السنن الإلهية والقيادة الربانية.. معادلة النصر في زمن التحديات

موقع صحيفة الحقيقة. تقرير | صادق البهكلي

لطالما كان فهم السنن الإلهية أحد المفاتيح الكبرى لفهم حركة التاريخ وصيرورته، فالله سبحانه وتعالى، الذي خلق الإنسان واستخلفه في الأرض، لم يتركه هملاً، بل أجرى سننه في خلقه، وربط النصر والهزيمة، والعزة والذل، بأسباب واضحة وقوانين لا تتبدل. ومن هذه السنن ما يتعلق بمصير المستضعفين، والذين لم يكن استضعافهم مبررًا للركون أو الانكسار، بل كان تمهيدًا لنصر عظيم ورفعٍ كبير.

لأن انحراف الإنسان عن تعاليم الله أدى إلى نشوء تباينات في الواقع البشري، كان منشؤها النفس المجبولة على حب المال، والطمع، والحسد، والأحقاد، فقد ظهر الطغاة وأعوانهم ممن سخّروا هذه الانحرافات لبسط سلطانهم وتكريس ظلمهم، وفي المقابل برزت فئة من المستضعفين المقهورين الذين عانوا من التهميش والاضطهاد، لكنهم حافظوا على وعيهم وإيمانهم وكرامتهم.

ولأن الله عادلٌ رحيم، لا يرضى بالظلم ولا يقبل الطغيان، فقد جعل من سننه الثابتة نُصرة المستضعفين، ووضع بين أيديهم من الوسائل والأسباب ما يمكّنهم من الوقوف في وجه الطاغوت وكسر جبروته، مهما بدا متسلطًا أو متجبرًا. فالله لا يترك عباده المظلومين وحدهم في معركة المصير، بل يزرع في قلوبهم الإيمان، ويمنحهم الوعي والبصيرة، ويعزز في نفوسهم الثبات والصبر، ويهيئ لهم سبل التمكين، حتى تكون لهم العاقبة ويكون النصر من نصيبهم.

وهنا تتجلى إحدى السنن الإلهية الثابتة في حركة التاريخ، والتي وردت بنص قرآني قاطع:
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}
فقد دلّت هذه الآية الكريمة على إرادة ربانية لا مشروطة، بأن تكون الإمامة والوراثة في الأرض من نصيب أولئك المستضعفين الذين لم يتخلوا عن وعيهم وكرامتهم رغم القهر.

في كل تجربة تاريخية، حين تنهض فئة مستضعفة بقيادة إلهية صادقة، يتغير ميزان القوى، ويتحول المظلوم إلى قائد، والمقموع إلى صانع قرار. وهذا ما شاهدناه في سيرة الأنبياء، وفي تجارب الرسالات الكبرى، من نوح إلى موسى، ومن عيسى إلى محمد، صلوات الله عليهم جميعًا، حيث كان الضعفاء في ظاهرهم، هم الوقود الحقيقي لحركة الرسالات، وهم من نالوا النصرة والتمكين.

وعلى امتداد الزمن، كان العظماء من أهل البيت (عليهم السلام) تجسيد لهذه السنة، فكانوا حاملي لواء المستضعفين، وصوت العدالة في وجه الطغيان. واليوم، نحن أمام مشهد متجدد، حيث يتكرر ذلك القانون الرباني نفسه، لنجد أن مشروع المقاومة الإسلامية في فلسطين ولبنان واليمن والعراق، هو التطبيق العصري لتلك السنة الربانية: المستضعفون المؤمنون، هم من يمنّ الله عليهم بالقيادة والنصر.

معادلة النصر القرآنية

في معادلة النصر القرآني، ليست القيادة مسألة شكلية أو تفصيلًا ثانويًا، بل هي جوهر مشروع التغيير. وقد أودع الله في أنبيائه وأوليائه الذين اصطفاهم لحمل المسؤولية سر القيادة الربانية التي لا تنكسر أمام الطغيان، ولا تتنازل عن المبادئ، ولا تبحث عن رضا الناس على حساب الحق. من هنا، تتجلى سنة إلهية راسخة: أن الأمة لا تنتصر إلا إذا تولت القيادة التي اصطفاها الله، وهذه القيادة تبدأ أولاً من التولي لله والتولي لرسوله والتولي لأوليائه وأعلام دينه، كما قال تعالى:
{وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56].

