خيانة الأنظمة المنافقة والنخب المتواطئة لشعوبها

صادق البهكلي

المقدمة

تشكل ظاهرة النفاق في العالم العربي المعاصر واحدة من أخطر التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية والعربية في هذا العصر. إن حركة النفاق هذه تتجلى بوضوح في مواقف بعض الأنظمة العربية والنخب الحاكمة التي تتخذ من الخطاب الديني والقومي ستاراً، بينما تمارس في الواقع خيانة صريحة لشعوبها ولقضايا الأمة المصيرية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

يهدف هذا التقرير إلى تسليط الضوء على ظاهرة النفاق في العالم العربي المعاصر من خلال: دور الأنظمة المنافقة والنخب المتواطئة في خيانة شعوبها.

يعتمد هذا التقرير على مجموعة من المصادر الموثوقة، بما في ذلك خطابات السيد عبد الملك الحوثي التي تقدم رؤية تحليلية عميقة لهذه الظاهرة، بالإضافة إلى دراسات أكاديمية وتقارير إعلامية متخصصة. إن فهم هذه الظاهرة بشكل دقيق وشامل يشكل خطوة أساسية نحو بناء وعي جماعي قادر على مواجهتها والتصدي لها، وهو ما يسعى إليه هذا العمل عبر سلسلة من التقارير التي تتناول مختلف أبعاد هذه الحركة الخطيرة.

________________________________________

الخيانة المنظمة: عندما تصبح الأنظمة أدوات في يد العدو

تمثل الأنظمة العربية المنافقة والنخب المتواطئة معها واحدة من أخطر التهديدات التي تواجه الشعوب العربية في العصر الحديث. فبدلاً من أن تكون هذه الأنظمة حامية لشعوبها ومدافعة عن مصالحها وقضاياها، تحولت إلى أدوات طيّعة في أيدي القوى الاستعمارية الغربية والكيان الصهيوني. هذا التحول لم يكن وليد اللحظة، بل هو نتاج عقود من التدجين والإخضاع والارتباط العضوي بالمشروع الإمبريالي الأمريكي-الصهيوني في المنطقة.

في هذا السياق، يوضح السيد عبد الملك الحوثي في خطابه حول آخر التطورات والمستجدات الأسبوعية (الخميس 25-جماد الثاني-1446ه / 26-12-2024م) طبيعة هذا الدور الخياني بقوله::

“للأسف الشديد هذا هو ما يريده الأمريكي والإسرائيلي في منطقتنا بشكلٍ عام، هو يريد من كل سلطة تبقى في أيِّ بلدٍ عربي، أن يكون دورها الأساسي والفعلي هو الدور الذي تقوم به السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، يعني: سلطة لا تحمي شعبها، ولا تدافع عن شعبها، ودورها ينحصر في خدمة العدو، في مواجهة من يتصدى لعدوانه، لإجرامه؛ من أجل أن تبقى الساحة خاضعة وخانعة للعدو، يحتل، يقتل، يرتكب الجرائم بكل أشكالها وأنواعها، دون رد فعل، وهذا ما نكرره في كل كلمة أنَّ العدو يسعى له.”

هذا الاقتباس يكشف عن حقيقة جوهرية: أن الأنظمة المنافقة لا تكتفي بالتخلي عن واجباتها تجاه شعوبها، بل تتحول إلى أداة فعالة لقمع أي محاولة للمقاومة أو التصدي للعدوان، إن نموذج السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، يمثل المثال الأوضح على هذا النمط من الخيانة المنهجية: سلطة تتعاون مع المحتل في تعقب المقاومين، وتقمع شعبها بدلاً من حمايته، وتساهم في تثبيت الاحتلال بدلاً من مقاومته.

