التطبيع مع الكيان الإسرائيلي تحت غطاء الدبلوماسية

صادق البهكلي

المقدمة

تشكل ظاهرة النفاق في العالم العربي المعاصر واحدة من أخطر التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية والعربية في هذا العصر. إن حركة النفاق هذه تتجلى بوضوح في مواقف بعض الأنظمة العربية والنخب الحاكمة التي تتخذ من الخطاب الديني والقومي ستاراً، بينما تمارس في الواقع خيانة صريحة لشعوبها ولقضايا الأمة المصيرية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

يهدف هذا التقرير إلى تسليط الضوء على ظاهرة النفاق في العالم العربي المعاصر من خلال:  الجهود المنهجية لتطبيع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي تحت غطاء الدبلوماسية.

يعتمد هذا التقرير على مجموعة من المصادر الموثوقة، بما في ذلك خطابات السيد عبد الملك الحوثي التي تقدم رؤية تحليلية عميقة لهذه الظاهرة، بالإضافة إلى دراسات أكاديمية وتقارير إعلامية متخصصة. إن فهم هذه الظاهرة بشكل دقيق وشامل يشكل خطوة أساسية نحو بناء وعي جماعي قادر على مواجهتها والتصدي لها، وهو ما يسعى إليه هذا العمل عبر سلسلة من التقارير التي تتناول مختلف أبعاد هذه الحركة الخطيرة.

التطبيع المفضوح: عندما يصبح العار دبلوماسيا

يمثل التطبيع مع الكيان الصهيوني واحداً من أخطر مظاهر النفاق في العالم العربي المعاصر، إذ يجري تقديمه تحت غطاء دبلوماسي زائف، وبمبررات واهية تتحدث عن ”السلام“ و”الاستقرار الإقليمي“ و”المصالح الاقتصادية“ ، بينما الحقيقة أنه خيانة صريحة للقضية الفلسطينية وللأمة الإسلامية بأسرها، إن التطبيع ليس مجرد اعتراف دبلوماسي أو تبادل تجاري عادي، بل هو تحالف استراتيجي مع عدو محتل، وشراكة في جرائمه المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، وإضفاء للشرعية على الاحتلال والاستيطان والعدوان.

في هذا السياق، يصف السيد عبد الملك الحوثي في خطابه بمناسبة ذكرى جمعة رجب (الجمعة 2-7-1443هـ / 3-فبراير-2022م) طبيعة التطبيع بوضوح تام:

“من أبرز العناوين في هذه المرحلة، التي تتحرك بها حركة النفاق في ساحتنا الإسلامية بشكلٍ عام، هو: عنوان التطبيع مع إسرائيل، والتحالف مع أميركا وإسرائيل، ماذا يعني ذلك؟ سعيٌ لمنع المعروف الذي أمرنا الله به، وهو أن يكون المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، وإحلال الولاء لأعداء الأمة، لأعداء الإسلام والمسلمين، الأمريكي والإسرائيلي هم أعداء واضحو العداوة والبغضاء للإسلام والمسلمين، فيتجهون بكل جهد في حركة النفاق داخل هذه الأمة نحو الولاء لهم، والعداء للمؤمنين، وتحريم الولاء ما بين المؤمنين، والأخوة فيما بين المؤمنين، تصبح تهمة، وتصبح عندهم مَسَبَّة، وتصبح عندهم عنواناً رئيسياً يبنون عليه كل المواقف العدائية والتحريضية”.

هذا يكشف البعد الحقيقي للتطبيع: إنه ليس مجرد علاقات دبلوماسية، بل هو تحول جذري في الولاءات والمواقف، حيث يصبح العدو صديقاً وحليفاً، بينما تتحول الأخوة الإسلامية والعربية إلى تهمة ومسبّة، إن هذا التحول يمثل انقلاباً كاملاً للموازين الأخلاقية والدينية والسياسية، ويعكس عمق الانحراف الذي وصلت إليه بعض الأنظمة العربية.