ومن يتأمل في مسيرة النصر في القرآن يجد أن الغلبة لا تكون بكثرة العدد ولا بقوة العتاد وحدها، بل بتحقيق الولاء الصادق لله ورسوله وأوليائه، والالتفاف حول القيادة المؤمنة التي تسير على نهج الوحي، وتستمد توجيهاتها من كتاب الله. هذه القيادة هي التي تصنع الوعي، وتبني الصبر، وتُلهِم الجماهير معنى الصمود والتضحية، وتحوّل الضعف إلى قوة والإحباط إلى أمل. فحين تتقدم هذه القيادة إلى الميدان، متوكلة على الله، واثقة بوعده، ثابتة على الحق، فإن النصر يصبح نتيجة طبيعية لوعد الله الحق.

في سورة البقرة، وفي قصة طالوت وجالوت، يقدّم القرآن مشهدًا بليغًا لا يقل أهمية عن أي نبوءة سياسية أو درس استراتيجي في علم الاجتماع السياسي. إنها قصة القلّة المؤمنة التي تُحقّق النصر، لا بكثرتها، بل بصدقها، بإيمانها، بصبرها، وبتوكلها على الله. هذا الدرس الإلهي العابر للزمن، لا يزال يشكّل جوهر فلسفة المقاومة، ويكشف زيف المعادلات الكمية التي يحتكم إليها أصحاب النظرة المادية البحتة.

في تفاصيل تلك القصة، لم يكن النصر حليف من امتلك العدد، بل من امتلك الصفاء. فحين امتحنهم الله بنهر، سقطت الأغلبية، ولم يصبر على العطش والشرط الإلهي إلا قلة قليلة}فشربوا منه إلا قليلًا منهم { ثم حين واجه طالوت جالوت، كانت القلة الباقية هي من ثبتت في الميدان، وقالت بصدق ويقين:
}كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله{

هؤلاء لم يكونوا “مغامرين” ولا “متهورين” كما يحلو للجبناء أن يصفوا أصحاب البصيرة، بل كانوا حكماء الإيمان، الذين عرفوا أن الصبر والتوكل على الله هو جوهر النصر الحقيقي. في مقابلهم، كانت فئة تتبجح بـ”العقلانية” و”الحكمة السياسية” و”الواقعية”، لكنها في الحقيقة كانت هاربة من التكليف، مستخفة بقدرة الله، ومُحبَطة الروح.

هذا المشهد يتكرر في واقعنا المعاصر. كم من نخب سياسية وثقافية تعيب على المقاومة جرأتها، وتصفها بـ”الجنون” و”اللاواقعية”؟ كم من أبواق عربية قالت لحزب الله: لا تتحدى إسرائيل! وكم من متخاذلين قالوا لصنعاء: لا تعبثوا بالأمن الإقليمي!؟ وكم من متفذلكين قالوا لغزة: لا تراهنوا على المقاومة؟ هؤلاء جميعًا شربوا من “نهر التردد”، وانهزموا من داخلهم قبل أن يخوضوا أي مواجهة.

لكن أهل الصدق، أولئك الذين “برزوا لجالوت وجنوده” كما يصفهم القرآن، هم من صنعوا المجد الحقيقي. في 2006، وقف شباب المقاومة في لبنان في مواجهة ترسانة إسرائيل، ومعهم فقط الله، وسلاح الإيمان، فأنزل الله نصره عليهم. وفي غزة، واجهت سرايا المقاومة عشرات الطائرات والدبابات، وهم قلة، ولكنهم قالوا كما قال المؤمنون من قبل:
}ربنا أفرغ علينا صبرًا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين{.

إن دروس طالوت هي الرد العملي على كل دعاوى الانهزام والتثبيط. فالله لا ينصر الكثرة، بل ينصر الصادقين. والله لا يُؤيّد من يرفع راية الحذر، بل من يرفع راية الحق. لذلك، فإن النصر الحقيقي لا يُقاس بحجم التحالفات، ولا بعدد الدول، ولا بميزانية الجيوش، بل يُقاس بمدى الانقياد لأمر الله، وبصدق التوكل، وبصلابة البصيرة.

