صنعاء تعيد رسم معادلات ..

منذ كانون الثاني 2024، عاد اليمن ليكون في صميم الاشتباك الإستراتيجي في غرب آسيا. الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتان سعتا منذ انطلاق «طوفان الأقصى» إلى احتواء تمدّد الأزمة، أطلقتا عملية مركّبة ومتدرجة ضد حركة «أنصار الله»، على قاعدة أن صنعاء تمثّل «الحلقة الأضعف» في محور المقاومة، وأن ضربة سريعة وخاطفة كفيلة بإخراجها من المعادلة. لكن هذا التصوّر انهار خلال أسابيع معدودة من بدء القصف.

خلافاً لما رُوّج له في وسائل الإعلام الغربية حول انهيار بنية «أنصار الله»، فإن مواقع الحركة لم تسقط، بل انتقلت إلى مرحلة جديدة من الردع النشط. فمنذ أواخر آذار، تتعرّض الأراضي الفلسطينية المحتلة لقصف صاروخي وجوي من اليمن بمعدّل مرتين يومياً. كما استُهدفت، في مناسبات عدّة، طائرات مسيّرة أميركية عبر منظومات دفاع جوي يمنية. ومن أبرز هذه العمليات (قبل قصف مطار بن غوريون أمس): إصابة صاروخ يمني لحاملة الطائرات «يو إس إس ترومان»، ما أجبرها على تغيير تموضعها العملياتي في البحر الأحمر. ولم تقدّم واشنطن بعد توضيحاً مقنعاً بشأن سقوط مقاتلة F-18 تابعة لها.

وفقاً لمصادر عسكرية غربية، فإن «أنصار الله» صاغت نموذجاً خاصاً في «الحرب الذكية غير المتكافئة»، تمكّنت عبره من الحفاظ على بنيتها التحتية وتوسيع نطاقها العملياتي ليصل إلى عمق الكيان الصهيوني. وقد أقرّت وزارة الدفاع الأميركية، في أكثر من بيان، بأن «أنصار الله» باتت تشكّل «تهديداً عابراً للحدود» للمصالح الأميركية. وفي الأسبوع الماضي، أعرب عدد من كبار المسؤولين الأميركيين، بشكل صريح أو ضمني، عن رغبة واشنطن في التوصّل إلى حلّ سياسي للأزمة مع اليمن. فقد صرّح مسؤول أميركي لشبكة «سي أن أن» قائلاً: «نعتقد أن المسار الديبلوماسي يمكن أن يكون بديلاً من الضربات المؤقتة». فيما أكّد أحد أعضاء مجلس العلاقات الخارجية الأميركية أن «اليمن أثبت قدرته على تحمّل صراع طويل الأمد، وينبغي لنا إعادة النظر في حساباتنا».

هذا التراجع الخطابي وجد صداه في الداخل الأميركي، حيث دعا عدد من أعضاء الكونغرس من الحزبين الديموقراطي والجمهوري إلى «مراجعة فورية للمهمة العسكرية الأميركية في البحر الأحمر». وكتبَت مجلة «فورين أفيرز» في تحليل موسّع: «لقد تحوّلت [أنصار الله] من جماعة متمرّدة إلى لاعب إقليمي يملك قدرة فعل إستراتيجية لا يمكن تجاهلها».

أمّا على المستوى الداخلي اليمني، فقد أدّت النجاحات العسكرية والإعلامية لـ«أنصار الله» إلى تعزيز التماسك الداخلي لمحور المقاومة، وإحداث تغيّرات ملموسة في المزاج الشعبي. فقد انضمّت قبائل وتيارات مستقلة، كانت سابقاً على الحياد أو في صفّ الخصوم، إلى الحركة نتيجة لما وصفوه بـ«ثبات أنصار الله ومكانتهم الوطنية في مواجهة أميركا». وتشير تقارير من محافظات البيضاء ومأرب وشبوة، إلى تنامي الحضور السياسي والاجتماعي لـ«أنصار الله» خلال الأسابيع الأخيرة.

وفي السياق الإقليمي، بدأت شرائح واسعة من الرأي العام في الأردن، مصر، العراق، وحتى بعض دول الخليج، في اعتبار «أنصار الله» رمزاً لـ«التحرّر من الهيمنة الغربية». وتزايدت حملات الدعم الشعبي لليمن على وسائل التواصل الاجتماعي، ما يشير إلى اتساع تأثير «أنصار الله» على الصعيد الناعم أيضاً.

إستراتيجياً، ما يجري في اليمن اليوم ليس مجرد مقاومة مسلّحة لضربات جوية، بل هو نموذج حيّ لانهيار الحسابات العسكرية الغربية في ساحة جديدة. ورغم تفوّق العتاد الجوي والتقني لحلف «الناتو»، فإن أميركا فشلت في تحقيق أهدافها، وباتت تتجنّب الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة. ويرى عدد من المراقبين في المنطقة أن الدور النشط الذي تلعبه «أنصار الله» في تقويض الخطط الغربية، أسهم في خفض منسوب التهديدات الموجّهة إلى دول أخرى في الإقليم، ولا سيما إيران. وما يجري في صنعاء وصعدة، ينعكس أمنياً في بغداد، بيروت، بل وحتى طهران.

إيران، من دون أن تطلق رصاصة واحدة، تراقب كيف يُعاد رسم قواعد الاشتباك من قبل حلفائها في المنطقة. واليمن، وإن لم يكن عضواً رسمياً في أي تحالف عسكري، إلا أنه بصدد إعادة تعريف الخطوط الحمراء الأمنية في وجه القوى العالمية. وهذا بالضبط ما يخشاه كثيرون في واشنطن وتل أبيب.

حسين باك * صحافي إيراني

قد يعجبك ايضا