بدأت العلاقات السرية والتعاون الأمني بين بعض الدول العربية وإسرائيل في وقت مبكر، فالمغرب مثلاً أقام علاقات سرية مع الموساد في الستينيات من القرن الماضي. وتوالت بعد ذلك خطوات التطبيع: توقيع مصر معاهدة سلام مع إسرائيل عام 1979، تلاها الأردن عام 1994، مما أدى إلى إقامة علاقات دبلوماسية كاملة. كما اعترفت قطر بحكم الأمر الواقع بالكيان الإسرائيلي عام 1996 عبر العلاقات التجارية. لكن القفزة النوعية الكبرى في التطبيع جاءت مع ما يُسمى ”اتفاقيات إبراهيم“عام 2020 م.

وعن هذه الاتفاقيات، يقول السيد الحوثي في خطابه بمناسبة يوم الولاية (الأحد 18-12-1443هـ / 17-يوليو-2022م):

“عنوان التطبيع امتداد لحركة النفاق ضد الإسلام والأمة. نحن نرى ونشاهد كيف بذلوا جهدهم لأن يقدِّموا ما يعنونونه بالتطبيع مع إسرائيل، وهو عملية ربط هذه الأمة بالصهاينة اليهود، أن يقدِّموه تحت عناوين دينية، بدءاً من الاتفاق (اتفاق العار والخيانة)، الذي أعطوه هم اسم اتفاق [إبراهام]، يعني: إبراهيم، نسبوا، أو قدَّموا لهذا الاتفاق، الذي هو اتفاق عارٍ وخيانةٍ للإسلام، وخيانةٍ للأمة، قدَّموا له هذا العنوان الديني، وكيف ينشطون ما بعد ذلك، من خلال لقاءات، اجتماعات، حفلات، مناسبات تحت عناوين دينية، وباسم الدين؛ لكي يخضعوا هذه الأمة- باسم الدين نفسه- لتوالي اليهود والنصارى، الذين حرَّم الله ولاءهم الذين قال عنهم: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة:51]؛ لكي يجعلوا هذه الأمة تتقبل بأن يقودها أولئك، أن يصبحوا هم في موقع القيادة، موقع القرار، موقع التوجيه، وأن يكونوا هم من يتحكمون في هذه الأمة في كل مجالاتها، في كل أمورها، حتى في ثقافتها، حتى في تقديم دينها، فيولفوا من هذا الدين ما يتناسب معهم ما لا يعارض هيمنتهم، ما لا يثمر في واقع هذه الأمة لا استقلالاً، ولا كرامةً، ولا عزة، بل أن يقدِّموا مفاهيم مزيفة، تدجن هذه الأمة وتخضعها لأعدائها”.

إن هذا التحليل العميق يكشف عن البعد الاستراتيجي للتطبيع: ليس المقصود مجرد علاقات سياسية أو اقتصادية، بل إعادة هيكلة كاملة للمنطقة بحيث يصبح الكيان الصهيوني هو القوة المهيمنة، والمرجع الأساسي في السياسة والاقتصاد، بل وحتى في الثقافة والدين، إن استخدام اسم النبي إبراهيم عليه السلام لهذه الاتفاقيات يمثل محاولة ماكرة لإضفاء شرعية دينية على ما هو في حقيقته خيانة للدين والأمة.

وقد شهد عام 2020 توقيع ما يسمى ”اتفاقيات إبراهيم“ برعاية أمريكية مباشرة، والتي طبعت العلاقات بين إسرائيل والإمارات والبحرين والمغرب والسودان، لكن هذه الاتفاقيات لم تكن تهدف إلى تحقيق السلام كما يُزعم، بل كانت ”صيغة دبلوماسية جديدة“ تحصل الدول بموجبها على “امتيازات ووصول أكبر إلى الأسلحة والتقنيات الأمنية” مقابل الاعتراف بإسرائيل والتحالف معها.