وهكذا، فإن أي مشروع تحرر لا يستند إلى هذه المعادلة الربانية سيبقى عرضة للتيه والضياع، لأن قيادة غير مؤمنة، مهما امتلكت من مهارات دنيوية، تظل عاجزة عن مواجهة منظومات الطغيان، بل قد تتحول إلى جزء منها، بينما القيادة الربانية لا تكون إلا سيفًا في وجه الباطل، وميزانًا يزن الأمور بميزان الله، لا بميزان الهوى أو المصالح.

مبدأ الولاية الإلهية أساس الغلبة والنصر

إن أولى ركائز معادلة النصر القرآنية تبدأ من تولي الله، فهو الركن الأصيل الذي تُبنى عليه كل خطوات التحرر والانبعاث، فمن يتولَّ الله توليًا صادقًا، فإنه يستمد من عظمته القوة، ومن رحمته الثبات، ومن حكمته البصيرة. وقد قرن الله هذا التولي في كتابه العزيز بتولي رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله)، لأن رسول الله هو المبلغ عن الله، والهادِي إلى صراطه المستقيم، ومنبع الرحمة والهداية للبشرية كلها، بل لا يتحقق التولي لله دون التولي لرسوله:
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ…}.

ثم جاء التوجيه الإلهي لتكتمل معادلة القيادة الربانية بتولي الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي جعله الله امتدادًا نقيًّا لولاية الرسول، وميزانًا عدليًّا لا يميل، وشخصيةً استثنائية جسدت القيم القرآنية في أرقى صورها. لقد أراد الله أن يكون عليٌّ عليه السلام نموذجًا خالدًا في الفداء والبصيرة والعدل، لا يطلب سلطة، ولا يسعى وراء مغنم، بل يدافع عن جوهر الرسالة، عن بقاء الإسلام نقيًّا من التلاعب والسلطوية. ومن دلائل ذلك ما روي عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ أنه قال: دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام بِذِي قَارٍ وَهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ فَقَالَ لِي مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ فَقُلْتُ لَا قِيمَةَ لَهَا فَقَالَ عليه السلام: “وَاللَّهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلًا”

هذه الروح المجردة والمخلصة، جعلت من الإمام علي عليه السلام تجسيدًا حيًّا للقيادة التي لا تتبدل بالضغوط ولا تنكسر أمام السيوف، ومن هنا كان التولي له شرطًا من شروط الإيمان، ومفتاحًا من مفاتيح النصر في مواجهة مشاريع الطغيان والانحراف، ولا سيما المشروع الصهيوني الذي مثّل امتدادًا لأهل الكتاب في طغيانهم وعدائهم لله ولرسله.

ولأن مشروع الهداية لا يتوقف عند الإمام علي، فقد امتد في أعلام الهدى من أهل البيت (عليهم السلام)، أولئك الذين اصطفاهم الله ليكونوا ورثة النور والنبوة، وقادة الأمة في مسيرتها نحو التحرر والعدل. هؤلاء هم الامتداد الطبيعي لولاية الله ورسوله، وهم القادة الذين تُعرف بهم معالم الطريق، وتُفهم من خلالهم سنن المواجهة والنصر.

ولذا، فإن الإمام علي لم يكن مجرد رمز تاريخي، بل مشروع متجدد ومعيار دائم لمعرفة الحق والباطل، وبوصلة لا يضل من اتبعها. وكلما ابتعدت الأمة عن ولاية علي وأعلام الهدى، واستبدلتهم بقيادات لا تمت للنهج النبوي بصلة، كلما تراجعت، وتفرقت، وذاقت الهزائم والانكسارات. أليست التجربة واضحة في واقع العالم الإسلامي اليوم؟ أليست الهزائم والخيبات ثمرة الانفصال عن هذا الخط الولائي الرباني؟

وفي المقابل، حين تبنّى محور المقاومة هذا النهج الولائي، وتولى الإمام علي وأهل بيته في الفكر والعمل، بدأت معالم النصر تتجلى. في لبنان، يقف حزب الله بقيادة مؤمنة، حسينية الروح، عليّة الفكر، يُربك كيان الاحتلال ويكسر هيبته. في اليمن، تُبنى معادلات الصمود على ذات النهج، وترتفع راية الولاء في وجه العدوان الأمريكي ، وفي العراق، تتجدد مقاومة المشروع الأمريكي الصهيوني، وأخيرا ما رأيناه من صمود في الجمهورية الإسلامية الإيرانية ضد العدوان الصهيوأمريكي المدعوم من كل دول الاستكبار في محاولة كسر إرادة هذا الشعب المشبع بحب وولاء الإمام علي (عليه السلام) فقد ثبت وصمد وواجه محاولات وأد المشروع الإسلامي وأنتصر بفضل الله وبفضل قيادته المؤمنة.

