ميون وزقر.. من جزر يمنية إلى قواعد أمنية واستخباراتية تخدم أبوظبي وتل أبيب

زقر وميون.. نموذج مكثف لاحتلال ناعم يسرق السيادة قطعة قطعة

تقرير ـ جميل الحاج

في العقد الأخير تحولت بعض الجزر اليمنية في مضيق باب المندب من نقاط ساحلية هادئة إلى منصات نفوذ واستراتيجية، دفعت بخيوط اللعبة الإقليمية إلى أن تترابط عبر قارات ومنصات استخباراتية واقتصادية.

على رأس هذه الجزر تقف ميون (بريم) وزقر؛ جزيرتان غيّرتا معالم التحكم في المضائق البحرية وفتحا بابًا جديدًا أمام تحول مركز الثقل في النظام الإقليمي: من دول إقليمية كبرى إلى قوى وسطى تسعى لبناء نفوذ نوعي خارج أراضيها.

هذا التقرير يقرأ الوثائق الميدانية والتحقيقات الميدانية ويدقق في أبعاد المشروع الإماراتي–الإسرائيلي في هذه الجزر، ويعرض مبرراته، أدواته، عوائده، وتداعياته على السيادة اليمنية والنظام الإقليمي.

لماذا باب المندب مهمّ؟

باب المندب هو مفصل الملاحة بين البحر الأحمر والمحيط الهندي، وحلقة وصل جوهرية في ممرات التجارة والطاقة العالمية التي تغادر أو تتجه إلى قناة السويس. السيطرة على جزر هذا المضيق ليست مجرد امتلاك قطعة أرض صغيرة، بل تعني القدرة على مراقبة وحجب وتوجيه حركة السفن التجارية والعسكرية، وبالتالي التأثير على أسعار الطاقة وسلاسل الإمداد العالمية.

لهذا السبب كانت ميون وزقر هدفين استراتيجيين، لا لحكم محلي أو دفاعي بحت، بل لبناء مقدرة فوق وطنية على التحكم بالممرّ بحلول تقنية وعسكرية واقتصادية.

الاحتلال الإماراتي: من حزمة مساعدات إلى بنية تحتية دائمة

في الخطاب الرسمي، تقدم الإمارات احتلالها لا جزاء من اليمن تحت ذريعة دعم «الشرعية»، وتغليف هذا الاحتلال بمشروعات إنسانية وإعمارية.

لكن التحقيقات والوثائق المسربة وصور الأقمار الصناعية تشير إلى تحول جذري: ما بدأ عمليات عسكرية مؤقتة بدا وكأنه مشروع استراتيجي متعدد المستويات.

مستويات مترابطة بالاحتلال الإماراتي:

ـ المستوى العسكري- الأمني:

بناء مدارج ومطارات، حظائر طائرات، رصيف بحري، مخازن أسلحة، غرف عمليات، مراكز اتصالات، وسجون. في ميون، تشير الوثائق إلى مطار قادر على استقبال طائرات النقل العسكرية والمروحيات، ومنشآت لوجستية متقدمة تدعم بقاء دائم للقوات والوسائل.

ـ المستوى الاستخباراتي-التقني:

أنظمة رصد واعتراض إلكتروني، مراصد بحرية وجوية، محطات اعتراض إشارة، غرف استخبارات متطورة تعمل عبر شبكات اتصالات فضائية.

هذا البعد ازداد حساسية بعد اتفاقيات التطبيع بين الإمارات و(إسرائيل)، إذ كشفت مقتطفات من الوثائق عن عمليات شراء وتركيب معدات دخلت عبر وسطاء، وعن تعاون تقني مع شركات إسرائيلية متخصّصة.

ـ المستوى الاقتصادي-اللوجستي:

تحويل الموانئ إلى محطات ترانزيت وصيانة لسفن تجارية وحربية، تدر عوائد نقدية كبيرة تُحول عبر قنوات لمالية إلى خارج الرقابة المحلية.. جزيرة ميون، بحسب التحقيقات، صارت محطة صيانة عائمة وقاعدة لخدمات بحرية تخدم سفنًا بأعلام متعددة، مع رسوم مرتفعة تحوّل بعضها إلى حسابات في مراكز مالية خليجية.

هذا التعدد في المستويات يضع مشروع الاحتلال الإماراتي في خانة «الوجود طويل الأمد» أكثر منه عملية عسكرية لمرحلة مؤقتة.

الكيان في المشهد: من اتفاقيات التطبيع إلى غرفة عمليات في البحر الأحمر

ما يجعل مشروع الاحتلال الإماراتي أكثر حساسية هو انخراط (إسرائيل) بشكل فعّال.. محاضر اجتماعات وتسريبات أظهرت لقاءات تنسيق بين وفد إماراتي وإسرائيلي (يُذكر أن اجتماعًا وقع في يوليو 2020 قرب قاعدة عصب)، وكانت الخطة تتضمن بناء منظومة مراقبة والسيطرة على طرق التجارة البحرية، وتزويد القواعد بالمؤهلات التقنية، وربما إرسال عناصر إسرائيلية بطرق غير مباشرة.

تواترت تقارير إعلامية، بعضها عبري ــ بالحديث عن إعادة تشغيل غرف عمليات استخباراتية في زقر تعمل بتنسيق مع أجهزة غربية وإسرائيلية، وعن تجهيزات رادارية وأنظمة اعتراض موجهة ضد الطائرات المسيّرة.

