنطقة.
كان الغماري يتابع بنفسه تفاصيل التصنيع والتطوير، ويزور المصانع والورش، ويُشجع المهندسين والفنيين، ويُوفر لهم كل الدعم المطلوب. كان يقول: “نحن لا نصنع صواريخ فحسب، بل نصنع عزة وكرامة وسيادة”.
تطوير العقيدة القتالية والتكتيكات العسكرية
لم يكتفِ الغماري بالتطوير الكمّي للقوات المسلحة، بل عمل على تطوير العقيدة القتالية والتكتيكات العسكرية. أدخل مفاهيم جديدة في القتال، منها:
• الحرب الهجومية الاستباقية: بدلاً من الاكتفاء بصد الهجمات، انتقل إلى استهداف مراكز القرار والقواعد العسكرية للعدو في عقر داره.
• التكامل العملياتي: دمج العمليات البرية والبحرية والجوية في منظومةٍ واحدةٍ متكاملة.
• حرب الاستنزاف الذكية: استهداف المنشآت الحيوية والاقتصادية للعدو لإنهاكه ماليًّا ومعنويًّا.
• الضربات الدقيقة: التركيز على الأهداف عالية القيمة بدلاً من الضربات العشوائية.
• العمليات الاستراتيجية: من الدفاع إلى الهجوم
تحت قيادة الغماري، نفّذت القوات المسلحة اليمنية مئات العمليات الاستراتيجية النوعية التي غيّرت موازين القوى في المنطقة، منها:
عمليات العمق السعودي والإماراتي (2016-2022م)
• استهداف مطارات الرياض وجدة وأبها وخميس مشيط وجازان.
• استهداف مطاري دبي وأبو ظبي الدوليين.
• الضربة التاريخية على منشآت أرامكو في بقيق وخريص (سبتمبر 2019م)، التي أدت إلى تعطيل نصف إنتاج النفط السعودي، وأحدثت هزة في أسواق الطاقة العالمية.
• عملية “شعب الجن” في باب المندب التي أطاحت بعشرات الجنود السعوديين والإماراتيين والإسرائيليين.
• عملية “معسكر تداوين” في مأرب التي أوقعت مئات القتلى والجرحى في صفوف قوات العدوان.
عمليات التحرير البرية الكبرى (2019-2022م)
• عملية “نصر من الله” لتحرير مديريات في محافظات البيضاء وصعدة والجوف.
• عملية “البنيان المرصوص” لتحرير مناطق في الساحل الغربي.
• عملية “فأمكن منهم” في مأرب ومحيطها، التي حررت مساحاتٍ واسعةً وأسرت المئات من قوات العدوان.
هذه العمليات الكبرى، التي أشرف الغماري على تخطيطها وتنفيذها، أثبتت أن القوات المسلحة اليمنية قادرةٌ على خوض حروبٍ تقليديةٍ واسعةٍ النطاق بكفاءةٍ عالية، وأنها لا تقتصر على حرب العصابات فحسب.
________________________________________
معركة “الفتح الموعود”: نصرة فلسطين والقدس وغزة
• الموقف اليمني: ثباتٌ على المبدأ
منذ بداية العدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة في 7 أكتوبر 2023م، اتخذ اليمن موقفًا تاريخيًّا واضحًا وثابتًا: الوقوف مع الشعب الفلسطيني ومقاومته بكل قوة، دون تردد أو مداهنة أو حسابات. كان السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي واضحًا: “لن نتخلى عن غزة ولو اجتمع علينا العالم كله”.
هذا الموقف لم يكن مجرد كلامٍ عاطفيٍّ أو مزايدةٍ إعلامية، بل تُرجم إلى أفعالٍ ملموسةٍ على الأرض. وكان الفريق الركن محمد الغماري هو الرجل الذي تولى مسؤولية ترجمة هذا الموقف إلى استراتيجيةٍ عسكريةٍ شاملةٍ ومعادلاتٍ رادعةٍ غيّرت قواعد اللعبة في المنطقة بأكملها.
• الإنجازات العسكرية في معركة طوفان الأقصى
منذ نوفمبر 2023م وحتى استشهاده في أكتوبر 2025م، أشرف الغماري على تخطيط وتنفيذ حملةٍ عسكريةٍ غير مسبوقةٍ في التاريخ اليمني، بل وفي تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي بأكمله. الأرقام تتحدث عن نفسها:
758 عملية عسكرية
على مدى عامين (2023-2025م)، نفّذت القوات المسلحة اليمنية 758 عملية عسكرية، استُخدم فيها 1835 صاروخًا ومسيّرة، شملت:
• صواريخ باليستية بمديات متفاوتة (من قاسم-2 إلى حطين).