إذًا، لا نهوض حقيقي، ولا نصر شامل، إلا تحت راية ترتبط بالله ورسوله وبالإمام علي وأعلام الهدى من أهل البيت. لأن النصر في المفهوم القرآني لا يتحقق بالأدوات المادية فقط، بل بشرط الولاية والقيادة الربانية. وكما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
علي مع الحق، والحق مع علي، يدور معه حيث دار.”
فهل آن للأمة أن تعود إلى هذا المسار المحمدي العلوي الأصيل، لتستعيد عزتها وكرامتها، وتكتب فصول الانتصار بمداد الولاء والطاعة لله ورسوله وأوليائه؟

فشل النموذج الوهابي المدعوم أمريكياً: من المشروع إلى الانهيار

حين تسلّمت التيارات السلفية الوهابية زمام المبادرة في بعض الساحات الإسلامية خلال العقود الأخيرة، ظنّ كثيرون أن فجر الأمة قد اقترب، وأن هذه الصحوة المزعومة ستحرر بلاد المسلمين، وستقيم “دولة الخلافة”، وستعيد للعالم الإسلامي عزته المفقودة. استثمرت فيها المملكة السعودية وحلفاؤها مليارات الدولارات، أنشأوا المعاهد، وجنّدوا الدعاة، وأطلقوا الفضائيات، وطبَعوا الكتب، وسخّروا المساجد، ومكّنوا هذه التيارات من فئة الشباب في مختلف البلدان. بدا وكأن المشروع بلغ ذروته في أفغانستان واليمن والجزائر وسوريا، وفي مختلف الدول الإسلامية وبدعم سخي من الأنظمة الخليجية التي تعتبر تتحرك وفق المخطط الأمريكي والصهيوني وظنّ دعاته أنهم يملكون مفتاح الأمة نحو النصر.

لكن السنن الإلهية لا تُخدع بالشعارات، ما كان ينقص تلك المشاريع هو العنصر الأهم: القيادة الإلهية، التي ترتبط بكتاب الله وعترة النبي، والتي تشترط الانطلاق من مشروع أهل البيت لا من أفكار مشوشة تسيء للإسلام أكثر مما تخدمه.

وبمجرد أن سلطت الولايات المتحدة أنظارها نحو هذه الجماعات، تبين هشاشتها، وبدأت تتساقط واحدة تلو الأخرى، ألم نرَ كيف تمّت تصفية طالبان والقاعدة بسهولة رغم قوتهم وعديدهم؟ ألم يختفِ خطاب “الجهاد” الذي كانوا يرفعونه، وتحول كثير منهم إلى أدوات في مشاريع أمريكية وصهيونية؟ بل إن بعضهم تعاون علنًا مع الاحتلال الأمريكي في العراق، وتماهى مع المشروع الصهيوني في سوريا.

لقد كانت الخيبة واضحة، أولئك الذين ظنّوا أنفسهم “قادة الصحوة” تحولوا إلى أدوات قتل وتكفير داخلي، فاستُبيحت دماء المسلمين بأيديهم أكثر مما سالت على يد الأعداء، لقد ضربوا الوحدة الإسلامية في الصميم، وحوّلوا مفهوم “الجهاد” إلى لعنة في نظر العالم، فبات يُربط بالتفجيرات والذبح والتطرف، بدلًا من أن يكون شعارًا للعزة والحرية والانعتاق.

