البحر الأحمر.. الميدان الذي أسقط الهيبة الأمريكية والصهيونية

منذ عقود ظلّ البحر الأحمر شرياناً حيوياً للكيان الإسرائيلي، وممراً استراتيجياً لا غنى عنه لاقتصاده وأمنه القومي. وكانت أمريكا، حامية الكيان والمدججة بأساطيلها، تظن أن هذا الممر ملك لسطوتها البحرية لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه. غير أن الرياح جرت بما لا تشتهي سفن الغزاة، فخرج اليمن، من بين الركام والحصار، ليؤكد من جديد أنه صاحب القول الفصل في البحر الأحمر بلا منازع، ويعيد صياغة قواعد الاشتباك الدولي.

سقوط الوهم الأمريكي

تحرّكت حاملات الطائرات الأمريكية تباعاً إلى البحر الأحمر بثقلها وجبروتها، ظناً منها أنها ستُرهب الشعب اليمني كما أرعبت عواصم ودولاً عدة. لكن اليمنيين حوّلوا مياه البحر إلى مصيدة، وصارت “مقبرة الغزاة” ليست فقط للتدخلات الاستعمارية، بل أيضاً لمفاخر التكنولوجيا الغربية.

ثلاث عمليات عسكرية نفذتها القوات المسلحة اليمنية ضد حاملة الطائرات الأمريكية “يو إس إس آيزنهاور” في 31 مايو2024، والأول من يونيو 2024، وضربة ثالثة أجبرتها على مغادرة المنطقة في 22 من يونيو2024م، لتتولى المهمة بعدها حاملة الطائرات الأمريكية [يو إس إس إبراهام لينكولن] وقد نالت نصيبها من الصواريخ اليمنية في البحر العربي يوم 12 نوفمبر 2024م أثناء تحضير العدو لتنفيذ عمليات معادية تستهدف بلدنا، وتم إفشال عملية الهجوم الجوي للعدو الأمريكي. والنتيجة: هروب الحاملة واستبدالها بحاملة الطائرات “روزفلت”، لكنها لم تجرؤ على الدخول إلى منطقة العمليات في البحر الأحمر، خشية من الاستهداف، بعد أن هدد السيد القائد عبد الملك الحوثي باستهدافها إذا دخلت إلى البحر الأحمر.

عمد العدو الأمريكي إلى إدخال تعديلات إلى حاملة الطائرات الأمريكية [يو إس إس هاري ترومان] لتكون سريعة جداً في عملية الهروب بحيث تنفذ عدواناً على اليمن وتسارع في الابتعاد عن مدى الصواريخ اليمنية. هذه الحمالة تعرضت لـ (9) عمليات استهداف أثناء قيامها بالعدوان على اليمن خلال الفترة الممتدة بين الـ22 من ديسمبر2024 والـ19 من 2025م قبل أن يتم إعلان الهدنة في غزة.

وفي مارس ومع عودة التصعيد في غزة ومع العدوان الأمريكي على اليمن، كانت حاملة الطائرات الأمريكية “ترومان” في مرمى النيران، حيث تعرضت الحاملة لـ7 عمليات استهداف في النصف الثاني من مارس 2025.

وخلال النصف الأول من أبريل الماضي تعرضت “ترومان” لـ6 عمليات عسكرية يمنية، اضطرت معها الولايات المتحدة إلى استقدام حاملة الطائرات “فينسون” إلى البحر العربي لمحاولة تشتيت القوات المسلحة، إلا أن العمليات العسكرية تصاعدت بشكل كبير حيث تعرضت الحاملة “فينسون” لثلاث عمليات عسكرية يمنية .. أما الحاملة “ترومان” فمنذ الـ18 من أبريل الماضي حتى الـ7 من مايو تعرضت لـ7 عمليات استهداف، أهمها العملية الأخيرة في 7 مايو والتي أدت إلى سقوط طائرة أمريكيةٍ إف 18 بسببِ حالةِ الإرباكِ والذعرِ الذي وصلَ إليه العدوُّ أثناءَ عمليةِ الاستهداف. والأهم من ذلك هروبُ حاملةِ الطائرات الأمريكيةِ “ترومان” وبشكل نهائي إلى أقصى شماليِّ البحرِ الأحمر. لتعلن الولايات المتحدة الأمريكية في نفس اليوم الرضوخ للسلام والقبول بالوساطة العمانية الرامية إلى خفض التصعيد مقابل عدم استهداف السفن الحربية والتجارية الأمريكية والذي أقر به المجرم ترامب على مضض.