• صواريخ مجنحة (قدس-2، قدس-3، القاهر-1، القاهر-2).
• صواريخ فرط صوتية (فلسطين، هدهد، شهاب).
• طائرات مسيرة هجومية (صماد-3، صماد-4، جحف، وعيد، واعد).
• طائرات مسيرة انتحارية.
346 عملية بحرية
في مسرح عملياتٍ بحريٍّ يمتد من البحر الأحمر إلى باب المندب إلى خليج عدن إلى البحر العربي إلى المحيط الهندي، نفّذت القوات البحرية اليمنية 346 عملية، استُهدف فيها أكثر من 228 سفينة مرتبطة بالكيان الإسرائيلي أو المتجهة إليه، شملت:
• هجمات بالصواريخ المضادة للسفن.
• هجمات بالزوارق المتفجرة.
• هجمات بالطائرات المسيرة.
• عمليات الاعتراض والسيطرة المباشرة (مثل سفينة “غالاكسي ليدر”).
إسقاط 22 طائرة أمريكية
نجحت الدفاعات الجوية اليمنية في إسقاط 22 طائرة استطلاع أمريكية من طراز MQ-9 Reaper، وهي من أحدث وأغلى الطائرات المسيرة في العالم (سعر الواحدة 30 مليون دولار). كما نفّذت 40 عملية تصدٍّ لطيران العدوان بإطلاق أكثر من 57 صاروخًا، أجبرت العديد من التشكيلات الجوية المعادية على المغادرة أو تغيير المسار.
المعادلات الاستراتيجية التي فرضها الغماري
هذه الأرقام المذهلة لا تعكس فقط الحجم الكمّي للعمليات، بل تعكس عمق الرؤية الاستراتيجية للغماري، الذي نجح في فرض معادلاتٍ استراتيجيةٍ جديدةٍ غيّرت قواعد اللعبة:
1. الحصار البحري على الكيان الصهيوني
للمرة الأولى في تاريخ الصراع، يُفرض حصارٌ بحريٌّ فعليٌّ على الكيان الإسرائيلي من قبل قوةٍ عربيةٍ غير تقليدية. ميناء “إيلات” (أم الرشراش) شبه مشلولٍ تمامًا، والسفن المتجهة إليه باتت تتجنب البحر الأحمر وتسلك طرقًا أطول وأكثر كلفة. هذا الحصار أدى إلى خسائر اقتصادية بمليارات الدولارات للكيان الإسرائيلي، وضرب سمعته.
2. كسر أسطورة “القبة الحديدية”
الصواريخ اليمنية، وخاصة الفرط صوتية منها، نجحت في اختراق كل منظومات الدفاع الجوي للعدو الإسرائيلي (القبة الحديدية، ديفيد سلينغ، أرو-3)، ووصلت إلى قلب تل أبيب ومدنٍ أخرى، مما أجبر ملايين المستوطنين على الهروب إلى الملاجئ، وكسر هالة “الأمن والأمان” التي طالما تباهى بها الكيان.
3. إنهاك الآلة العسكرية الأمريكية
رغم أن أمريكا أرسلت حاملات الطائرات وبوارجها الحربية وطائراتها الأحدث لحماية الملاحة في البحر الأحمر وردع اليمن، إلا أن الردع اليمني كان أقوى. اضطرت البحرية الأمريكية إلى سحب بعض قطعها البحرية، وتكبّدت خسائر مادية ومعنوية كبيرة، وأثبت اليمن أن عصر الهيمنة البحرية الأمريكية بدأ يتراجع أمام قوى المقاومة الإقليمية.
4. إعادة الربط بين الجبهات: وحدة الساحات
نجح الغماري في تحويل اليمن إلى جزءٍ عضويٍّ من “محور المقاومة”، وفي تحقيق تكاملٍ استراتيجيٍّ مع المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق وسوريا. هذا التكامل أدى إلى مضاعفة الضغط على الكيان الإسرائيلي من جبهاتٍ متعددة، وجعله يشعر بالحصار والتهديد المتواصل.