إن هذا الانهيار لم يكن مفاجئًا لمن كان يقرأ السنن الإلهية بوعي، فالقرآن لم يعد بالنصر لمن يمتلك المال والسلاح فقط، بل جعله وعدًا للمستضعفين الذين يتحركون تحت راية القيادة الربانية، الجماعات الوهابية، في منطلقاتها، لم تولِ أهل البيت شيئًا، بل كانت تعاديهم، وتُقصيهم من كل فضيلة، وتُقصيهم عن موقع القيادة والمرجعية. فهل يُنتظر من مبغضٍ لأهل البيت أن ينصر دين الله؟ وهل يُرجى النصر من ثقافة تُقصي من قال فيهم النبي (صلوات الله عليه وعلى آله): أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق.”

وهكذا، تهاوت القلاع الورقية، وسقطت المشاريع التي لم تبنَ على ولاية، وتبيّن أن أي نموذج لا يستند إلى القرآن وعترة الرسول، مصيره إلى الخيبة، ولو بدت قوته في الظاهر.

واليوم، بعد سنوات من التجارب الفاشلة، وبعد أن استخدمت هذه التيارات كأدوات للتمزيق الداخلي، ها هي الأمة تُدرك ـ ولو متأخرة ـ أن الخلاص لا يكون إلا على يد الموالين الصادقين، الذين يتمسكون بحبل الله، ويقاتلون تحت راية أولياء الله.

من يقود الأمة؟ سؤال اللحظة الفاصلة بين الحق والخذلان

في مفترق الطرق الذي تقف عنده الأمة اليوم، لا يعلو سؤال على سؤال القيادة: من يقود هذه الأمة نحو خلاصها؟ من يملك الشرعية الربانية والرصيد الأخلاقي والتاريخي ليوجه بوصلة الشعوب من التيه إلى التحرر؟ إنه سؤال ليس تنظيريًا ولا أكاديميًا، بل هو مسألة وجودية تمس جوهر النصر والهزيمة، وترتبط بمصير أمة تعيش تحت سطوة الاحتلال، والاستبداد، والتبعية.

لقد خاضت الأمة الإسلامية تجارب قاسية تحت قيادات مصطنعة، بعضها أتى بدعم استعماري، وبعضها الآخر خرج من عباءة مشاريع دينية مُسيّسة لا تمت بصلة لخط الرسالة المحمدية الأصيلة؛ والنتيجة: هزائم متكررة، تطبيع مع العدو، تفكك داخلي، وصورة مشوهة للإسلام، بل إننا رأينا كيف باع بعض القادة “قضية فلسطين” مقابل مناصب أو وعود حماية من أمريكا و”إسرائيل”، وتحولت تلك القيادات إلى حراس بوابات للاحتلال بدلًا من أن تكون حماة للمستضعفين.

في خضم هذا الانهيار الأخلاقي والسياسي، يعيدنا حديث النبي الأكرم (صلوات الله عليه وعلى آله):
إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدًا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي.
هذا الحديث ليس فقط وصية، بل هو خارطة طريق للنجاة، فالعترة هنا ليست رموزًا للتبرك، بل هم القادة الحقيقيون للأمة، الذين لا يُضلون ولا يظلمون، وهم قرناء القرآن في كل زمان ومكان.

وعندما نتأمل في واقع اليوم، نجد أن الجماهير تبحث عن قائد صادق، شجاع، تقي، لا يُساوم ولا يخون. وقد بات من الواضح أن هذا النموذج لا يوجد إلا في امتداد أهل البيت، في رجال قاوموا الاحتلال، وواجهوا الطغيان، وقدموا أبناءهم شهداء، ولم يبيعوا القضية في سوق السياسة.

ففي زمن الانبطاح، رأينا رجالًا من أمثال الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه) وشهيد الأمة السيد حسن نصر الله (سلام الله عليه) والسيد القائد عبد الملك الحوثي (حفظه الله)، وقادة المقاومة في العراق وفلسطين، يحملون راية الهدى ويعيدون للناس الثقة بأن في هذه الأمة بقايا من نور النبوة، هؤلاء لا يتحدثون عن المصلحة الشخصية، بل عن الواجب الإلهي، ولا يسألون الناس مالًا أو جاهًا، بل يسألونهم أن يصطفوا في معسكر المستضعفين.

