“فجر الانتصار” يطل على مدينة مأرب: أوّل “الحسم”

 

كشفت القواتُ المسلحةُ، أمس الاول الثلاثاء، تفاصيلَ ثالث عملية واسعة ضمن معركة استكمال تحرير محافظة مأرب، وهي واحدةٌ من أكبر وأشدِّ المعارك التي خاضها أبطالُ الجيش واللجان الشعبيّة ضد قوى العدوان ومرتزِقتها؛ نظرًا للأهميّة الاستراتيجية الكبيرة لميدانها الواسعِ وصعوبةِ تضاريسه وكثافة حشود وإمْكَانات العدوّ التي كانت متمركزة فيه، وغير ذلك من التحديات التي أثبتت القواتُ المسلحة مجدّدًا أنها قادرةٌ على التعامل معها بشكل يفاجئ العدوّ ويسلبُه كُـلَّ ميزات “التفوق” المادي التي يمتلكها ويعتمدُ عليها، لتكبّده خسارةً مريرةً تتجاوزُ طردَه من المناطق التي كان قد احتلها، وترسُمُ له ملامحَ انهيارات مستقبلية “حتمية” وأشدَّ قسوةً وتأثيراً، مثل طرده من مدينة مأرب التي لم يعد يفصلها عن أبطال الجيش واللجان بعد هذه العملية سوى إشارة القيادة لبدء الفصل الأخير من المعركة.

العملية التي أطلقت عليها القوات المسلحة اسم “فجر الانتصار” كدلالة على ما تمثّلُه من تحوُّلٍ استراتيجي كبير، وتقدُّمٍ نوعي صَوْبَ آخر معاقل العدوّ في المحافظة، تم رسم مساراتها وخطتها بناءً على المكاسب الواسعة التي تراكمت من عمليتَي “البأس الشديد” وقبلها “البنيان المرصوص” في الجهتين الغربية والشمالية للمحافظة، وهو ما يؤكّـد مجدّدًا اتساعَ الرؤية التكتيكية لدى القيادة وتميُّزَها في تحديد مراحل التقدم وجغرافياتها ومساراتها، بصورة تضمنُ ثباتَ المكاسِبِ المتحقَّقة، وبالتالي تضمن “تصاعدية” الإنجازات.

مسرحُ العملية، والذي قُـــدِّرَ بـ600 كيلو متر مربع، امتد في معظمه داخل مديرية صرواح، ذات الأهميّة الاستراتيجية الأكبر داخل المحافظة بكلها، وبالنسبة لمدينة مأرب بالذات؛ لأَنَّها تحوي الكثيرَ من “خطوط الدفاع” الرئيسية (معسكرات- جبال -–طرق) وضمن تضاريس متنوعة بين المرتفعات شديدة الوعورة، والصحراء، والوديان، وقد أدرك العدوّ هذه الأهميّة طيلة السنوات الماضية وحاول استغلالها لصالحه فقام بتكثيف وجود قواته ومرتزِقته وشيّد العديدَ من الطرق والأوكار والمعسكرات وشدّد تحصيناتِها؛ ليضمَنَ من خلالها كسرَ أية محاولة للوصول إلى المدينة من الغرب.

لكن خطة “فجر الانتصار” استطاعت أن تستوعب هذه التحديات بشكل كامل وأن تضع التكتيكات المناسبة للتغلب عليها بشكل نهائي، فوضعت أكثر من مسار لشن هجمات متزامنة شاركت فيها مختلف الوحدات القتالية للجيش واللجان (الاقتحام، الإسناد، المدفعية، الهندسة، القناصة، القوة الصاروخية، سلاح الجو المسيَّر)، وهو الأمرُ الذي بات سمة بارزة وفريدة تتميز بها العملياتُ العسكرية الواسعة للقوات المسلحة، وكالعادة، كان العنصرُ البشريُّ بما يمتلكُه من عقيدة قتالية راسخة وتدريب احترافي وبسالة منقطعة النظير، هو العنصرَ الأهمَّ؛ لأَنَّه تمكّن من تنفيذ كُـلّ التكتيكات العملياتية بأفضل شكل ممكن.

الصورةُ الحيةُ التي تتميّز القواتُ المسلحة دائماً بتقديمها من قلب المواجهة، وثّقت بدقة هذا التفوُّق في التكتيك وفي التنفيذ، وأكّـدت مجدّدًا أنه لا يأتي مصادفةً بل نتيجة إعداد وبناء متكامل يمكّن من التعامل مع كُـلّ التحديات ويضمن دائماً عنصر المفاجأة في التوقيت وفي الأُسلُـوب القتالي، إلى حَــدِّ أن الإمْكَاناتِ المادية الهائلة التي يمتلكها العدوّ كالغطاء الجوي المكثّـف والترسانةِ الكبيرة من الأسلحة الثقيلة والقدرةِ على التحشيد والتعزيز، تفقد قيمتَها بشكل محيِّرٍ أمام مجموعة بسيطة من المقاتلين الذين يقتحمون قِمَمَ الجبال الوعرة بنفس المرونة والبسالة التي يشتبكون بها مباشرةً مع مدرعات العدوّ على الخط الصحراوي حتى يجبرونها على التوقف والاستسلام.