هذه المعطيات تضع باب المندب في دائرة مصالح دولية تتجاوز الإقليم، وتحوّل الجزر إلى عقد استخباراتي يخدم تحالفات جديدة.

ميون وزقر نموذجان للهيمنة الناعمة

يمكن وصف منهج الإمارات في هذه الجزر بأنه «هيمنة ناعمة» عسكرية-اقتصادية: لا إعلان احتلال علني، ولا ضم رسمي، بل بناء منظومات مؤسساتية واقتصادية تعمل من خلف حجاب محلي أو بممسوكات «وكيلة» تُعتبر يمنية ظاهريًا.

ـ أدوات هذا الأسلوب تشمل:

ـ توظيف مقاولين وأطراف ثالثة (خبراء عسكريون أجانب، شركات أمنية مسجلة في مناطق حرة) للقيام بالبناء والتشغيل.

ـ خلق «قوات محلية» مدربة ومسلحة تتبع فعليًا للإمارات، ما يتيح سياسة «إعادة انتشار» رسمية تُخفي استمرار النفوذ.

ـ استخدام منظمات إنسانية أو مدنية كغطاء أو واجهة لمشروعات أمنية ولوجستية.

ـ تحويل عوائد الموانئ والخدمات إلى قنوات مالية خارج إطار الرقابة اليمنية.

نتيجة هذه الاستراتيجية أن الانسحاب الإماراتي المعلن يصبح في كثير من الأحيان «إعادة تموضع» وليس إنهاءًا لوجودها.

البعد الحقوقي والإنساني

التحقيقات الدولية والمحلية رصدت ملفات حقوقية مقلقة في مناطق النفوذ الإماراتي: تقارير عن سجون سرية، واعتقالات تعسفية، وتعذيب، إضافةً إلى تقييد حرية التنقل والاقتصاد المحلي.

في ميون تبرز إشارة إلى سجون سرية ومراحل تحقيق واسعة، وفي زقر حكايات عن مراكز احتجاز لا تطالها الرقابة.

هكذا الممارسات تحول السكان المحليين إلى ضحايا للجغرافيا السياسية، فيفقدون مصدر رزقهم البحري ويتعرضون لتهجير أو ابتزاز اقتصادي، بينما تُفرض منظومة أمنية تُقوّض سيادة الدولة.

العوائد والهدف النهائي

الهدف الأمثل من وراء هذا المشروع لا يقتصر على السيطرة على ممر ملاحي فحسب، بل على بناء ملف نفوذ متكامل يخضع لآليات استخباراتية واقتصادية: مراقبة الملاحة، تحصيل موارد لوجستية، جمع معلومات استخبارية بحريّة ــ وربما التأثير على مسارات الشحن وربطها بملفات سياسية أكبر.

العوائد هنا مزدوجة: اقتصادية مباشرة من رسوم الخدمات والترانزيت، واستراتيجية عبر خلق مواقع قادرة على تغيير قواعد اللعبة الإقليمية.

تداعيات إقليمية ودولية

أولًا: هذا النمط من النفوذ يفضي إلى تشظٍ في الثقة بين الحلفاء التقليديين: إذ إن التنسيق السري مع (إسرائيل) بعيدًا عن أطراف أخرى في تحالف العدوان أثار حساسية لدى شركاء إقليميين، خصوصًا السعودية.

ثانيًا: وجود قواعد استخباراتية ومدنية أجنبية على مضائق استراتيجية يثير تساؤلات حول حرية الملاحة وأمن خطوط الإمداد العالمية.

ثالثًا: هيمنة قوى وسطى على مفاصل استراتيجية قد تصبح نموذجًا تُقلّده دول أخرى، ما يعيد رسم الخريطة الجيوسياسية العربية.

الخلاصة والآفاق

الوثائق المسربة والتحقيقات التي أُشير إليها تكشف عن تحويل جزري ميون وزقر إلى قواعد خليط من النفوذ العسكري والاقتصادي والاستخباراتي، وهو مشروع يتناسب مع نهج دولة تتجاوز حجمها الجغرافي عبر استثمار الثروة في بنى نفوذ ممتدة.

هذه العملية لا تنتهي بمجرد انسحاب قوات ظاهري؛ لأن بنيتها متأصلة في اقتصاد محلي مُقوّض وشبكات أمنية ووكلاء محليين.

المعركة المقبلة ليست فقط مع العسكرة، بل مع استعادة سيادة الدولة اليمنية على أراضيها وبحرها، ومع مساءلة قانونية وسياسية دولية تحول الوجود الغامض إلى ملف للضغط.

نجاح أي عملية استعادة للسيادة سيعتمد على قدرة القوى المحلية في اليمن على محاربة المحتل وإخراجه من الأراضي اليمنية بشكل كامل.

في النهاية، ميون وزقر ليستا جزيرتين فحسب؛ بل مرآة لمعركة أوسع حول من يملك مفاتيح الملاحة، ومن يملك قرارها، ومن يربح مالاً ونفوذاً  عبر أغراء الفصائل المسلحة من مرتزقة الداخل. الأسئلة الآن: هل ستبقى الجزر قِطعًا تُتقاسمها قوى خارجية؟ أم أن 2025 وما بعده سيشهدان بداية انقضاض شعبي وعسكري على هذا «الاحتلال الناعم»؟ .

قد يعجبك ايضا