لم تكن حاملات الطائرات الأمريكية وحدها هدفاً للنيران اليمنية، بل نفذت القوات المسلحة ما يزيد عن (78) عملية اشتباك مع البوارج والقطع العسكرية الأمريكية، كما تمكنت البحرية اليمنية من استهداف (30) سفينة: [10 في البحر الأحمر، 13 سفينة في خليج عدن، وسفينتان في المحيط الهندي، و4 سفن في البحر العربي]، وذلك بالصواريخ الباليستية والبحرية والطائرات المسيرة.

وكما سقطت حاملات الطائرات فقد سقطت طائرات الـ MQ9 واحدة تلو الأخرى حتى بلغ العدد إلى (22) طائرة، حتى تحوّلت من رمز للتجسس إلى رمز للخيبة. ثم جاء الدور على إف 18 “سوبر هورنت” التي طالما تباهت البحرية الأمريكية بأنها درة تاجها، فإذا بها تتهاوى ثلاث مرات متتالية في أشهر قليلة، تحت ضغط النيران اليمنية والمناورات الاضطرارية المذلة.

خلفيات الهروب الأمريكي

أما عن خلفيات الهروب الأمريكي من المعركة مع الجيش اليمني في البحر فقد لخصه موقع “كالكاليست” العبري الذي كشف في تقرير له مطلع أغسطس الماضي أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اضطر إلى وقف الحملة الجوية الأميركية على اليمن في مايو 2025، نتيجة ما وصفه التقرير بـ”أسباب خفية”، وفي مقدّمتها صاروخ يمني واحد أطلقته القوات المسلحة اليمنية باتجاه حاملة الطائرات الأميركية “هاري ترومان”، وكاد أن يصيبها، ما تسبّب بحالة هلع في البنتاغون، وأدى إلى إيقاف العملية خوفًا من كارثة استراتيجية وعسكرية قد تُحرج واشنطن داخليًا وخارجيًا.

وفي تقريرٍ موسع أعدّه الصحفي “نيتسان سادان”، تم توثيق تفاصيل ما وصفه بـ”الليلة التي خاف فيها ترامب”، حيث كشف أن حملة “الراكب الخشن” التي شنّتها واشنطن ولندن ضد شمال اليمن باءت بالفشل، ليس فقط لأسباب ميدانية، ولكن لأن الجيش اليمني أظهر قدرة ردع صاروخية جعلت البحرية الأمريكية تعيد حساباتها بالكامل.

وبحسب التقرير، فإن الرئيس ترامب أعلن وقف القصف في 5 مايو، زاعمًا أن “الحوثيين طلبوا التهدئة”، إلا أن الحقيقة – كما كشفها التقرير – أن البنتاغون حذّر الرئيس من أن أي استهداف مباشر لإحدى السفن الأميركية، خاصة حاملة الطائرات “هاري ترومان”، سيكون بمثابة كارثة استراتيجية وإعلامية، وقد يُجبر واشنطن على الانخراط في غزو بري لشمال اليمن، وهو ما لا تريده القيادة الأمريكية بأي ثمن.

وفي سردٍ مفصّل لما حدث، كشف التقرير أن قوات صنعاء أطلقت في ليلة 28 أبريل صاروخًا باليستيًا دقيقًا نحو الحاملة “ترومان”، بعد تحديد موقعها عبر معلومات استخباراتية دقيقة، وأمطرت المسار البحري بمجموعة من الصواريخ والطائرات المسيّرة في هجوم مركب أربك أنظمة الدفاع الأميركي.