فقد ارتبطت هذه الاتفاقيات بصفقات أسلحة ضخمة: وقعت الإمارات صفقة أسلحة بقيمة 23.37 مليار دولار مع الولايات المتحدة، شملت طائرات F-35 وطائرات ريبر بدون طيار، كما تم بيع منتجات دفاعية إسرائيلية بقيمة 4 مليارات دولار لدول وقعت على هذه الاتفاقيات.

وقد دعمت المملكة العربية السعودية هذا التحول في السياسة، وسمحت للطائرات الإسرائيلية بالتحليق عبر مجالها الجوي، كما ساهمت السعودية مع الأردن ومصر لاعتراض الطائرة المسيرة والصواريخ اليمنية المتجهة نحو أهداف صهيونية في الأراضي المحتلة تحت عنوان “حماية السيادة” وحدث بالمثل مع الرد الإيراني على العدوان الإسرائيلي كما كانت هناك محادثات مكثفة حول تطبيع سعودي-إسرائيلي، مع تصريحات من ولي العهد السعودي تشير إلى أن التطبيع “قيد البحث”، بل إن بعض التقارير تشير إلى أن السعودية كانت على وشك توقيع اتفاق تطبيع شامل مع إسرائيل قبل عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023.

ويصف السيد عبد الملك في خطابه (الخميس 5-جماد الأول-1446ه / 7-11-2024م) رؤية ما يسمى رئيس الوزراء الإسرائيلي المجرم نتنياهو لدور الأنظمة العربية المطبعة:

“المجرم [نتن ياهو] أعلن صراحةً عن معركته، التي يسعى من خلالها لتغيير وجه الشرق الأوسط، وذلك الإعلان يوضح حقيقة تلك الأطماع. تقارير غربية فَسَّرت أماني المجرم [نتنياهو]، بعد اغتيال سماحة السيد الشهيد/ حسن نصر الله (رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْه) ، بتغيير الواقع الاستراتيجي في الشرق الأوسط، بالتركيز على عدة نقاط، ملخصها:

  • تغيير موازين القوى في المنطقة لصالح العدو الإسرائيلي.
  • القضاء على حركات المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة.
  • القضاء أيضاً على مشروع الدولة الفلسطينية.
  • السيطرة على عدة أنظمةٍ عربيةٍ، وتجنيدها وتجنيد جيوشها لخدمة العدو الصهيوني، والقتال في سبيله، ومواجهة من يعادونه، وكل ذلك تحت عنوان [المواجهة لإيران].
  • ضمان بقاء العدو الإسرائيلي القوة العسكرية المهيمنة في الشرق الأوسط.
  • إعادة تشكيل الحدود، والهيمنة الإقليمية، (إجراء تغييرات، وضم بلدان، وتقسيم بلدان… وغير ذلك).
  • استغلال الانقسامات الداخلية في العالم العربي، وذلك من أجل المزيد من بعثرة هذه الشعوب وتفكيكها، وإيصالها إلى أدنى مستوى من الضعف والعجز، والانهيار التام. وإعادة تعريف قواعد الاشتباك، مما يسمح للعدو الإسرائيلي بتوجيه ضربات مؤلمة وقاتلة ومدمرة في أي بلدٍ عربيٍ أو إسلامي، دون الحاجة إلى حرب، ودون ردة فعلٍ أو اتخاذ موقف.
  • إعادة هيكلة التحالفات الدولية.
  • تعزيز علاقات “إسرائيل” مع القوى العالمية الكبرى، فضلاً عن توسيع العلاقات الاقتصادية والسياسية مع القوى الناشئة، مثل: الصين، والهند. وهذا التحالف مع القوى العالمية الكبرى، يمنح العدو الإسرائيلي نفوذاً استراتيجياً عالمياً”.

هذه النقاط المهمة تكشف عن الأهداف الحقيقية للتطبيع من وجهة نظر العدو نفسه: ليس المقصود مجرد ”سلام“ أو”تعايش“، بل إعادة هيكلة كاملة للمنطقة بحيث تصبح إسرائيل القوة المهيمنة، وتتحول الجيوش العربية إلى قوات تعمل تحت إمرتها في مواجهة أي تهديد لها، خاصة من محور المقاومة، إن هذا المشروع يهدف إلى تحويل الأنظمة العربية المطبعة إلى أدوات فعلية للمشروع الصهيوني، تدافع عنه وتحميه وتمكّنه من تحقيق أطماعه التوسعية.