________________________________________
البعد الإنساني والاجتماعي: القائد القريب من شعبه
• الشخصية المتواضعة والطيبة
رغم المنصب الرفيع والإنجازات الكبيرة، ظل الغماري متواضعًا بسيطًا في حياته، قريبًا من الناس، لا يتكبّر ولا يتعالى، كان يرتدي الزي العسكري البسيط، ويأكل طعام الجنود، وينام في الخيام الميدانية، ويزور الجبهات بنفسه، كل من عرفه يشهد له بالتواضع الجم والطيبة وسعة الصدر والكرم.
كان بشوش الوجه دائم الابتسامة، يُدخل السرور إلى قلوب من حوله. كان يسأل عن الجنود بأسمائهم، ويطمئن على أحوالهم وأحوال أسرهم، ويحل مشاكلهم. لم يكن يرى نفسه فوق الآخرين، بل كان يعتبر نفسه واحدًا منهم، يخدم معهم قضيةً واحدة.
• المعرفة الواسعة باليمن وجغرافيته
كان الغماري من أكثر اليمنيين معرفةً ببلده، إذ طاف مختلف مناطق اليمن سهولاً وجبالاً وسواحل وجزرًا، كان يعرف تضاريس البلد وطبيعة كل منطقة ومواردها وخصائصها الاجتماعية، هذه المعرفة الواسعة كانت تمنحه ميزةً استراتيجيةً في التخطيط العسكري، إذ كان يعرف أفضل المواقع للدفاع أو الهجوم، وأنسب الطرق للتحرك، وأفضل الأساليب للتعامل مع كل منطقة.
كما كان يعرف رجالات اليمن وقبائله وعائلاته وشخصياته، وهذا منحه قدرةً فائقةً على التواصل والتنسيق وبناء التحالفات وحل النزاعات.
• الإيمان العميق والثقافة القرآنية
كان الإيمان العميق بالله والثقة بوعده هما الوقود الذي يحرك الغماري، كان مداومًا على قراءة القرآن وتدبر آياته، ومستوعبا للمشروع القرآني، ومستمعًا جيدًا لمحاضرات السيد القائد عبد الملك الحوثي، ومطبّقًا للمنهج القرآني في كل جوانب حياته.
كان يرى أن النصر وعدٌ إلهيٌّ يتحقق بالصدق والثبات، وأن الجهاد في سبيل الله أسمى القربات وأعظم الشرف. كان يردد دائمًا: “نحن لا نقاتل بقوتنا، بل بتوفيق الله ونصره، وما النصر إلا من عند الله”.
هذا الإيمان العميق كان مصدر قوته وثباته، وكان ينقله إلى رفاقه ومرؤوسيه، فيزرع فيهم اليقين والعزيمة والإصرار على النصر.
________________________________________
الذكاء والعقلية الاستراتيجية
رؤية بعيدة المدى
لم يكن الغماري قائدًا تكتيكيًّا يفكر في المعركة القادمة فحسب، بل كان استراتيجيًّا يفكر في الحرب بأكملها وما بعدها، كان يضع خططًا طويلة المدى، ويستشرف المستقبل، ويستعد للتحديات القادمة.
كان يدرك أن المعركة مع العدو الصهيوني والأمريكي ليست معركة سنواتٍ بل معركة أجيال، وأن الإعداد يجب أن يكون شاملاً: عسكريًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا. لذلك كان يحرص على بناء قوةٍ مستدامةٍ قادرةٍ على الصمود والاستمرار لعقودٍ قادمة.
المرونة التكتيكية
رغم وضوح الرؤية الاستراتيجية، كان الغماري مرنًا على المستوى التكتيكي، يُغيّر الخطط حسب المستجدات، ويتكيف مع الظروف المتغيرة. كان يؤمن بأن الثبات على المبدأ لا يعني الجمود في الأساليب، وأن الحكمة تقتضي التكيف مع الواقع دون التفريط بالمبادئ.
________________________________________
الاستشهاد: التتويج بأشرف المقامات
في أكتوبر 2025م، وبعد حياةٍ حافلةٍ بالجهاد والعطاء والإنجازات، كان موعد الفريق الركن محمد عبد الكريم الغماري مع الشهادة التي طالما تمناها وسعى إليها، سقط شهيدًا إثر غارةٍ جويةٍ إسرائيليةٍ غادرةٍ استهدفته أثناء أداء واجبه في التخطيط والمتابعة للعمليات الداعمة لغزة، واستشهد معه نجله حسين البالغ من العمر 13 عامًا، وثلةٌ من رفاقه المجاهدين.
