إيران تنتصر، و”إسرائيل” تتراجع.. ما الذي فرض وقف إطلاق النار

في لحظة توتر بلغت ذروتها، بقصف إيراني استهدف قاعدة أمريكية في قطر، وبعد أيام من القصف المتبادل والإنذارات المفتوحة، وقف إطلاق نار يعلنه ترامب بين إيران والكيان الإسرائيلي، ليطوي صفحة من صفحات المواجهة هي الأقسى ، دون أن يطوي جذورها. لم يكن الإعلان نتيجة اتفاق، بل أشبه بفرملة اضطرارية فرضها الواقع العسكري والسياسي والداخلي على الكيان ومن خلفه واشنطن. ومع تراجع الدخان، يتكشّف المشهد: إيران خرجت من المواجهة أكثر حضورًا، و”إسرائيل” أكثر قلقًا، والولايات المتحدة تبحث عن مخرج بأقل الخسائر.

وقف إطلاق النار: اتفاق أم فرض وقف الحرب؟

إعلان وقف إطلاق النار جاء عبر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي أكّد أن الهدف من العمليات قد تحقّق، دون توضيح لطبيعة هذا “التحقق”. هذا التزامن بين التصعيد ثم الهدوء قد لا يكون نهاية التصعيد بقدر ما هو إعادة تموضع تكتيكية.

يؤخذ على الإعلان أنه لم يترافق مع جدول زمني، ولا آليات مراقبة، ولا طرف ضامن، بل صدر بشكل منفرد ومن منصة تواصل اجتماعي، ما أوحى بأنه يهدف إلى تسجيل نقطة إعلامية أو سياسية، وليس إعلانًا عن نهاية عملية حقيقية للتصعيد. وهذا النوع من الخطابات، الذي يتعامل مع الحرب وكأنها “صفقة تجارية”، يعطي انطباعًا بالتهريج، لا بالحزم.

ولهذا فقد كان الوصف الدقيق لوقف إطلاق النار، الذي حاول ترامب وصفه بالاتفاق، هو أنه فرض لوقف الحرب، وهو ما جاء في بيان المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، وهو يشير الى أن القرار جاء من طرف واحد نتيجة لضغط خارجي (سياسي، عسكري، اقتصادي) أجبر الكيان على التوقف دون الوصول إلى اتفاق رسمي، وهو يعني أنه لم يكن هناك تنسيق أو تفاهم حقيقي بين الأطراف، ولا يتضمّن أي ضمانات أو آليات مراقبة، لكنه بالمقابل يبقى هشًا وسهل الانهيار.

ومن دلالات فرض وقف الحرب أن الطرف الذي أعلن قد أُجبر على التراجع نتيجة عجز ميداني، ضغط داخلي، لا اعتراف متبادل، ولا نهاية للصراع، بل تهدئة قسرية تحت الضغط أو الخوف من الانهيار، وهي الحالة التي وصل إليها الكيان مع تسارع التداعيات على الجبهة الداخلية والاقتصادية.

ولذلك فقد جاء اعلان ترامب بتنسيق مع الكيان المجرم ونتنياهو، لإخراجه من المأزق ، بعد تبين الفشل العميق في تحقيق أي من الأهداف المعلنة، وإن كان قد حقق بعض الانجازات والاغتيالات للقيادات العسكرية والعلماء النوويين.

في الكيان الإسرائيلي، بدا أن الرأي العام منقسم بين من رأى في الضربات “فشلاً في تحقيق الردع”، وبين من اعتبر أن الرد الإيراني أظهر هشاشة الدفاعات الجوية في “تل أبيب”. وفي الولايات المتحدة، رأت بعض الدوائر السياسية أن ترامب يخوض مواجهة غير محسوبة العواقب في عام انتخابي حساس.