إن الأمة التي لا تسأل من يقودها، أمة ضائعة، وأمة تقودها أمريكا، أمة محتلة، وأمة تقودها عترة رسول الله، أمة منصورة. فهل آن لنا أن نعيد هذا السؤال إلى الواجهة؟ وهل بات واضحًا أن النصر لا يتحقق إلا بعودة القيادة إلى من اصطفاهم الله؟ إن المعركة القادمة ليست فقط مع العدو الخارجي، بل مع المفاهيم المشوّهة التي صنعت قادةً بدون محتوى، وزعامات بدون رؤية، وإسلامًا بلا رسول ولا أهل بيت.

حزب الله… تجلٍّ معاصر للسنن الإلهية

حين تبحث عن تجسيد حيّ للسنن الإلهية في نصرة المستضعفين، لا تحتاج إلى الرجوع بعيدًا في صفحات التاريخ، بل يكفي أن تنظر إلى تجربة حزب الله في لبنان. هذا الحزب الذي نشأ من رحم المعاناة، في بيئة لبنانية كانت مهمشة ومظلومة ومحرومة حتى من أدنى الحقوق، تحوّل في غضون سنوات إلى قوة إقليمية مرهوبة، تقف “إسرائيل” أمامها في حالة من الارتباك والتردد.

وليس سرًا أن السرّ الحقيقي وراء هذا التجلّي المذهل لا يكمن فقط في العتاد أو التنظيم، بل في المرجعية الفكرية والإيمانية التي انطلق منها الحزب. إنها مرجعية أهل البيت (عليهم السلام)، وتحديدًا الولاء للإمام علي (عليه السلام)، والسير على درب الحسين (عليه السلام)، والاقتداء بسيرة الزهراء (عليها السلام). تلك المدرسة التي جعلت من التضحية والشهادة والإباء جزءًا من الهوية السياسية للمجاهد.

ففي الوقت الذي كانت فيه الأنظمة العربية تُشيطن المقاومة وتلهث وراء التسويات مع الكيان الصهيوني، كان حزب الله يزرع في وعي الجماهير أن “إسرائيل” أوهن من بيت العنكبوت، وأن النصر ليس مستحيلاً، بل هو حتميٌ لمن سار في خط الله، وارتبط بقيادة ربانية، وتوكل على الله لا على البيت الأبيض.

لقد خاض حزب الله معارك فاصلة: من تحرير جنوب لبنان في عام 2000، إلى انتصاره المدوي في حرب تموز 2006، إلى مشاركته في الدفاع عن محور المقاومة في سوريا، وصولًا إلى حضوره الحاسم في معادلة الردع مع العدو وأسناد المقاومة الفلسطينية في معركة طوفان الأقصى وقد شكّل في كل تلك المحطات حالةً فريدة من الصبر الاستراتيجي، والتخطيط الواعي، والعقيدة الراسخة.

هذا الحزب لم يقل “نحن نقاتل لأجل مذهب أو طائفة”، بل قالها السيد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) مرارًا: نقاتل لأجل الأمة، لأجل القدس، لأجل المظلومين، لأننا نؤمن أن هذا هو خط الحسين، وأن التخلي عن فلسطين خيانة لله ورسوله.”

وهذا ما جعل الجماهير العربية والإسلامية، حتى من غير الطائفة الشيعية، تلتف حول المقاومة. فهناك إدراك بأن هذه الحركة لا تستمد قوتها من شعارات فارغة، بل من انتماء عميق إلى مدرسة أهل البيت التي لم تعرف الركوع للظالمين، ولا المجاملة في أمر الدين، بل كانت دائمًا في طليعة المضحين والمجاهدين.

إن حزب الله، اليوم، لا يمثل مجرد فصيل مقاوم، بل يمثل ترجمة واقعية للسنة الإلهية التي تقول: “الذين استُضعفوا في الأرض سنجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين.” فقد خرج من بيئة جنوبية مسحوقة، ليصبح لاعبًا أساسيًا في معادلة المنطقة، مهددًا أمن “إسرائيل”، كاسرًا هيبتها، مانعًا مشاريعها في لبنان وسوريا وغزة.

فهل يمكن للعالم أن يتجاهل هذه الحقيقة؟ وهل يمكن لأي باحث في القضايا السياسية والدينية أن يتجاوز هذا النموذج دون أن يقرأه في ضوء السنن الإلهية؟

لقد بات واضحًا أن حزب الله ليس مجرد تنظيم، بل أمة في رجل، ومشروع مقاومة يرتكز على فقه القرآن، وبصيرة أهل البيت، وتوكّل لا يهتز على الله وحده.