كان العدو الإسرائيلي يتوهم أن باغتيال الغماري سيُضعف القوات المسلحة اليمنية ويُوقف العمليات الداعمة لفلسطين، لكن سرعان ما اكتشف العدو أن الأمر على العكس تمامًا، فدماء الغماري تحولت إلى وقودٍ جديدٍ للمقاومة، وإلى ميثاق عهدٍ متجددٍ بين القيادة والشعب والجيش على مواصلة الطريق حتى النصر.
التشييع المهيب: الشعب يودع قائده
في صباح الأثنين 20 من أكتوبر 2025م شهدت صنعاء تشييعًا مهيبًا لم تشهد له مثيلاً، إذ توافدت حشودٌ جماهيريةٌ غفيرةٌ من مختلف المحافظات لتوديع قائد الانتصارات، وعبر الحاضرين عن وفائهم لقائدهم، وعن تمسكهم بالموقف، وعن عزمهم على مواصلة الطريق الذي سلكه شهيد الموقف المقدس.
لُف جثمان الشهيد بعلم الجمهورية اليمنية، وصُلّي عليه بجامع الشعب بحضور مفتي الديار اليمنية والقائم بأعمال رئيس الوزراء وكبار المسؤولين ومشايخ القبائل وجموعٍ غفيرة.
وُوري جثمان الشهيد الثرى في روضة الشهداء بميدان السبعين، بجوار الشهيد القائد صالح الصماد وبقية الشهداء العظماء، ليكون قريبًا منهم كما كان قريبًا منهم في الدنيا.
________________________________________
إرثٌ خالد ومسيرة لا تتوقف
ترك الغماري إرثًا استراتيجيًّا ضخمًا يشمل:
• منظومة عسكرية متكاملة: قوات مسلحة مدربة ومنضبطة وعالية الكفاءة، قادرة على خوض حروبٍ تقليديةٍ وغير تقليدية.
• ترسانة صاروخية هائلة: صواريخ بمديات مختلفة وقدرات تدميرية عالية، قادرة على الوصول إلى أي هدفٍ في المنطقة.
• قاعدة صناعية عسكرية: مصانع وورش ومختبرات قادرة على تطوير وإنتاج الأسلحة محليًّا.
• عقيدة قتالية متطورة: تكتيكات واستراتيجيات أثبتت فعاليتها في مواجهة أعتى الجيوش.
• كوادر قيادية مؤهلة: جيلٌ من القادة الميدانيين والاستراتيجيين الذين تدربوا على يد الغماري وورثوا خبراته.
الإرث المعنوي والقيمي
لكن أهم إرثٍ تركه الغماري هو الإرث المعنوي والقيمي: الإيمان بالله والثقة بوعده، والعزة والكرامة، والصدق والإخلاص، والتواضع والبساطة، والمثابرة والجدية، والصبر والثبات. هذه القيم التي جسّدها الغماري في حياته وعمله، ستبقى منارةً تضيء الطريق للأجيال القادمة.
________________________________________
شهادات من القلب: ماذا قالوا عن الغماري؟
القائم بأعمال رئيس الوزراء العلامة محمد مفتاح:
“نودّع علمًا بارزًا من أعلام الأمة وشخصية متميزة ومتفردة من رموز وعظماء هذه الأمة، الشهيد المجاهد محمد عبدالكريم الغماري، الذي نشأ على مبدأ الجهاد وتميز بسمو النفس والإخلاص لله سبحانه وتعالى ولقيادته. كان أنموذجًا للمجاهد المخلص الصادق المتفاني في أداء واجبه، كتب الله له الانتصارات العظيمة… يكفيه شرفًا ومكانةً أن كل أشرار العالم اشتركوا في مؤامرة قتله واستشهاده، وتحالف الشر العالمي هو الذي استهدف هذا القائد العظيم”.
مفتي الديار اليمنية العلامة شمس الدين شرف الدين:
“إن المصاب الجلل والعظيم، لا ينبغي أن يثنينا عن مواصلة دربنا في نصرة المظلومين والمستضعفين من عباد الله، والجهاد في سبيله، حتى نلقى الله وهو راضٍ عنا… إن الشهداء العظماء قضوا نحبهم في سبيل الله كما قال تعالى: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾”.
