الترف بداية السقوط

عبدالله عبدالعزيز الحمران

حين يتغلغلُ الترفُ في مفاصل الدولة والمجتمع، لا يبقى للسقوط إلا مسافة زمنية قصيرة. ليس الترف مظهرًا بسيطًا من مظاهِر النعمة، بل حالةٌ عقلية ونفسية تصيبُ النُّخَبَ الحاكمة والثقافية فتفقدها الارتباطَ بقضاياها الكبرى، وتضعف أمام التحديات، وتغرق في وهم “الاستقرار” القائم على التنازل والانبطاح.

 

الترف في القرآن: إنذار سابق للسقوط

جعل القرآن الكريم الترف نذير شؤم لا بشارة، وقرنه بالفسق والدمار. يقول الله تعالى:

“وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ، فَدمّـرنَاهَا تَدْمِيرًا” (الإسراء: 16)

المترفون في منطق القرآن ليسوا مُجَـرّد أغنياء، بل هم فئة فاسدة تستأثر بالثروة، وتدير البلاد بمنطق المصالح الشخصية، وتستهين بمصير الأُمَّــة. وحين يصبح لهم القرار، يكون السقوط مسألة وقت.

 

من الترف إلى التفريط: أنظمة تخلّت عن القضايا المصيرية

نرى اليوم في كثير من الأنظمة العربية مظاهر هذا الترف السياسي والاقتصادي؛ إذ تخلّت عن قضايا الأُمَّــة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، مقابل تحالفات اقتصادية وأمنية مع الكيان الصهيوني والغرب.

1- السعوديّة والإمارات: ترف مفرط وتخلٍّ علني

تتصدّر هذه الدول مشهد الترف، من أطول ناطحات السحاب، إلى المهرجانات الفاحشة، إلى صفقات الأسلحة المليارية التي لا تُستخدم إلا لقمع الشعوب أَو لتدمير دولٍ عربية أُخرى. في المقابل، نجدها في طليعة المطبّعين مع العدوّ الصهيوني، وقد رفعت يدها عن دعم المقاومة أَو حتى الحديث عن فلسطين إلا كديكور إعلامي.

إن إنفاق المليارات على الترف، ومزامنته مع التخلّي عن أهم قضية للأُمَّـة، يكشف بوضوح أن الترف لم يكن حيادًا، بل انحرافٌ في البوصلة.

2- ممالك النفط: من دعم التحرّر إلى خدمة المستعمر

في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كانت بعض الأنظمة ترفع شعارات القومية والتحرّر، ولكن مع تصاعد الثروة النفطية، تغيّرت المعادلة. أصبحت تلك الدول ملحقة بالمنظومة الغربية، تدير ثرواتها على هواه، وتفتح أبوابها للتطبيع، وتغلق حدودها أمام شعوب الأُمَّــة.

تحوّلت الثروات من أدَاة تمكين إلى وسيلة تبعية. ومِن محاور المقاومة إلى منصات الحفلات والاستثمارات الغربية، غاب الوعي وحضر الترف.

3- الترف السياسي: القمم العقيمة والقرارات الخائبة

في كُـلّ قمة عربية، تتكرّر العبارات المكرورة، بينما تنتهك الأرض والعقيدة والكرامة. لا قرارات مصيرية، ولا موقف حازم، بل ترف سياسي فارغ المحتوى، هدفه إدارة الوقت لا صناعة المصير.

 

الترف في مواجهة القيم: من المقاومة إلى المساومة

في زمن المقاومة، يُبذل المال وتُبذل الأرواح دفاعًا عن الأرض والكرامة. أما في زمن الترف، فيُبذل المال لصناعة صورة زائفة، وتُبذل القرارات في سوق النفاق الدولي، وتُحارب المقاومة؛ لأَنَّها تذكّر المترفين بمسؤولياتهم التي تخلّوا عنها.

بل إن بعض الأنظمة باتت تعتبر المقاومة “خطرًا على التنمية”، وكأن الكيان الصهيوني أصبح شريكًا اقتصاديًّا، لا محتلّا ومغتصبًا! وهذه قمة التناقض الذي يُنتجه الترف حين يفصل الرفاهية عن القيم، والثروة عن الشرف.

 

الترف لا يبني حضارة:

إن الترف لا يصنع قوة، بل يُذيب الإرادَة. الحضارات تُبنى بالوعي والتضحيات، لا بالأبراج والأسواق المفتوحة. وكل أُمَّـة غفلت عن هذا، دفعت ثمن ترفها سقوطًا مهينًا. واليوم، ما لم تراجع الشعوب والأنظمة علاقتها بالثروة والسلطة، فالسقوط لن يكون احتمالًا، بل مصيرًا.

 

مقاومة الترف مشروع نهضة:

الردُّ على الترف ليس في الدعوة للفقر، بل في استعادة القيم التي تجعل من الثروة أدَاة تحرير لا عبودية، ومن السلطة مسؤولية لا مغانم. والمقاومة ليست فقط بندقية، بل وعيٌ حضاريٌّ يُعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والدولة، بين القيم والثروة، بين المصير والقرار.

إن الأُمَّــة التي تريد أن تصنع مستقبلها لا بد أن تخلع عباءة الترف، وتلبس درع الوعي، وتعيد البُوصلة إلى، حَيثُ يجب أن تكون: نحو الكرامة، لا التفاخر. نحو التحرير، لا التلميع. نحو القدس، لا تل أبيب.

قد يعجبك ايضا