تحولات استراتيجية أم مجرد تصعيد محدود؟

ما حدث خلال الأيام الـ12 الماضية لا يمكن اختزاله في مجرد تبادل قصف بين خصمين إقليميين. بل ما شهدناه هو لحظة اختبار نادرة لمعادلات الردع في “الشرق الأوسط”. وجسّ نبضٍ لقدرات كل طرف ليس فقط في الميدان العسكري، بل أيضاً في قدرة الصمود الاستراتيجي، والتواصل السياسي، وإدارة الحرب تحت ضغط إعلامي وشعبي واقتصادي.

أبرز ما تكشف عنه هذا التصعيد هو أن إيران باتت تملك إرادة وقدرة واضحة لنقل المعركة إلى عمق العدو، بل ولتوسيع رقعة الاشتباك الجغرافي. فقصف “تل أبيب”، مركز الكيان العبري السياسي والسكاني، لم يكن مجرد رد رمزي بل ضربة محسوبة تستهدف الوعي الإسرائيلي وتعيد تعريف تكلفة استهداف إيران.

الأكثر أهمية هو استهداف قاعدة العديد الأمريكية في قطر، وهي خطوة غير مسبوقة. فهذا يعني أن طهران لم تعد ترى في الصراع مع واشنطن أو “إسرائيل” نزاعاً “محصوراً” يمكن احتواؤه، بل صراعاً شاملاً يشمل كل من يشارك فيه فعلياً أو لوجستياً. وهذه رسالة استراتيجية لكل القواعد الأمريكية في المنطقة، من الخليج حتى العراق.

رغم محاولات التشويش، فإن الرسالة الإيرانية واضحة: البرنامج النووي هو خط أحمر. وإذا كانت الضربات الجوية الإسرائيلية والأمريكية فشلت فعلاً في تدمير المنشآت النووية الإيرانية، حسب  تأكيدات طهران، فإن هذه النتيجة تعني شيئاً أعمق من مجرد فشل تكتيكي: إيران نجحت في تحويل بنيتها النووية إلى ما يشبه “نقطة ارتكاز ردعية، تماماً كما فعلت باكستان في السابق.

التحصين الهندسي، عمق المنشآت، توزيعها، وربما حتى وسائل الدفاع السيبراني حولها، كلها جعلت من ضربها أمراً صعباً ومكلفاً وغير حاسم. وهذا يُعيد تشكيل توازن القوى، لأن امتلاك قدرة نووية “غير قابلة للتدمير السريع” هو ما يجعل من امتلاك الردع أكثر فاعلية، حتى في ظل غياب سلاح نووي فعلي حتى الآن.

عجز دفاعي وتآكل في الردع الإسرائيلي

“إسرائيل”، رغم تفوقها التكنولوجي والاستخباراتي، بدت عاجزة عن منع الضربة الإيرانية المباشرة. منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية والأمريكية – اعترضت عدداً من الصواريخ – لكن كثافة النيران وتشتيت مساراتها جعلت أغلب الصواريخ تصل إلى أهداف حساسة داخل الكيان. وهذا خرق كبير للصورة النمطية عن الحصانة الأمنية الإسرائيلية.

“جيش” العدو الإسرائيلي وجد نفسه أمام تهديد غير مسبوق: موجات مكثّفة من الصواريخ الدقيقة والثقيلة من عدة محاور، واستخدام طائرات مسيّرة ذات بصمة رادارية منخفضة. الدفاعات الجوية، واجهت ضغطاً هائلاً أدى إلى استنزاف سريع في صواريخ الاعتراض باهظة الثمن. مصادر داخلية تحدّثت عن «نقص حاد» في المخزون، ما دفع “المؤسسة العسكرية” الإسرائيلية للطلب العاجل من واشنطن تزويدها بالذخائر الاعتراضية عبر جسر جوي، وهو مؤشر على عمق المأزق.

إلى جانب ذلك، بدأ يظهر تململ داخل “جيش” العدو حول جدوى استمرار العمليات دون أهداف استراتيجية واضحة، خاصة مع تصاعد الخسائر المعنوية الناتجة عن اختراق الصواريخ الإيرانية لعمق “تل أبيب”.

