البيضاء: الضربة القاضية

 

في المؤشرات السياسية، جاء التصعيد بعد أن أعلنت واشنطن الشهر الماضي سأمها من استمرار عمليات الجيش واللجان الشعبية في مأرب.

لم تتوقف عملية “النصر المبين” التي أطلقتها القوات المسلحة اليمنية عند حدود مديريتي الزاهر والصومعة على الحدود الإدارية مع محافظتي أبين ولحج الجنوبيتين، بل واصلت طلائع القوات المسلحة تقدمها، وحصدت المزيد من المكاسب الميدانية.

 وفي جديد المعلومات، تفيد مصادر قبلية بأن الجيش واللجان الشعبية، بمساندة قبائل البيضاء، تمكنوا الأربعاء من تحرير مديرية ناطع واستعادتها، وإحراز تقدم كبير في مديرية نَعمان الواقعة على تخوم محافظتي مأرب وشبوة النفطيتين، غير أن المصادر الرسمية لم تعلن ذلك.

بهذا الإنجاز الميداني المهم، تكون طلائع قوات صنعاء قد وسعت دائرة عملية “النصر المبين” ميدانياً إلى 4 أضعاف، وبمساحة تعادل نصف مساحة دولة البحرين خلال أسبوعين (100 كم – 400 كم). وبقدر ما يحمل هذا الإنجاز من أهمية على مستوى محافظة البيضاء، فإنّ له أهمية كبرى متصلة بالمعارك الدائرة في محافظة مأرب، على مستوى خطوط الإمداد وغيرها، كما أنه يمثل ضربة قاضية على وقع الهزيمة العسكرية والنفسية والخسائر البشرية لدى المدعومين أميركياً وسعودياً خلال معارك الأسبوع الماضي في مديريتي الزاهر والصومعة.

ما علاقة التحالف بتنظيم “القاعدة”؟ ولماذا البيضاء بالتحديد؟

تكتسب محافظة البيضاء أهمية استراتيجية من الناحية الجغرافية، لكونها تقع في قلب اليمن، ولها حدود إدارية مع ثماني محافظات يمنية: شمالية مع مأرب وإب وذمار وصنعاء، وجنوبية مع مأرب ولحج وأبين وشبوة والضالع، وبالتالي فإنها تمثل حلقة ربط جغرافي وتجاري بين شمال الوطن وجنوبه.

ونظراً إلى أهمية هذه المحافظة من الناحية الاستراتيجية، بحكم موقعها الجغرافيا، فقد جعل منها تنظيم “القاعدة” خلال السنوات الماضية وكراً لمعسكراته ولمعامل تصنيع المفخخات والعبوات الناسفة وإعداد الانتحاريين والمقاتلين، ومن جنسيات مختلفة، وأغلبهم من الجنسية السعودية. وقد استفادت “القاعدة” وداعموها من موقع المحافظة لتوزيع الموت على اليمنيين شمالاً وجنوباً، قتلاً وتفخيخاً واغتيالات… 

وعلى وقع الغارات الأميركية بطائرات “الدرونز” على محافظة البيضاء، والتي وصفها عبد ربه منصور هادي بـ”الأعجوبة”، واستهدافها القبائل، كانت “القاعدة” تتسع وتوسع علاقاتها ببعض رجالات القبائل، بمعنى أنَّ الغارات الأميركية لم تحدّ من نشاط “القاعدة”، بقدر ما كانت حريصة على تهيئة حاضنة شعبية لها. 

استمر الأمر كذلك إلى العام 2013. وفي هذا العام تحديداً، دخلت قوات “أنصار الله” في مواجهة مباشرة مع “القاعدة”، وتمكّن مقاتلوها ورجال القبائل من هزيمة التنظيم في منطقة المناسح في مديرية ولد ربيع، وإسقاط أحد أهم أوكاره في شبه الجزيرة العربية.

 ومع تساقط أوكار “القاعدة” في البيضاء وغيرها من المحافظات، وصولاً إلى العام 2015، شنَّ تحالف العدوان الأميركي السعودي حملته العسكرية، وكأنها جاءت لإعادة هذه التنظيمات الإرهابية. وقد وثقت الكاميرات دعماً سعودياً وإماراتياً كبيراً لتنظيم “القاعدة”، وخصوصاً في المحافظات الجنوبية، إما بالإنزال الجوي، وإما بتسليمهم معدات عسكرية حديثة. هذا ليس ادعاء، فقد كشفت قناة “سي إن إن” الأميركية ذلك بتحقيقات تلفزيونية على الأرض.

 كما أن قيادات في “القاعدة” و”داعش” اعترفوا في تسجيلات مصورة بأنهم يقاتلون جنباً إلى جنب مع التحالف. في ظل هذه الظروف واتساع المعركة، وجدت “القاعدة” فرصة لإعادة تموضعها في البيضاء وغيرها من المحافظات، بدعم واضح من التحالف. وعليه، إن هذه العلاقة تفسر استعانة واشنطن والرياض بعناصر “القاعدة” و”داعش” في البيضاء وكأنهم جيوشهم الاحتياطية.