الصحيفة زعمت أنه ورغم عدم إصابة الصاروخ لهدفه بشكل مباشر، إلا أن حاملة الطائرات العملاقة اضطرت إلى تنفيذ مناورات مراوغة حادة، وصلت إلى درجة ميلان 20 درجة، ما أدى إلى انزلاق طائرة مقاتلة من نوع F-18 عن سطح الحاملة وسقوطها في البحر، وهي طائرة تُقدّر قيمتها بـ70 مليون دولار. وأكد ضابط في البحرية الأميركية أن سطح السفينة اضطر للانحدار خلال المناورة لدرجة جعلت الطائرة تنفصل عن حبال التثبيت وتطير نحو الماء.

وأشار التقرير إلى أن الصاروخ الذي تم إطلاقه يبلغ مداه أقل من 300 كيلومتر، ويُحلق في مسار انحداري حاد ويصل إلى سرعة تفوق سرعة الصوت، ما يجعل اعتراضه مهمة شبه مستحيلة. ويزن رأسه الحربي 650 كجم، ويُعد أحد أخطر الصواريخ التي تملكها صنعاء حاليًا في ترسانتها البحرية.

ووصف التقرير هذا النوع من الصواريخ بأنه “الجوكر” في ترسانة أنصار الله، مشيرًا إلى أنه يختلف عن الطائرات المسيّرة أو صواريخ الكروز من حيث طريقة الطيران والرصد والاستهداف، ويُعد تهديدًا استثنائيًا لحاملات الطائرات الأميركية. واعترف الموقع بأن دفاعات البحرية الأميركية لم تنجح في اعتراض الصاروخ بالكامل، خاصة مع تعقيد الهجوم وتزامنه مع موجات من الطائرات المسيّرة.

وأكد التقرير أن واشنطن أدركت في تلك الليلة حجم الفجوة بين المكاسب والخسائر، وأن ترامب خشي من أن يؤدي استمرار العملية إلى صورة كارثية تُظهر حاملة طائرات أميركية مشتعلة تُسحب نحو ميناء قريب، وهو ما سيفضح أمريكا في عيون العالم، ويُسقط صورة “الرئيس الحديدي” التي يسعى ترامب لتسويقها قبيل الانتخابات.

وأمام هذه الصورة، قال التقرير: اقتنع فريق الرئيس أن “الحوثيين” يجب التعامل معهم سياسيًا لا عسكريًا، وأن الكلفة ستكون باهظة إن استمرت الضربات، خاصة بعد أن أظهرت صنعاء أنها تملك منظومات متطورة قادرة على تهديد أعظم القطع البحرية الأميركية.

وفي اعتراف ضمني بقوة صنعاء، قال الموقع: إن “الحوثيين حُفاة لكنهم أذكياء”، وإنهم نجحوا في جعل العالم يبدو مرتبكًا أمامهم، رغم أن الجميع كان يظن أنهم مجرد “جماعة”، مشيرًا إلى أن واشنطن و”تل أبيب” فشلتا في منعهم من تهديد الممرات البحرية، وأن الصواريخ اليمنية تواصل إرعاب السفن رغم عدم إصابتها المباشرة.

حدود القوة الأمريكية

وفي مطلع سبتمبر الماضي كشف تقرير لمعهد البحري الأمريكي، عن أوجه القصور ومدى الصعوبات التي واجهتها البحرية الأمريكية في المعركة مع الجيش اليمني في البحر الأحمر.

وأكد معهد البحرية الأمريكية أن البحر الأحمر شهد أكبر صراع بحري منذ الحرب العالمية الثانية وأول تعرض مباشر للسفن الحربية الأمريكية لنيران العدو، مضيفاً أن التدخل الأمريكي في البحر الأحمر فرض ضغطاً هائلاً على القوات البحرية الأمريكية وكشف عن مواطن قوة وضعف في الأسطول.

وكشف أن البحرية الأمريكية واجهت في البحر الأحمر مركبة غير مأهولة تحت الماء في أول حادثة من نوعها في التاريخ العسكري، مؤكداً أن عمليات البحر الأحمر كشفت حدود قدرات مجموعة حاملة الطائرات القتالية وأوجه قصور حاسمة.

ولفت إلى أن مقاتلات الحاملة واجهت صعوبة في جمع معلومات استخباراتية دقيقة واضطرت للاعتماد على أصول خارجية. كما أظهرت عمليات البحر الأحمر قيوداً في تزويد مقاتلات الحاملة بالوقود جواً وأجبرها على الاعتماد على دعم سلاح الجو بانتظار دخول الطائرة المسيّرة MQ-25 الخدمة.

