أيهما فرط صوتي؟ صوت الحُسين أم أصوات الصواريخ؟
أدبيات الثورة الإيرانية تُحيل دائماً إلى كربلاء التي تحوّلت من حدث تاريخي إلى بوصلة قيمية وأخلاقية توجّه القرار السياسي والعسكري في إيران.
في الحرب التي يشنّها الكيان الصهيوني على إيران قد تضلّلنا مؤشّرات التفوّق العسكري أو التكنولوجي فنظنّ أنّ الغلبة محسومة لمن يملك طائرات الشبح، أو من تحميه الأساطيل الغربية وأقمارها الاصطناعية.
في قراءة أعمق للواقع، يظهر أنّ القوة الحقيقية، وربما الأكثر صلابة واستمرارية، هي العقيدة. هذا العامل يُشكّل لدى إيران محرّكاً تاريخياً وروحياً عميقاً لا يقارن بما لدى الكيان الصهيوني من دوافع تلمودية أو لاهوتية مزعومة.
إيران، منذ انتصار ثورتها الإسلامية عام 1979، لم تؤسّس سياستها الدفاعية والهجومية على أسس قومية فحسب، بل أيضاً على بنية “عقيدية” تستمدّ جذورها من الإمامية الاثني عشرية، القائمة على مفهوم الوَعي المنتظِر، وعلى مواجهة الظلم وقوى الطغيان.
هذه العقيدة ليست مجرّد نظرية فكرية ولا منظومة شعارات فحسب، بل رابِط عصبي بالمعنى “الخَلدوني” يتحوّل في لحظات الخطر إلى دينامية جماهيرية.
من هنا فإنّ أدبيات الثورة الإيرانية تُحيل دائماً إلى كربلاء التي تحوّلت من حدث تاريخي إلى بوصلة قيمية وأخلاقية توجّه القرار السياسي والعسكري في إيران.
الإمام الحسين في الخطاب الإيراني، هو رمز ديني بالطبع، ولكنه أيضاً قائد سياسي واجه الاستكبار وقدّم نموذجاً للمقاومة حتى الشهادة. من هذا النموذج وُلد شعار “كلّ يوم عاشوراء، وكلّ أرض كربلاء”، الذي تتبنّاه طهران في دعمها لحركات المقاومة وهو شعار يجب ألّا يُقرأ على أنه دعوة إلى البكاء، إنما دعوة إلى مواجهة الظلم في كلّ مكان وزمان.
لا ينفصل هذا البعد العقائدي عن الممارسة الواقعية. فحرس الثورة الإيراني، على سبيل المثال، ليسَ مُجرّد مؤسسة عسكرية تعمل على تحقيق أهداف سياسية، بل هو جيش عقائديّ يؤمن بأنّ تحرير القدس هو المشيئة الإلهية التي لمَّح القرآن الكريم إليها في إسراء الرسول ومعراجه.
في المقابل، تؤكّد الشواهد بأنّ “إسرائيل” هي “دولة” قامت على مشروع استعماري بحتّ تدثّر لاحقاً بالدين. الصهيونية كفكرة كانت أساساً حركة أوروبية نشأت في ظلّ نزعات قومية واستعمارية، واستغلّت الدين اليهودي كأداة تعبئة. لكنّ اليهودية في صورتها الأرثوذكسية التقليدية كانت ولا تزال في العديد من تياراتها ترفض إقامة الدولة قبل ظهور “المسيّا”. وقد عبّر حاخامات من حركة “ناطوري كارتا” مراراً عن هذا الرفض، معتبرين أنّ الكيان الصهيوني يفتقد للشرعية الدينية.
وفي حين تحوّلت مفاهيم الشهادة في إيران إلى ثقافة جَمعية تتجدّد في كلّ عاشوراء، وتترجَم في وصايا الشهداء على الجبهات، فإنّ الخطاب الإسرائيلي يفتقر إلى مثل هذه الروح التعبوية، ومن يراقب التباين بين جنازات الشهداء في إيران، التي تتحوّل إلى مواكب إيمانية تتخلّلها الآيات والأدعية، وبين الجنازات في “إسرائيل”، التي غالباً ما تشهد توترات واحتجاجات ورفضاً لمشاركة ممثّلين عن حكومة العدو فيها، يدرك الفارق العميق في الوجدان الجَمعي بين إيران و”إسرائيل”.
العقيدة الشيعية الإيرانية ترى في الإمام المهدي المنتظر رمزاً للتحرّر من الظلم الكوني، وتربط ظهور الإمام المنتظر بتمهيد الأرض لعدالته. هذه الرؤيا دفعت المشروع الإيراني إلى تجاوز طبيعي لا مُبرمج لحدوده الوطنية، وعمِلَت على دعم ما سُمِّيَ لاحقاً بـ “محور المقاومة” وهو في طبيعته العميقة نسيج عَقيدي متين.
من هنا فإنّ دعم المقاومة الفلسطينية، أو الصبر على العقوبات، أو تقديم القادة للشهادة ليست قرارات سياسية محضة، بل تتغذّى من منبع غيبي يرى في كلّ خطوة قرباً من اليوم الموعود.
أما في الحالة الإسرائيلية، فإنّ الغلبة تبقى لموازين الربح والخسارة، لحسابات التكنولوجيا وللاعتماد على دعم الولايات المتحدة لا على القيم والعقائد، وهذا ما يجعل التفوّق الظرفي الإسرائيلي إذا حصل هشّاً أمام صبر العقيدة.