ويمتد هذا النمط إلى أنظمة عربية أخرى بأشكال مختلفة لكن بنفس الجوهر، فقد شهدت السنوات الأخيرة تصاعداً ملحوظاً في الدور الخياني لأنظمة عربية عديدة، خاصة في دول الخليج وبعض الدول العربية الأخرى، فهذه الأنظمة، تخلت عن القضية الفلسطينية بشكل شبه كامل، بل وصل الأمر إلى حد التنسيق الأمني والعسكري المباشر مع الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين أنفسهم، فقد غابت وفود حكومية رفيعة المستوى من الأردن، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والبحرين، ومصر، والمغرب عن جنازة إسماعيل هنية، مما يشير إلى تحول جذري في الأولويات الإقليمية وتخلٍ صريح عن القضية الفلسطينية.

ويضيف السيد عبد الملك في نفس الخطاب:

“الأمريكي والإسرائيلي يسعون بالفعل إلى ترسيخ وتثبيت معادلة الاستباحة لأمتنا، أن تكون أمةً مستباحةً في كل بلدانها دون رد فعل، وإذا صدر رد فعلٍ من أحد، فيتَّهم، ويحارب، ويعتدى عليه، ويواجه من الجميع، الحملات الإعلامية، واللوم الشديد، الدعايات توجه ضده، العمل العدواني، الاستهداف العسكري والأمني يوجَّه ضده، ويجرَّم فيما يفعله، وهذا شيءٌ مؤسفٌ جداً! يراد للأنظمة في العالم العربي والإسلامي، بعد أن يُجزأ ويقسَّم، أن تكون أنظمة شكلية، لكنَّ دورها الفاعل يكون في تنفيذ الأجندة الأمريكية والإسرائيلية.”

هذا التحليل يكشف عن استراتيجية أعمق للهيمنة الأمريكية-الإسرائيلية على المنطقة: لا يكفي مجرد إخضاع الأنظمة العربية، بل المطلوب تحويلها إلى أدوات فعالة لتنفيذ الأجندة المعادية، بحيث تصبح هذه الأنظمة نفسها هي من يقوم بقمع شعوبها، وتجريم المقاومة، ومحاربة أي محاولة للتحرر أو الاستقلال. وهذا ما يفسر الدور الذي لعبته أنظمة عربية في دعم الحروب الأمريكية في المنطقة، وفي قمع الانتفاضات الشعبية، وفي مواجهة حركات المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن وغيرها.

ومن أبرز مظاهر هذه الخيانة المنهجية، قمع الشعوب وتثبيت الاستبداد، فقد استخدمت الأنظمة العربية، خاصة بعد ما يسمى بـ”الربيع العربي”، القمع العنيف لإعادة ترسيخ النظام الاستبدادي، بما في ذلك السجن الجماعي للمعارضين، وتكميم الأفواه، والسيطرة الكاملة على الإعلام، وتأمين المجتمع بالقوة العسكرية والأمنية، تاريخياً، كانت هذه الأنظمة تستخدم قضية فلسطين كوسيلة لإضفاء الشرعية على حكمها وتوجيه الاستياء الشعبي بعيداً عن فشلها وفسادها، لكن بعد الانتفاضات الشعبية، لم تعد هذه الأنظمة بحاجة إلى هذا القناع، مما منحها حرية السعي وراء سياسات غير شعبية بشكل سافر، بما في ذلك التطبيع الكامل مع الكيان الصهيوني.

وقد وصفت بعض الدراسات الأكاديمية هذه القيادات العربية بأنها ”عملاء استعماريون سابقون“ تم توظيفهم من قبل القوى الغربية للسيطرة على النفط والموارد، ويدفعون للسادة الغربيين لحماية قصورهم وليس شعوبهم. وهناك ”فجوة لم تكن أوسع من أي وقت مضى“ بين الحكام العرب وشعوبهم، وهو وضع غير مستدام على المدى الطويل، مما يفسر القلق المتزايد لدى هذه الأنظمة من أي تحرك شعبي أو احتجاج جماهيري.