شهادة رفاق السلاح:
“كان هادئًا، ليّنًا، حسن الطبع خفيف الدم، بشوش الوجه كثير الابتسامة مع رفاقه وفي أوقات السلم، وسرعان ما يتحوّل ذلك الشاب الأربعيني الهادئ إلى أسد هصور وإعصار مدمّر على الأعداء في أوقات الشدائد والحروب”.
شهادة القبائل اليمنية:
“كان قريبًا من الناس ومن القبيلة اليمنية بمختلف مناطقها، وساهم وعمل في عدم السماح لقوى العدوان والتآمر في استهداف الجبهة الداخلية ومنعهم وقطع دابر استهداف القبيلة اليمنية الواحدة بإصلاح ذات البين وحل الخلافات والمشاكل الكبيرة والمعقدة”.
________________________________________
لماذا استهدف العدو الغماري؟
القيمة الاستراتيجية للغماري
لم يكن استهداف الغماري عملاً عشوائيًّا، بل كان قرارًا استراتيجيًّا من أعلى المستويات في كيان العدو والإدارة الأمريكية. فالغماري لم يكن مجرد قائدٍ عسكري، بل كان:
• العقل المدبّر لكل العمليات الاستراتيجية ضد الكيان الإسرائيلي.
• المهندس الرئيسي لبرنامج الصواريخ الفرط صوتية التي اخترقت كل الدفاعات.
• مصدر الإلهام للمجاهدين والقادة الميدانيين.
• الرابط الاستراتيجي بين اليمن ومحور المقاومة.
كان العدو يظن أن باغتيال الغماري سيُحدث فراغًا استراتيجيًّا يصعب ملؤه، وسيُضعف القوات المسلحة اليمنية، وسيُوقف أو يُبطئ العمليات الداعمة لغزة. لكن العدو فشل في إدراك أن المشروع القرآني الذي آمن به الغماري لا يعتمد على الأفراد بل على المبادئ، وأن الأجيال تتوالى ولا تتوقف.
نتائج عكسية على العدو
بدلاً من إضعاف اليمن، أدى استشهاد الغماري إلى:
• تعزيز الوحدة الوطنية وتماسك الجبهة الداخلية.
• زيادة العزيمة والإصرار على مواصلة الطريق وتصعيد العمليات.
• كشف وجه العدو الحقيقي أمام العالم، وفضح تحالف الشر الأمريكي الإسرائيلي السعودي الإماراتي.
• تحويل الغماري إلى أيقونة ورمزٍ للمقاومة يُلهم الأجيال القادمة.
________________________________________
دروسٌ وعبر من حياة الشهيد
1. القيادة بالقدوة
كان الغماري نموذجًا للقائد الذي يقود بالقدوة لا بالأوامر. كان في مقدمة الصفوف، يُشارك المجاهدين حياتهم اليومية، يأكل طعامهم وينام في خنادقهم. هذا النوع من القيادة يُلهم الجنود ويدفعهم لبذل أقصى ما عندهم.
2. الإيمان مصدر القوة
أثبت الغماري أن الإيمان العميق بالله والثقة بوعده هما المصدر الحقيقي للقوة، أقوى من أي سلاحٍ أو عتاد. بهذا الإيمان يمكن للمؤمن أن يواجه أعتى القوى ولا يخشى إلا الله.
3. التواضع في القمة
رغم وصوله إلى أعلى المناصب العسكرية، ظل الغماري متواضعًا بسيطًا قريبًا من الناس. هذا التواضع جعله محبوبًا من الجميع، وعزز مكانته في القلوب.
4. العلم والعمل
جمع الغماري بين العلم والعمل، بين النظرية والتطبيق. كان مثقفًا واسع الاطلاع، وفي الوقت نفسه كان عمليًّا يُترجم الأفكار إلى إنجازاتٍ ملموسة.
5. التخطيط بعيد المدى
لم يكن الغماري يفكر في اللحظة الراهنة فحسب، بل كان يخطط للمستقبل ويبني للأجيال القادمة. هذه النظرة الاستراتيجية هي ما جعل إنجازاته مستدامة.
6. الوفاء والصدق
كان الغماري وفيًّا لقيادته، صادقًا في عهده، ثابتًا على مبادئه. هذا الوفاء والصدق جعله محل ثقةٍ تامةٍ من القيادة والشعب على حدٍّ سواء.