وأكد أن عمليات البحر الأحمر كشفت صعوبة اكتشاف وتتبع وتدمير الطائرات المسيّرة أحادية الاتجاه التي استخدمها اليمنيون بفعالية. كما كشف أن المدمرات الأمريكية أطلقت في يوم واحد صواريخ توماهوك بأكثر مما أنتجته الولايات المتحدة خلال عام كامل.

وخلص التقرير إلى أن أزمة البحر الأحمر فريدة من نوعها وتقدم دروساً مهمة لمواجهة خصوم أكثر تطوراً في المستقبل. فأزمة البحر الأحمر منحت الولايات المتحدة فرصة لتجربة أسلحتها وتكتيكاتها عملياً. مؤكداً أن على البحرية الأمريكية استيعاب الدروس في البحر الأحمر بجدية استعداداً لصراعات المستقبل.

الهزيمة الإسرائيلية المضاعفة

كان رهان “تل أبيب” على واشنطن أن تفك عنها حصار باب المندب، وأن تحمي خطوط إمدادها النفطية والتجارية عبر البحر الأحمر. لكن النتيجة جاءت عكسية؛ فالملاحة إلى ميناء “إيلات” شُلّت، وخسائر الاقتصاد الإسرائيلي تراكمت، فيما أمريكا وقفت عاجزة عن حماية حليفتها الأولى. بدا الكيان الصهيوني محاصراً، لا فقط في غزة، بل أيضاً في البحر، حيث انقطع عن أفريقيا وجنوب شرق آسيا، وكأن اليمن أغلق عليه رئة الحياة.

صلابة اليمنيين: السرّ الذي أذهل العالم

في حين ارتبكت واشنطن و”تل أبيب” أمام الضربات، ظلّ اليمنيون هادئين واثقين، يخطّون خطواتهم بدقة وتدرّج. كانت حرب الجيش اليمني صواريخ ومسيرات، وحرب إرادة وإيمان. كان الجيش اليمني يدرك أن كل إسقاط لطائرة هو ضربة في سمعة أمريكا، وكل مناورة قسرية للحاملة البحرية هو خدش في هيبتها العالمية. لقد مارس اليمن “تكتيك التشويه”، الذي يجعل الخصم يبدو ضعيفاً أمام العالم، حتى لو لم يُغرقوا حاملة الطائرات نفسها.

لقد خرجت أمريكا من البحر الأحمر مثقلة بالعار، وخسائرها بالمليارات: طائرات سقطت، مليارات أُنفقت، ومعنويات بحارتها تهاوت حتى اعترف مسؤولوها أن 68% منهم يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة. أما العدو الإسرائيلي، فوجد نفسه أكثر عزلة وضعفاً، بعدما تخلّت عنها الحامية التي كان يستند إليها.

إنها هزيمة عسكرية، وتحوّل استراتيجي عميق: اليمن الذي حُسب لسنوات دولة فقيرة محاصرة، صار قوة إقليمية يُحسب لها ألف حساب، والبحر الأحمر لم يعد ممراً آمناً لأساطيل الاستكبار، بل أصبح بحراً يمنياً بامتياز.

الخلاصة:

اليوم، ولأول مرة منذ عقود طويلة، يخلو البحر الأحمر من المدمّرات الأمريكية، وتغدو السفن الصهيونية هدفاً مشروعاً تحت رحمة اليمنيين. إنها لحظة فارقة في التاريخ، حيث تتحول قوة محاصَرة إلى قوة بحرية إقليمية تعيد رسم خرائط الملاحة.

الهزيمة الأمريكية ـ الإسرائيلية في البحر الأحمر هي خسارة في العتاد بقدر ما هي سقوط مدوٍ لهيبة ادّعت أنها لا تُقهر. لقد أثبت اليمن للعالم أن الإرادة حين تقترن بالإيمان والتخطيط، تستطيع أن تُعيد رسم خرائط القوة، وأن البحر صار شاهداً على زمن جديد: زمن انكسار الغزاة وولادة قوة يمنية صاعدة.

موقع أنصارالله

قد يعجبك ايضا