 الاقتصاد الإسرائيلي في حالة شلل جزئي

حالة الطوارئ التي فرضت على معظم المدن الكبرى، بما فيها “تل أبيب” وحيفا وبئر السبع، شلّت قطاعات واسعة من الاقتصاد الإسرائيلي: البورصة تراجعت، الأسواق أُغلقت، والمطارات علّقت الحركة وأغلقت الأجواء بشكل كامل وشامل. القطاع التكنولوجي الحيوي تأثر بشدة بسبب توقف سلاسل الإنتاج والاضطرابات في حركة المستثمرين، كما بدأت التقديرات تتحدث عن خسائر بمليارات “الشواقل” خلال أيام معدودة، مع احتمالات تدهور في التصنيف الإئتماني إذا استمر التصعيد. “حكومة” نتنياهو، التي تواجه أصلاً أزمة معيشية متفاقمة، لم تكن مستعدة لتحمّل عبء اقتصادي لحرب طويلة مع خصم مثل إيران قادرة على تحمل حرب لأشهر وصولا إلى سنتين حسب تصريحات إيرانية رسمية.

موجة الخوف والرغبة بالرحيل الجماعي

في مشهد نادر، شهدت الأيام الأخيرة من الحرب تصاعداً في الطلبات على استخراج جوازات سفر أوروبية أو أمريكية من قبل الإسرائيليين مزدوجي الجنسية. تقارير صحفية عبرية وثّقت رغبة عشرات الآلاف من العائلات في مغادرة الكيان، مع تزايد الشعور بأن “إسرائيل” لم تعد «الملاذ الآمن» كما كانت توصف، الأمر الذي دفع نتنياهو إلى منع شركات الطيران من منح أي حجوزات تذاكر للمسافرين، وعندما بدأ بتسيير رحلات للعالقين في الخارج، اشترط فقط خمسين شخصا للسفر والمغادرة، بعناوين وذرائع واهية.

وسائل الإعلام امتلأت بشهادات عن حالة من الذعر، خاصة في “المناطق الوسطى” التي طالها القصف الإيراني، في حين لم تنجح “حكومة” العدو في طمأنة الجمهور أو احتواء المخاوف.

الاحتمالات القادمة: نحو تصعيد أم تسوية؟

الهدنة المعلنة قد تُشكّل فاصلاً مؤقتاً في صراع لم يُحسم بعد، إذ يرى كل طرف أن المعركة تتجاوز كونها مجرد مواجهة عسكرية محدودة، بل هي معركة وجود وهوية. بالنسبة للكيان الإسرائيلي، ما جرى ليس مجرد تصعيد إقليمي، بل تهديد وجودي مباشر من خصم يجعل العدو الاول هو “إسرائيل”، ويرى في ازالتها سلاما للمنطقة والإقليم والأمة الإسلامية من أخطار مخططاته الخبيثة،  بغض النظر عن امتلاك قدرات نووية، فقد ثبت أنه قادر على ضرب العمق الإسرائيلي. “المؤسسة الأمنية” و”السياسية” في يافا المحتلة “تل أبيب”، تنظر إلى إيران كخطر لا يمكن التعايش معه، بل يجب تحييده بأي ثمن، وقد دفعت ثمنا باهضا، لكن الخطر لا يزال موجودا.

في المقابل، ترى إيران أن المواجهة مع “إسرائيل” وأمريكا هي جزء من مشروع أوسع لتحرير المنطقة من الهيمنة الأمريكية والصهيونية. من هذا المنظور، الحرب ليست ردًّا على هجوم، بل خطوة ضمن مسار استراتيجي طويل لإخراج واشنطن وإنهاء “إسرائيل” من الإقليم.

موقع أنصار الله . تقرير | علي الدرواني

قد يعجبك ايضا