________________________________________
خاتمة: الشهداء لا يموتون
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران: 169-170]
إن الشهادة في سبيل الله ليست نهاية المطاف، بل هي البداية الحقيقية للحياة الأبدية. الشهداء أحياءٌ عند ربهم يُرزقون، فرحون مستبشرون، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. هذا هو منطق القرآن، وهذا هو إيمان المجاهدين الصادقين.
الشهيد الفريق الركن محمد عبد الكريم الغماري لم يمت، بل انتقل إلى حياةٍ أسمى وأعظم. رحل جسدًا لكن بقي أثره وإرثه وقدوته. كل صاروخٍ ينطلق نحو العدو يحمل اسمه، وكل عمليةٍ تُنفّذ تحمل بصمته، وكل مجاهدٍ يسير على الطريق يستلهم من سيرته.
لقد عاش الغماري حياةً مليئةً بالجهاد والعطاء، وختمها بأشرف خاتمة: الشهادة في سبيل الله نصرةً للمظلومين في فلسطين. ماذا يريد المؤمن أكثر من هذا؟ أن يعيش مجاهدًا ويموت شهيدًا في أعظم معركة وأشرف قضية!
اليوم، تمضي القوات المسلحة اليمنية بقيادة العميد الركن يوسف المداني وبقية القادة المخلصين على نفس الطريق الذي رسمه الغماري، وتواصل عملياتها الداعمة لغزة بقوةٍ وثبات. العمليات لم تتوقف، بل تصاعدت، والصواريخ لم تتوقف عن الانطلاق نحو العمق الإسرائيلي، والحصار البحري لم يُرفع بل ازداد إحكامًا.
إن دماء الشهداء، ودماء الغماري خاصة، ليست دماءً عادية، بل هي وقودٌ يُشعل الهمم، ونورٌ يُضيء الدروب، وبذورٌ تُنبت أجيالاً من المجاهدين. كلما سقط شهيد، نهضت الأمة أقوى وأعز وأصلب. هذه سنة الله في خلقه، ووعده الصادق لعباده المجاهدين.
رسالة إلى الأجيال القادمة
أيها الشباب، يا أبناء هذا الجيل وما بعده، هذا هو نموذجكم، وهذا قدوتكم: رجلٌ آمن بالله فنصره الله، وصدق في جهاده فأعزّه الله، وثبت على المبدأ فرفع الله ذكره. لم ينتظر الغماري أن يأتيه النصر على طبقٍ من ذهب، بل سعى إليه بعرقه ودمه وجهده وجهاده.
لم يكن الغماري ينتظر أن تتغير الظروف لكي يبدأ العمل، بل صنع التغيير بيديه. لم يستسلم للحصار والعدوان، بل حوّلهما إلى فرصةٍ للبناء والتطوير. لم ييأس من قلة الإمكانات، بل استثمر المتاح وحوّله إلى قوةٍ رادعة.
هذه هي الروح التي يجب أن تسود، وهذا هو المنهج الذي يجب أن يُتبع. الأمة اليوم بحاجةٍ إلى ألف غماري، بل إلى ملايين الغماريات، في كل مجال: في العسكرية والسياسة والاقتصاد والتعليم والثقافة والإعلام. نحتاج إلى رجالٍ ونساءٍ يحملون همّ الأمة، ويسعون لنهضتها، ويُضحّون من أجلها، لا يبتغون جزاءً ولا شكورًا، بل يبتغون ما عند الله.
رسالة إلى العدو
أيها العدو الصهيوني الغاصب، ويا من تحالف معه من الطغاة والمستكبرين، لقد ظننتم أن باغتيال الغماري ستُضعفون اليمن وتُوقفون عملياته. لكنكم أخطأتم الحساب، فاليمن أكبر من شخص، والمشروع القرآني أعظم من فرد. لقد ولّد استشهاد الغماري آلاف الغماريات، وزاد العزيمة والإصرار على مواصلة الطريق حتى تحرير القدس وزوال كيانكم الغاصب.
اعلموا أن دماء الشهداء لن تذهب هدرًا، بل ستكون وبالاً عليكم ونقمة تُدمّركم. فكل قطرة دمٍ تُسفك ظلمًا تستنهض ألف مجاهد، وكل شهيدٍ يسقط يُولد من رحمه ألف بطل. هذه سنة الله، ولن تستطيعوا تغييرها مهما بلغت قوتكم وجبروتكم.
إن النصر آتٍ لا محالة، ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 4-6].