على الرغم من هذه التحركات الرسمية للتطبيع، تظهر استطلاعات الرأي أن الشعوب العربية تعارض بشكل كبير وساحق التطبيع مع إسرائيل. فهناك فجوة هائلة بين مواقف الأنظمة الحاكمة ومشاعر وقناعات شعوبها. يشعر الفلسطينيون، على وجه الخصوص، بالغضب الشديد مما يسمونه “خيانة” أو “غدر” من قبل الأنظمة العربية. وقد قامت بعض الحكومات، مثل الإمارات والبحرين، بقمع أي معارضة لسياسات التطبيع داخلياً بالقوة، حيث أرسلت حكومة الإمارات رسائل واتساب تحذر من معارضة سياسة التطبيع، فيما سنّت البحرين قانوناً يمنع موظفي الحكومة من معارضة سياسة التطبيع.

ويضيف السيد عبد الملك الحوثي في خطابه بمناسبة يوم الولاية (السبت 18-12-1446هـ / 14-يونيو-2025م) بُعداً مهماً آخر:

“عندما تلحظ مثلاً حرصهم على هذا الجانب، كيف أنهم حرصوا حتى في موسم الحج الأخير على أن يأتوا بشخص هو من رموز التطبيع مع إسرائيل، ممن لهم علاقةٌ مكشوفةٌ علنيةٌ بالصهاينة اليهود، وله ارتباطٌ وولاءٌ ظاهر للصهاينة اليهود، يأتون به إلى الحج، إلى الحج بكل ما يمثله الحج، فريضة دينية، ركن من أركان الإسلام، ويجعلونه هو الذي يتولى الخطبة للحجيج في عرفات، في مقام من أهم المقامات الدينية، يأتون إليه برمز من رموز الخيانة والعار، والانحراف، والتولي لليهود والنصارى، ليتولى هو الخطبة، مع أنَّ الموقع المناسب لذلك الخطيب: كان أن يذهبوا به إلى إحدى الجمار، إما إلى جمرة العقبة… أو إلى غيرها، وأن يربطوه هناك للحجيج؛ ليرموه بالحصى، كان ذلك هو المكان المناسب اللائق به، ولكنهم يجعلونه هو الذي يخاطب المسلمين، ويوجه خطاباً يفترض أن يوجه للحجيج وإلى العالم الإسلامي قاط “.

هذا المثال الصارخ يكشف عن مدى الوقاحة والجرأة التي وصلت إليها الأنظمة المطبعة، حيث لم تعد تكتفي بالتطبيع السياسي والاقتصادي، بل تسعى إلى فرضه دينياً وثقافياً، من خلال استغلال أقدس الشعائر الإسلامية (الحج) لتمرير هذه الخيانة وإضفاء الشرعية الدينية عليها. إن هذا يمثل عدواناً صارخاً على مشاعر المسلمين وقناعاتهم، ومحاولة لتدجين الأمة دينياً وإخضاعها لقبول الهيمنة الصهيونية.

أخيراً فإن التطبيع مع الكيان الصهيوني، الذي يُقدّم تحت غطاء دبلوماسي واهٍ، يمثل واحداً من أخطر مظاهر النفاق والخيانة في العالم العربي المعاصر. إنه ليس مجرد علاقات دبلوماسية عادية، بل هو تحالف استراتيجي مع عدو محتل، وشراكة في جرائمه، ومحاولة لإعادة هيكلة المنطقة بأكملها لصالح المشروع الصهيوني. وعلى الرغم من الرفض الشعبي الواسع لهذا التطبيع، تستمر الأنظمة المنافقة في المضي قدماً فيه، مستخدمة القمع والترهيب لإسكات أي معارضة، مما يعمق الهوة بينها وبين شعوبها، ويمهد لانفجارات شعبية قادمة.

قد يعجبك ايضا