واشنطن تتراجع خطوة في اليمن: إعادة تموضع أم إقرار بمحدودية الخيارات؟

في تحوّل مفاجئ بمسار الانخراط الأميركي في الصراع اليمني، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب وقف العمليات العسكرية ضد صنعاء، في خطوة وُصفت بأنها نتيجة لاتفاق غير معلن تم التوصل إليه بوساطة عمانية. الأوساط السياسية والإعلامية الإسرائيلية استقبلت الإعلان بدهشة نقلها الاعلام العبري صراحةً، في ظل غياب أي تنسيق مسبق مع تل أبيب، ما عكس خللاً استراتيجياً في التشاور بين الحليفين في لحظة إقليمية بالغة التعقيد.

القرار الأميركي لا يبدو جزءاً من مقاربة استراتيجية شاملة لإعادة النظر في ملفات المنطقة، بل هي قراءة معدّلة لساحة بات يُنظر إليها كتهديد محتمل للأمن القومي، بعدما خرجت الأوضاع فيها عن السيطرة، وهو ما يدفع واشنطن إلى إعادة تموضع تكتيكي لتقليل الخسائر وضبط مسار التصعيد، بدلاً من الانخراط المباشر في حرب استنزاف طويلة. لكنه في الوقت ذاته يعكس إقراراً ضمنياً بمحدودية القدرة على تحقيق “نصر عسكري” أو فرض وقائع جديدة في اليمن، خصوصاً بعد التطورات المتسارعة في البحر الأحمر.

المسار الذي قاد إلى وقف العمليات لم يمرّ عبر القنوات المعتادة أو عبر الوسطاء التقليديين، بل كان من نتائج حراك مباشر وهادئ قادته سلطنة عمان، لعبت فيه إيران دوراً غير مباشر عبر توفير الأجواء السياسية. وتؤكد مصادر مطّلعة أنّ صنعاء كانت الطرف المركزي والحاسم في تحديد شروط الاتفاق، وهو ما يشير إلى تحوّل نوعي في طريقة تعاطي واشنطن مع الملف اليمني.

من جهة أخرى، أثبتت حركة أنصار الله أنها تمتلك من الأدوات والإمكانيات ما يكفي لفرض إيقاع خاص في البحر الأحمر والمنطقة، دون أن تسقط في فخ الاستنزاف أو الانجرار إلى معركة غير متكافئة مع واشنطن. ما حدث هو إعادة قراءة أميركية متأخرة لمعادلة ميدانية تتشكل منذ سنوات، لا سيما منذ انخراط صنعاء في معركة الإسناد للشعب الفلسطيني عقب طوفان الأقصى عام 2023.

في أعقاب الإعلان الأميركي، أكد رئيس المجلس السياسي الأعلى في صنعاء، مهدي المشاط، أن “المعركة لن تتوقف ما دام العدوان على الشعب الفلسطيني مستمراً”، في إشارة واضحة إلى استمرار العمل ضمن معادلة الردع التي تبنتها صنعاء منذ أكثر من عام. كما صرّح رئيس الوفد الوطني المفاوض محمد عبد السلام، أن “القرار الأميركي لا يغيّر من طبيعة الصراع، لأن المعركة اليمنية الأصلية لم تكن مع واشنطن بل مع كيان الاحتلال الذي يشنّ عدواناً مفتوحاً على غزة”.

هذا الخطاب يعكس منطقاً ثابتاً في مقاربة صنعاء للمعركة: واشنطن لم تكن في الأصل “العدو الأول”، بل طرف تدخّل عسكرياً في مسار مواجهة بدأ أساساً مع إسرائيل. والقرار الأميركي بالانسحاب أو وقف العمليات لا يغيّر من ثوابت الموقف اليمني، بقدر ما يعبّر عن تراجع ميداني أميركي واعتراف بعدم جدوى الاستمرار في الاشتباك المباشر.

أحد الأبعاد اللافتة في هذا القرار هو غياب إسرائيل عن مشهد التفاوض. لم تُستشر تل أبيب، ولم يتم تنسيق الخطوة معها، وهو ما أزعج المستويات السياسية والأمنية الإسرائيلية، التي وجدت نفسها على الهامش في لحظة يُعاد فيها ترتيب المشهد الأمني في الإقليم. وبالرغم من التصريحات الإسرائيلية النارية بشأن اليمن، فإن الواقع الجيوسياسي والعسكري لا يتيح لإسرائيل خيارات واسعة أو فعّالة في هذه الساحة.

فقد بات من الصعب على تل أبيب التفكير في عمل عسكري مباشر أو واسع ضد صنعاء، نظراً لتداخل الجغرافيا، وامتداد خطوط الاشتباك، والكلفة العالية لأي مغامرة عسكرية من هذا النوع. كما أن انشغال إسرائيل في كل من لبنان وسوريا، واحتدام الاشتباك في غزة والضفة، يجعل من فتح جبهة جديدة في البحر الأحمر خياراً غير واقعي في الوقت الراهن.

يحمل القرار الأميركي أسبابه الواقعية التي ترتبط بحسابات الميدان والسياسة. في 6 أيار/مايو الجاري، سقطت طائرة مقاتلة من طراز F-18 في البحر الأحمر، وهي الحادثة الثانية من نوعها خلال أسابيع قليلة. ورغم عدم توجيه اتهام مباشر لصنعاء، إلا أن الحادثة جاءت في توقيت بالغ الحساسية، في ظل تصاعد التهديدات ضد القطع البحرية الأميركية، وتزايد الضغوط العملياتية على البوارج والطائرات العاملة في مسرح البحر الأحمر.

هذه الحوادث، إلى جانب الاستنزاف المادي والبشري، لعبت دوراً في الدفع باتجاه تسوية مؤقتة أو “هدنة غير معلنة”، تسمح لواشنطن بتقليل الكلفة دون أن تظهر بموقع المنسحب أو المهزوم.

في المقابل، فإن هذه الخطوة تمنح ترامب -الذي سيزور المنطقة خلال الاسبوع المقبل- فرصة للقول بأنها استطاعت تفكيك إحدى الجبهات النشطة، دون الدخول في مفاوضات رسمية أو تقديم تنازلات سياسية معلنة، خاصة وأن ادارته أعادت تصنيف الحركة “كمنظمة ارهابية”.

يمكن القول بأن واشنطن، قررت -مرحلياً على الأقل- التراجع خطوة إلى الوراء، في اعتراف ضمني بمحدودية خياراتها، وتحوّل دورها من لاعب مباشر إلى مراقب حذر في مشهد إقليمي لم يعد تحت سيطرتها الكاملة.

مريم السبلاني-كاتبة في موقع الخنادق.
قد يعجبك ايضا