الانتصار لا يتحقّق بالكثرة، بل بالنيّة والإيمان ولا تحقّقه الآلة العسكرية بل الإنسان، ولا تحقّقه القوة بل يتأسّس على الحقوق ولا يُعلَن في مرحلة من مراحل المواجهة بل في النهايات والمآلات، والشواهد في تاريخ الجهاد في الإسلام والكنيسة المُقاوِمة في المسيحية تؤكّد طبيعة هذا الانتصار ـــــ المآل.
مفهوم الجهاد في الإسلام يرتبط بمقاومة الظلم والاحتلال، كما هو الحال مثلاً في مقاومة الغزوات الصليبية أو الاستعمار الأوروبي الحديث. وبالمثل، برزت “الكنيسة المقاومة” في مواقف تاريخية حاسمة، مثل موقف القسّ ديتريش بونهوفر في ألمانيا النازية، الذي قاوم هتلر وشارك في محاولة لإسقاطه، فاستُشهد عام 1945. وفي أميركا اللاتينية، دعمت الكنيسة الكاثوليكية “لاهوت التحرير” في مقاومة الأنظمة الديكتاتورية، كما في نضال المطران أوسكار روميرو في السلفادور.
وفي فلسطين، أدّت الكنيسة عبر أساقفتها أمثال المطران إيلاريون كبوجي مثالاً لا حصراً دوراً في دعم المقاومة الشعبية. هكذا يلتقي الجهاد والكنيسة المقاوِمة في تحالف الإيمان مع العدالة والحرية.
ارتفاع حدّة المواجهة بين إيران و”إسرائيل” يُفقِد البعض هذه النظرة الشمولية للصراعات الكبرى ويوحي أنّ الجحيم مقبل، وهو يرسم هزيمة لطرف وانتصار لطرف آخر، والحقيقة أنّ الصراع لم يعد محصوراً في حدود الجغرافيا الفلسطينية أو الشرق أوسطية أو الغرب آسيوية، بل بات يرتبط بشكل عضوي بالصراعات الدولية الكبرى، وهذا يجعل من أيّ إعلان انتصار آني خطأً في استراتيجية التفكير. يتسرّع كثيراً من يبني الدائم على المؤقت ويستنتج الخاتمة من مؤشّرات ظرفية.
في هذا السياق، يكتسب تصريح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أهمية خاصة، حين حذّر من مغبّة الاستمرار في التصعيد، داعياً طهران للعودة إلى طاولة المفاوضات، ملمّحاً إلى أنّ استقرار النظام فيها قد يتعرّض للخطر إن استمرت المواجهة بلا سقف.
هذا التحذير لا ينبغي قراءته كإعلان تخلٍّ عن الحليف الإيراني، بل كجزء من مناورة استراتيجية دقيقة. فموسكو التي تواجه الغرب في أوكرانيا، لا تحتمل في هذه المرحلة حرباً كبرى تُشعل الشرق الأوسط وتستنزف موارده أو تسرّع الصدام مع الولايات المتحدة. لكنها، في الوقت نفسه، لا تفرّط في إيران كحليف استراتيجي عزّز من مكانتها الإقليمية، وقدّم لها دعماً عسكرياً مهماً في صراعاتها الأخيرة.
بوتين، إذاً، يخاطب إيران بهدف احتواء التصعيد من دون خيانة الحليف ويدرك جيداً أنّ إيران لا تُقاد بالعصا، بل تُفاوَض على قاعدة الشراكة والسيادة. كما أنّ موسكو تعلم أنّ المشروع الإيراني ليس مجرّد ردّ فعل سياسي، بل تحرّكه عقيدة متجذّرة في التاريخ الديني، ترى في المواجهة مع “إسرائيل” والولايات المتحدة جزءاً من ملاحم آخر الزمان، وتمهيداً للعدالة الإلهية في الأرض، وهذا بعدٌ لا يمكن لموسكو تجاهله أو تغييره، لكنها تحاول، كما تفعل عادة، أن تضبط توقيت اشتعال الجبهات.
ومع تزايد المؤشّرات على احتمال توسّع الحرب، تظهر باكستان كطرف ثالث قد يدفعها، وهي التي تمتلك السلاح النووي، إلى مواقف أكثر وضوحاً، خصوصاً إذا رأت في انحياز الغرب لـ “إسرائيل” تهديداً استراتيجياً للمسلمين.
ومع دخول روسيا، والصين الرافضتَين للأحادية القطبية الراهنة، ومع اصطفاف قوى المقاومة في اليمن ولبنان والعراق وفلسطين وكوريا الشمالية وأنظمة وازنة في أميركا اللاتينية، فإنّ الصراع قد يتحوّل من نزاع إقليمي إلى حرب عالمية بصيغة جديدة، قد يكون الشرق الأوسط مسرحها التأسيسي.
في هذا المشهد المعقّد، تبقى العقيدة هي العنصر الأكثر تماسكاً في خريطة التحالفات، حيث تستمدّ إيران قوتها من إيمانها بقدسيّة الطريق، ولو كثرت التضحيات. أما من يراهن على التكنولوجيا وحدها، فقد يكسب معركة، لكنه قد يخسر الحرب أمام عقيدة صابرة ومنتظرة ليس في حساباتها الاستسلام.
في المحصّلة، قد نشهد تحوّل الحرب التي باتت تستند أكثر فأكثر إلى العلم بكلّ أبعاده إلى حرب يورّط فيها العلمُ العالم. حرب عِلم تتحوّل إلى حرب عالمية حيث يغتال العلمُ العالَم وحيث يغتال العالم ما يمكن أن يختزنه العلم من قيم الحقّ والخير والجمال.
أما الصراع مع “إسرائيل” فتاريخي وليس ظرفياً. الفرط صوتي الأقوى فيه هو الحُسين لا زنة رؤوس الصواريخ من المواد المتفجّرة!
-
روني ألفا كاتب وإعلامي لبناني.