صنعاء، غزة، طهران… مثلث الأمل المقاوم

في مقابل مشهد الانبطاح الذي يخيّم على عواصم عربية كثيرة، وفي ظل صمت رسمي أمام جرائم الاحتلال الصهيوني، تبرز ثلاث عواصم ـ صنعاء، غزة، وطهران ـ كأنها أعمدة النور في ليل الأمة الحالك، تؤكد جميعها أن مشروع المقاومة ما زال حيًا، وأن المستضعفين حين يحملون الإيمان والعزيمة، يصبحون مركز التأثير في خريطة المنطقة، بل في ميزان العالم.

في غزة، نرى الفعل المقاوم وقد تحول من حراك محدود إلى قوة ردع عسكرية قادرة على قصف تل أبيب، وكسر هيبة الجيش الذي لا يُقهر، شعب محاصر منذ أكثر من عقد ونصف، لكنه لم يستسلم، بل صنع في ظل الحصار توازنًا للرعب، واستطاع أن يُربك عقل العدو ويغيّر معادلة الصراع. لم تَنَل منه آلة الدمار الصهيونية ولا الجوع، لأنه لم يضع مصيره بيد المطبعين، بل أوكله إلى الله، ومن هنا نال التأييد الإلهي، تمامًا كما وعد القرآن: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ…}.

وفي صنعاء، العاصمة اليمنية التي كانت تُحسب ضمن أكثر العواصم استضعافًا، برز المشروع القرآني كقوة إقليمية تُرعب العدو الإسرائيلي والأمريكي. ليس فقط لأنه امتلك الصواريخ والطائرات المسيّرة، بل لأنه مرتبط منهجياً وعملياً وروحياً بالقرآن الكريم وبأهل البيت (عليهم السلام)، والتولي الصادق لله ولرسوله وللإمام علي (عليه السلام)، ويتمتع بقيادة ربانية ممثلة بالسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي.
هذه الروحية الإيمانية، والرؤية الواضحة، والقيادة الواعية، جعلته عصيًّا على الكسر، وثابتًا في وجه طغيان تحالف دولي ما يزال قائما منذ 2015م وبالرغم من الحصار وتبعاته إلا أن اليمن لم يقف متفرجا على ما يتعرض له أبناء الشعب الفلسطيني فأعلن الحرب على الكيان الصهيوني ومنذ سنة ونصف واليمن يقصف ويحاصر الكيان بحرا وجواً اسنادا لفلسطين وأبناء غزوة مصراً على وقف العدوان الصهيوني ورفع الحصار عن غزة وبات اليمن بهذا الموقف العظيم يمثل صوت المستضعفين في وجه الاستكبار، وساحة تتجلى فيها سنة الله في التمكين لمن ارتبط بهديه، وصدق في وعده.

أما الجمهورية الإسلامية في إيران فقد اثبتت حضورها وقوتها في دعم المقاومة الفلسطينية وتبني قضية فلسطين وقدمت الكثير من رجالها وقادتها فداء لهذا الموقف كما واجهت عدوانا أمريكيا صهيونيا غير مسبوق وبفضل الله فقد استطاعت الصمود ومواجهة هذا العدوان ودك أوكار العدو في الأراضي المحتلة حتى نزل عن شجرة الغرور وطالب بوقف الحرب بعد أن كادت الصواريخ الإيرانية تمسح مدنه، دولة لم تفرّط بفلسطين، ولم تساوم على دماء الشهداء، ولم تقف على أبواب البيت الأبيض طلبًا للرضا، بل تصدّت لأمريكا علنًا، ودعمت المقاومة في كل مكان، ودفعت من اقتصادها ودماء علمائها ثمن هذا الخيار، لكنها أثبتت أن الكرامة لا تُشترى، وأن النصر لا يُصنع في مجلس الأمن بل في خنادق المجاهدين.

هنا، نحن لا نتحدث عن عواصم جغرافية فقط، بل عن مثلث عقائدي روحي يمثل الامتداد الفعلي لسنة الله في نصر المستضعفين. لم تجمعها التحالفات السياسية الكلاسيكية، بل جمعتها البصيرة والولاء والصدق، فكان بينهم رابط أعمق من كل اتفاقيات الأمم المتحدة: رابط القرآن وعترة النبي.

