برعُــمٌ ينبُت من تحت الركام

فهد شاكر أبوراس

هُنا غزة، حَيثُ تتحول الحياة إلى ركام، وتختنق الأنفاس تحت وطأة الدخان والحديد، من هنا تبدأ الحكاية.

حكايةُ شعبٍ يكتُبُ مقولتَه في وجه العالم بأسره، مقولة تقول: إن الحياة لا يمكن أن تموت رغم أنف الموت، وإن الحق لا يغيب رغم أنف الباطل.

هنا في غزة، حَيثُ تتداخل رائحة التراب مع رائحة الدم، يولد الفجر من رحم المعاناة، ويتحول الألم إلى إرادَة، والموت إلى حياة، والفقدان إلى قوة لا تُقهر.

إنها ليست مُجَـرّد أرض، بل هي ضمير العالم المنسي، وهي قضية الإنسانية الغائبة، ومدرسة المقاومة التي تُعلِّم البشرية كيف تنتصر الإرادَة على التنكيل، وكيف ينتفض الحق أمام أعين الظالمين.

من تحت الأنقاض، يخرج الأطفال بوجوه شاحبة تغطيها غبار القنابل، لكن عيونهم تحمل بريقًا لا ينطفئ، بريقًا يقول للعالم: نحن هنا، ولن نرحل.

هؤلاء الأطفال الذين فقدوا كُـلّ شيء، لم يفقدوا ذاكرتهم، ولم يفقدوا كبرياءهم، ولم يفقدوا يقينهم بأن هذه الأرض لهم، ولن يستطيع أحد أن ينتزعَها من قلوبهم ولو دمّـر جسدَها.

إنهم يجسدون المعجزة الحقيقية، معجزة شعب يرفض أن يموت، ويصرّ على الحياة رغم كُـلّ محاولات القتل.

إنهم ليسوا ضحايا كما يصورهم الإعلام، بل هم مقاتلون بقلوبهم، مقاومون بروحهم، مناضلون بإرادتهم.

لقد حاول العدوّ بكل ما أوتي من قوة أن يكسر شوكة هذا الشعب، فحوّل بيوته إلى أكوامٍ من الأسمنت المسلح، وحوّل حدائقه إلى مقابر جماعية، وحوّل شوارعه إلى أنفاق من الدمار.

لكنه لم يستطع أن يقتل الأمل في نفوس أبنائه، ولم يستطع أن يقتل الحلم في عيون أطفاله، ولم يستطع أن يقتلَ الإيمانَ في قلوب مقاتليه.

لقد ظَنَّ أن القنابلَ ستزرع الخوف، فإذا بها تزرعُ العزيمة، وظنّ أن الدمار سيصنع اليأس، فإذا به يصنع الصمود، وظنّ أن الموت سيقتل الحياة، فإذا بالحياة تنتصر على الموت.

وها هي المقاومة، كالشجرة الطيبة، تزداد قوةً وعمقًا كلما حاولوا اقتلاعها، وها هي تصبح أكثر رسوخًا كلما حاولوا تحطيمها.

إنها ليست مُجَـرّد رجال يحملون السلاح، بل هي روحٌ تعشّش في كُـلّ حجر، وهمسةٌ تتردّد في كُـلّ زقاق، وإرادَة تتجسد في كُـلّ طفلٍ وامرأةٍ وشيخ.

إنها تعبير عن رفضٍ طبيعي للظلم، وانتفاضةٌ فطرية ضد الاحتلال، وثورةٌ إنسانية على محاولات الإبادة.

إنها الصوت الذي يعلو فوق صوت الانفجارات، والضوء الذي يتحدى ظلام القنابل، والحق الذي يسخر من باطل المحتلّ.

لقد كتبت المقاومة بدماء شهدائها أسمى ملاحم البطولة، ورسمت بصور صمودها أجمل لوحات العزة، وسطّرت بمواقفها أروع صفحات الكرامة.

لقد أثبتت للعالم أن الحق لا يحتاج إلى جيوشٍ جرارة، بل إلى إرادَة جبارة، ولا يحتاج إلى أسلحة فتاكة، بل إلى عقيدة راسخة.

لقد أصبحت غزة مدرسةً للعالم أجمع، يُدرَّس فيها كيف تنتصر الإرادَة على التحديات، وكيف تنتصر المقاومة على أعتى آلات الحرب، وكيف ينتصر الحق رغم كُـلّ المؤامرات.

إن أطفال غزة الذين يُولَدون بين الركام، والنساء اللواتي يفقدن أعزاءهن ثم ينهضن كالجَبَّارات، والرجال الذين يُستشهَدون وهم يبتسمون؛ لأَنَّهم يعلمون أنهم يموتون؛ مِن أجلِ حقٍّ لا يموت، كلُّهم يشكِّلون معنى المقاومة الحقيقية.

إنهم يذكّرون العالَمَ بأن فلسطينَ ليست مُجَـرّد أرض، بل هي قضية، وليست مُجَـرّد جغرافيا، بل هي تاريخ، وليست مُجَـرّد مكان، بل هي ضمير.

وإن نضالَهم هذا هو الذي يحفظُ للإنسانية كرامتَها، ويحمي للعالم إنسانيتَه، ويحافظُ على عدالة التاريخ.

لقد حاول المحتلُّ طمسَ هُـوية هذه الأرض، فازدادت هُـويةُ أهلها وضوحًا، وحاول تفتيتَ شعبها، فازداد تلاحُمًا وتماسكًا، وحاول قتلَ روح المقاومة فيها؛ فازدادت المقاومةُ اشتعالًا وتأجُّجًا.

ها هي غزةُ تصنعُ النصرَ من رحم الألم، وتصنعُ الأملَ من قلب اليأس، وتصنعُ الحياةَ من أحضان الموت.

إنها المعجزةُ التي تحيِّرُ العالَم، والأُسطورةُ التي تُسقِطُ كُـلَّ حسابات القوة، والدرس الذي لن ينساه التاريخ.

فلسطين تنتصر، وغزة تقاوم، والمستقبلُ يبتسمُ لهذا الشعب الذي علّم العالم كيف تكون الكرامة، وكيف تكون العزة، وكيف تكون المقاومة.

وإن يوم التحرير آتٍ لا محالة، وسيعود الحق إلى أهله، وستعود الأرض إلى أهلها، وستشرق الشمس على غزة حرةً أبية، كما تشرق كُـلّ صباح لتعلن بداية يومٍ جديد.

ويومٌ جديدٌ آتٍ لا محالة، يومٌ تتحرّر فيه فلسطين من النهر إلى البحر، ويصبح فيه كُـلّ طفلٍ ناجٍ شاهدًا على النصر، وكل شهيدٍ بصمةً في طريق الحرية، وكل مقاومٍ بطلًا من أبطال الخلود.

قد يعجبك ايضا