هناك مؤشرات توحي بتحريك “القاعدة” مؤخراً في البيضاء، ومنها لقاء عقد نهاية شهر حزيران/يونيو، جمع علي محسن الأحمر، صاحب العلاقة التاريخية بالتنظيم، وقائد قوات البحرية الأميركية الوسطى، قائد الأسطول الخامس الفريق بحري براد كوبر، والقائمة بأعمال السفارة الأميركية في اليمن كاثي ويستلي.

ورغم أن عناوين اللقاء بدت مختلفة للإعلام، فإنَّ مصادر سياسية تؤكّد إبرام صفقة آنذاك عنوانها “الدعم مقابل التصعيد”، بمعنى أن تقدم واشنطن والرياض الدعم من أجل التصعيد في البيضاء، لعدة أهداف، أبرزها ما يلي:

–   التخفيف على القوات الموالية لهم في مأرب.

–   إعادة تموضع “القاعدة” و”داعش” في البيضاء. وبهذا، تكون واشنطن قد ضمنت بقاء مبرر لاستمرار تواجد قواتها “المحددة”، بحسب توصيف الرئيس الأميركي جو بايدن قبل أشهر، بمزاعم مواجهة الإرهاب.

في المؤشرات السياسية، جاء التصعيد بعد أن أعلنت واشنطن الشهر الماضي سأمها من استمرار عمليات الجيش واللجان الشعبية في مأرب، كما أعلنت ومعها الرياض دعمها السياسي لما أسموه “الجيش الوطني” في البيضاء، رغم أن المقاتلين في البيضاء ضد الجيش واللجان الشعبية من “القاعدة”. وتم حشد عناصر إلى صفوفهم من الساحل الغربي ومن المحافظات الجنوبية.

سقوط رهان التحالف

في المحصّلة، إنَّ رياح التصعيد جاءت بما لا تشتهي سفن الرياض وواشنطن، إذ تلقَّت “القاعدة” ضربة قاضية في عملية “النصر المبين”، بمصرع وإصابة ما يقارب 910 من عناصرها وقياداتها، وفق المتحدث باسم القوات المسلحة العميد يحيى سريع في مؤتمره الصحافي الأخير. الأرقام التي كشفها سريع ليست مجرد أرقام عابرة أو جردة حسابية فقط، فلكل رقم دلالة، وخلف كل رقم رسالة.

في الدلالات والرسائل، ثبتت القوات المسلَّحة معادلاتها الميدانية، وأثبتت قدرة فائقة على مواجهة أي تهديد، ومن أي نوع، وأسقطت رهانات واشنطن والرياض على قواتها الاحتياطية من “القاعدة” و”داعش”، ليكتشفوا بحسابات الميدان أنَّ رهاناتهم سقطت وتبين أنها مجرد أضغاث أحلام، رغم إسناد تلك العناصر بأكثر من 160 غارة جوية.

كما أنَّ القوات المسلحة قالت عملياً في عملية “النصر المبين” إن البيضاء، بموقعها الاستراتيجي المهم الذي يتوسط ثماني محافظات، باتت خطاً أحمر، وإن أي اختراق فيها لن يدوم طويلاً. كما أن إعادة “القاعدة” و”داعش” باتت أمراً مستحيلاً.

ذلك ما أوحى به الحسم في وقت قياسيٍّ لم يتجاوز 72 ساعة، وما حملته العمليات المشتركة بين الوحدات العسكرية المخلفة داخل القوات المسلحة، علماً أنَّ الأخيرة لم ترمِ كلّ ثقلها في معارك البيضاء الأخيرة، لكنها أولتها بعضاً من اهتمامها، إلى جانب معارك قاسية في الجبهات الموازية، وتحديداً في محافظة البيضاء؛ فإلى جانب القوات البرية من المشاة ووحدة ضد الدروع والقناصة، نفَّذت القوة الصاروخية وسلاح الجو المسيّر 66 عملية، بما يعكس قراراً سياسياً وعسكرياً بتوجيه ضربة قاسية لتنظيمي “القاعدة” و”داعش” والدول المحركة لهما، وبحسم سريع.

خلاصة الخلاصة، إنَّ القوات المسلَّحة قدّمت في هذه المعركة صورة واضحة في القدرة والقوة والتخطيط والاستعلام والاستطلاع والعمل الاستخباراتي وتقدير الموقف، وتمكَّنت من احتواء الاختراق ورد الصاع صاعين، وحولت التهديد إلى فرصة، وأضافت إلى سجل التحولات الميدانية الكبرى تحولاً ميدانياً جديداً سيكون له ما بعده، ووجهت ضربة ميدانية ونفسية خاطفة، وربما تكون القاضية، لتنظيمي “القاعدة” و”داعش” ومن يقف خلفهما.

 

علي-ضافر-الميادين-نت

قد يعجبك ايضا