وما بين غزة المحاصرة، وصنعاء المحاربة، وطهران الصامدة، وُلد الأمل الجديد للأمة. أملٌ يقول لكل الشعوب: إذا أردتم النصر، فارجعوا إلى الله، إلى الإمام علي، إلى مدرسة كربلاء، إلى صدق الأنبياء، إلى المشروع الذي يقاتل من أجل الإنسان، لا من أجل سلطة، ويضحي من أجل القدس، لا من أجل قصر.

التمسك بالعترة في زمن التيه

حين نغلق صفحات هذا التقرير، لا نفعل ذلك من باب الخاتمة، بل من باب التذكير بوعدٍ لم يُنسخ، وبوصيةٍ لا تسقط بالتقادم. إنها وصية النبي الأكرم (ص): إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدًا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي.” هذا الحديث الذي يتكرر على منابر العلم والدين، ليس مجرد رواية تراثية، بل هو نص تأسيسي لطريق الخلاص، ومنارة تهدي الحيارى في كل عصر.

لقد أكّد النبي، بإلهام من الله، أن التمسك بالكتاب وحده دون العترة، طريق ناقص، تمامًا كمن يحمل خريطة دون دليل، أو من يُمسك بالحبل دون أن يعرف إلى أين يشده. إن السنن الإلهية التي وعدت بنصر المستضعفين، لا تنفصل أبدًا عن وصية التولي لأهل البيت، لأنهم هم مصابيح الهداية في زمن الظلمات، وهم الذين عرفوا القرآن قلبًا وعقلاً، وطبقوه فعلًا لا قولًا.

إن الأمة اليوم تعيش على مفترق طرق: فإما أن تُعيد وصل ما انقطع بينها وبين عترة نبيها، فتدخل مجددًا في مدار النصر، وإما أن تظل تائهة بين مشاريع مزيفة، وزعامات عميلة، وخطابات هشة تُزيّن الهزيمة وتسميها “مصلحة وطنية” أو “واقعية سياسية”.

وليس بعيدًا عن أعيننا كيف تخلى كثير من الزعامات الرسمية في العالم الإسلامي عن قضايا الأمة، وعلى رأسها فلسطين، فباعوا القدس على موائد التطبيع، وسكتوا عن المجازر، وركنوا إلى الذين ظلموا. في مقابلهم، وقف الذين تَمَسَّكوا بالوصية النبوية، ووالَوا أهل البيت، فكانوا حيث أراد الله لهم أن يكونوا: في ميادين المواجهة، وعلى قمم الشهادة، وفي جبهات الكرامة.

لقد أكدت التجارب المعاصرة أن الوعد بالنصر لا يُمنح لمن يحمل الرايات الزائفة، بل لمن تتوحّد عنده عناصر السنّة الإلهية: الإيمان، القيادة الربانية، ووعي المستضعف. وها نحن اليوم نرى هذا الوعد يتحقق: من جنوب لبنان إلى الضفة وغزة، ومن صنعاء إلى كربلاء، ومن طهران إلى كل أرض يقف فيها حرٌّ بوجه المستكبرين.

إن على الأمة أن تراجع نفسها، وتطرح سؤال المصير بجدية: من نتبع؟ من نُسلّم له زمامنا؟ من نعتبره قدوتنا ومرجعيتنا في زمن التحديات؟
الجواب لن يكون عند أمير ولا ملك ولا زعيم مستورد من دوائر القرار العالمي، بل عند أولئك الذين قال عنهم القرآن:
}أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ.{
فإذا كانت النبوّة قد خُتمت، فإن الهداية لم تُختم، لأنها باقية في العترة، في حملة القرآن، في من لم يُبدّلوا ولم يُساوموا.

وها نحن، أمام لحظة تاريخية فريدة، حيث يتقاطع الزمن مع السنن، وتتجلى الوعود في واقعٍ نعيشه لا في كتبٍ نقرأها فقط. فهل نكون ممن يسيرون على ضوء السنن والوصايا، أم نبقى رهائن الغفلة؟ القرار، كما كان دومًا، في يد الشعوب.

قد يعجبك ايضا