كما أن هذه الأنظمة لا تكتفي بالخيانة السلبية، بل تمارس خيانة فعّالة من خلال استخدام مواردها الاقتصادية والعسكرية ضد شعوبها وضد قضايا الأمة، فقد قدمت دول عربية دعماً عسكرياً واقتصادياً مباشراً للكيان الإسرائيلي، بما في ذلك اعتراض ضربات محتملة موجهة إليه، وتحويل مسار البضائع لتجاوز أي حصار على الشحن الإسرائيلي، والتنسيق الأمني الوثيق في قمع المقاومة الفلسطينية. فمصر، على سبيل المثال، تقوم بدوريات على حدودها مع غزة بالتنسيق الوثيق مع إسرائيل، بينما تُتهم بعض دول الخليج بتمويل حملات إعلامية مضللة تستهدف المقاومة وتشوه صورتها.

ويحذر السيد عبد الملك في خطابه (الخميس 7-ذو الحجة-1445ه / 13-6-2024م) من خطورة هذا التوجه بقوله:

«ولذلك ليس هناك أي نوايا عدائية من جهتنا تجاه أي بلد عربي، ولكننا لا نقبل أن يتَّجه أي نظام عربي لإلحاق الضرر بشعبنا، خدمةً لإسرائيل، طاعةً لأمريكا، أي موقف سعودي في هذا التوقيت ضد شعبنا، هو- قطعاً، ويقيناً، وبكل وضوح- خدمةً للعدو الإسرائيلي، ومناصرةً له، طاعةً لأمريكا، ونحن نحذر، وليس من مصلحة أحد أن يورِّط نفسه، ويورِّط مصالحه، ويعرِّضها للخطر، خدمةً لإسرائيل، لماذا؟! لماذا؟! ما الذي يدفعكم إلى أن تكون وجهتكم وهمكم هو التودد إلى إسرائيل، مفاوضات، وأخذ ورد، لتتحول مأساة غزة إلى صفقة تطبيع، ثم اتِّجاه عدائي ضد الشعب اليمني لتجويعه، وإلحاق المعاناة به، ومضايقته في لقمة عيشه، في هامش صغير جداً في وضعه الاقتصادي، بعد نهب ثرواته، واحتلال مصادر ثروته النفطية والغازية، وثروته الوطنية والسيادية، ثم الملاحقة له حتى في ذلك الهامش البسيط، لماذا كل هذا التودد للعدو الإسرائيلي؟ هو كما قال الله تعالى في القرآن الكريم: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ}[المائدة:52]، مَرَض، مرض قلوب؛ لأن ما تفعلونه لخدمة العدو الإسرائيلي، والطاعة للأمريكي، لا يدخل في عِداد مصلحة لكم أبداً، مصلحة لشعبكم، أو مصلحة قومية، ولا أي شيء، خدمة تضرُّ بكم، وتسيء إليكم، وتخزيكم، وتنفع العدو الإسرائيلي، لكنها لن تفيدكم شيئاً». هنا يكشف السيد القائد عن حقيقة أساسية: أن الأنظمة المنافقة تتصرف ضد مصالحها الحقيقية ومصالح شعوبها، مدفوعة بـ “مرض القلوب” كما وصفه القرآن الكريم، وهو مرض يتجلى في المسارعة إلى موالاة الأعداء وخدمتهم، حتى لو كان ذلك على حساب المصالح الوطنية والقومية، وهذا ما يفسر السلوك اللامنطقي لهذه الأنظمة التي تضحي بكل شيء من أجل نيل رضا الكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية.

وهنا يمكن القول إن خيانة الأنظمة المنافقة والنخب المتواطئة لشعوبها تمثل أخطر أشكال التهديد الداخلي للأمة العربية والإسلامية. فهذه الأنظمة لا تكتفي بالفشل في حماية شعوبها والدفاع عن مصالحها، بل تتحول إلى أدوات فعّالة في يد الأعداء لقمع أي محاولة للمقاومة أو التحرر. وهذا ما يجعل مواجهة هذه الظاهرة ضرورة حتمية لأي مشروع تحرري حقيقي في المنطقة.

قد يعجبك ايضا