وبالنظر إلى الأرقام التي أعلنها المتحدثُ باسم القوات المسلحة، يتضح أن معركةَ “فجر الانتصار” كانت إحدى المواجهات التي تدخُلُ في حسابات “الحسم” النهائي لمعركة مأرب، فالعددُ الهائل من القتلى والجرحى في صفوف العدوّ، والمدرعات المدمّـرة، يعني -وفقاً لمعادلات العدوّ العسكرية في المقام الأول- أن الخسارةَ التي وقعت لا يمكن تعويضُها أبدًا، وبإضافة ذلك العدد إلى أعداد الضربات الصاروخية والجوية وعمليات الدفاع الجوي التي نفذتها القواتُ المسلحة خلال هذه المعركة، يتضحُ على الجانب الآخر أن معادلاتِ صنعاء العسكرية سبقت حساباتِ العدوّ بأميالٍ في رؤية إمْكَانية تحويل التحدي الكبير إلى فرصة ثابتة وإنجاز “حاسم”.

ولن يكونَ حديثُ الأرقام عن هذا الإنجاز مفهومًا بشكل كافٍ إلا بالنظر إلى جغرافيا المعركة، أَو بالأصح، جغرافيا الانتصار، فداخل هذه المساحة سيطرت قوات الجيش واللجان على مناطقَ ومعسكرات استراتيجية، مثل كوفل، والمشجح، والكسارة، وحمة عامر (الصديق)، وهي كلها معروفةٌ بأهميتها وثقلها كـ”خطوط دفاع” للعدو ليس على مستوى وجوده في “صرواح” فقط، بل على مستوى وجوده في مدينة مأرب، وبالتالي وجوده في المحافظة كلها؛ لأَنَّ هذه المناطق والمعسكرات أعطيت أهميّةً قُصوى من قبل العدوّ؛ بسَببِ ما تفتحُه من بوابات نحو المدينة، وبالتالي نحو “الحسم”.

وبالاتّجاهِ نحوَ الحدود الشرقية لجغرافيا “فجر الانتصار”، أَو بعبارة أُخرى، الخطوط الأمامية “الجديدة” التي باتت قوات الجيش واللجان الشعبيّة تقفُ فيها بعدَ نجاح العملية، يتضحُ أكثرَ معنى “الحسم” الذي تنتمي إليه هذه العملية الكبرى، فعند منطقة “ذات الرَّاء” الاستراتيجية يقفُ المجاهدون على بُعد كيلومترات قليلة من مدينة مأرب، على الخط الرئيسي المؤدي إليها من اتّجاه مديرية مدغل، وبجوار “الطلعة الحمراء” يقفون على مسافةٍ أقربَ، مسيطرين على الخط الرئيسي القادم إلى المدينة من صرواح، وعند “السد” ومحيطه يلامسون مرتفعاتِ “البَلَق” الاستراتيجية التي تشكّل إلى جانب “الطلعة” و”حمة المصارية” خطَّ الدفاع الجَبَلي الأخيرَ للمرتزِقة والذي من المرتقب أن يتم تجاوُزُه في عمليةٍ قادمة، ضمنَ الحسم النهائي للمعركة.

وفقاً لذلك كله، فَـإنَّ “الرسائلَ” التي يحملُها الإعلانُ عن معركة “فجر الانتصار”، وبدءًا من اختيار اسمها، هي رسائلُ واضحةٌ ومباشرةٌ، وللحديث عنها لا بد من الإشارة أوَّلاً إلى تميز القيادة الوطنية في توظيف “المعلومة” ضمن خطة المعركة، فالمواجهاتُ قد حدثت فعليًّا قبل مدة، لكن تفاصيلَها لم تُعلَنْ رسميًّا، والكشفُ عنها الآن يأتي في توقيتٍ حساس تعيش فيه قواتُ العدوّ داخل مأرب انهياراتٍ كبرى متلاحقةً يعترفُ بها إعلامُ العدوّ نفسُه. بالتالي، هناك رسالةٌ إجمالية جلية مفادها أن مأربَ تتحرّر، ولا يمكن إيقافُ ذلك، وهي رسالةٌ موجَّهة لكل أطراف العدوّ، بدءًا من الولايات المتحدة التي حملت على عاتقها طيلةَ الأشهر الماضية مهمةَ “الضغط” على صنعاء لوقف التقدم في المحافظة، مُرورًا بالنظام السعوديّ الذي عوّل كَثيراً على الدعم الأمريكي والغربي بشأن مأرب كما بشأن كُـلّ شيء آخر، ثم المرتزِقة الذين كثّـفت صنعاءُ مؤخّراً جهودَها لنُصحهم بتجنُّبِ عاقبة التعويل على النظام السعوديّ وعلى الولايات المتحدة، من خلال الدخولِ في مبادرة قائد الثورة.

والكشفُ عن عمليةِ “فجر الانتصار” من شأنه أن يوضِّحَ الصورةَ أكثرَ لتحالف العدوان ومرتزِقته بخصوص مبادرة قائد الثورة أَيْـضاً، فهي لا تعطيهم أيةَ فرصة لكسب الوقت من خلال محاولة التحايل عليها وعلى بنودها، بما يضمن بقاءَهم وسيطرتَهم على مدينة مأرب وثرواتِها، بل توفّرُ لهم مخرجًا سلميًّا بدلاً عن الطرد بالقوة؛ حرصًا على تجنُّب تداعيات الخيار الأخير وتغليبًا للمصلحة العامة، وهذا أَيْـضاً ما وضّحه، أمس، ناطقُ القوات المسلحة في حديثه الموجَّه بشكل مباشر وصريحٍ لأبناء محافظة مأرب وللمرتزِقة.

صحيفة المسيرة

قد يعجبك ايضا