التطبيع المؤجَّل.. كيف مهّد التعاون السعودي ـ الإسرائيلي السري لعلاقات ناعمة تنتظر “الغطاء الفلسطيني”؟
الحقيقة ـ جميل الحاج
بينما تواصل الرياض التمسك العلني بشروط “المبادرة العربية للسلام” وتربط أي علاقة مع (إسرائيل) بقيام دولة فلسطينية مستقلة، تكشف الوقائع المتراكمة عن مسارٍ موازٍ من التعاون السري والمتدرّج بين الجانبين، يمتد لسنوات ويشكّل ما يُعرف بـ“التطبيع الناعم”.
هذا التطبيع الذي بدأ قبل عقود عبر قنوات سياسية وأمنية ودينية واقتصادية، يتواصل اليوم بوتيرة أعلى، لكنه يبقى بعيدًا عن الإعلان الرسمي بانتظار “الغطاء الفلسطيني” الذي يخفّف كلفته السياسية.
جاء تصريح المفاوض الأمريكي السابق آرون ديفيد ميلر لصحيفة فايننشال تايمز ليؤكد هذا الواقع الخفي، حين قال إن ولي العهد السعودي “لم يُلغِ فكرة التطبيع، لكنه غير مستعجل للمضي فيها، لأن التعاون الأمني والاستخباراتي بين السعودية و (إسرائيل) يعمل بكفاءة عالية خلف الكواليس، مقابل ثمن سياسي باهظ لأي خطوة علنية من دون دولة فلسطينية”.
تكشف المعطيات المتعددة أن الرياض تتصرف اليوم بوصفها لاعبًا إقليميًا يسعى إلى تعزيز نفوذه عبر البراغماتية والانفتاح المدروس على (إسرائيل) والولايات المتحدة، بحيث تستفيد من التعاون الأمني والتقني دون تحمّل كلفة الارتباط السياسي المباشر.
على مدى السنوات الماضية، كشفت تقارير غربية عن لقاءات سرية جمعت مسؤولين سعوديين وإسرائيليين، بعضها جرى بوساطات أمريكية، بالإضافة إلى تعاون في مجالات المراقبة الإلكترونية والتكنولوجيا الأمنية، لا سيما في مواجهة “التهديدات الإيرانية”.
وتشير تقديرات إلى استفادة الأجهزة السعودية من برامج تجسس إسرائيلية مثل “بيغاسوس”، ما يعزز المؤشرات على شراكة أمنية متنامية خلف الأبواب المغلقة.
يُجمع مراقبون على أن محمد بن سلمان يتعامل مع ملف التطبيع باعتباره أداة لتحقيق مكاسب استراتيجية من واشنطن، وليس بوصفه التزامًا مبدئيًا تجاه حلف جديد مع (إسرائيل).
ومن بين ما يسعى إليه ولي العهد:
ـ اتفاقية دفاعية وأمنية رسمية مع الولايات المتحدة.
ـ برنامج نووي سلمي بإشراف أمريكي.
ـ صفقات تسليح نوعية تعزز تفوقه الإقليمي.
وفي الوقت نفسه، يوفر التطبيع السري فوائد أمنية كبيرة دون تكلفة شعبية، خصوصًا بعد الغضب العربي العارم من الحرب على غزة.
في الظاهر، تكرر الرياض خطاب “دعم الحقوق الفلسطينية”، لكنها لم تتحرك فعليًا لكبح موجة التطبيع التي قادتها الإمارات والبحرين ضمن “اتفاقيات أبراهام”، وعلى العكس، حافظت على قنوات مفتوحة مع (إسرائيل)، مدعومة بتغطية إعلامية تهيئ تدريجيًا لتغيير المزاج السياسي في الداخل.
أما (إسرائيل)، فالتزمت صمتًا مريحًا، مدركة أن الإعلان العلني عن التعاون قد يحرج الرياض ويفجّر معارضة شعبية واسعة، لذا فضّل الطرفان البقاء في “المنطقة الرمادية”.
يرجع جذور التطبيع السياسي إلى ثمانينيات القرن الماضي، حين عمل السفير السعودي في واشنطن بندر بن سلطان على بناء قنوات اتصال مع القيادات الإسرائيلية، تبعته علاقات تركي الفيصل وأنور عشقي التي شملت لقاءات علنية وسرية في محافل غربية.
ومع صعود محمد بن سلمان، توسّعت اللقاءات والزيارات، بما في ذلك اجتماع نيوم المسرب عام 2020 بين ابن سلمان ونتنياهو، واستقبال وفود إنجيلية مؤيدة للصهيونية، وزيارات سعوديين إلى (إسرائيل) أبرزها زيارة محمد سعود التي أثارت جدلًا واسعًا.
من بين ملامح التطبيع الخفي أيضًا اعتقال السعودية لعدد من قيادات حماس، ودعمها لمسارات التطبيع البحريني والسوداني، إضافة إلى ضغوط اقتصادية مورست على السلطة الفلسطينية لحثها على قبول التطبيع.
استخدمت الرياض أدوات دينية لتليين الرأي العام، من أبرزها نشاطات الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى الذي روّج لـ“حوار الأديان” وشهدت حقبته خطوات غير مسبوقة، منها زيارته معسكر أوشفيتز عام 2020.
كما استقبلت المملكة وفودًا يهودية، أبرزها وفد “الجالية اليهودية الأمريكية–السعودية”، وسمحت بنشاطات الحاخام يعقوب هرتسوغ داخل المملكة، رغم تاريخه المتطرف.
سعت السعودية للحصول على منظومات دفاعية إسرائيلية لتعويض النقص الذي أحدثه سحب واشنطن لبطاريات “باتريوت” و“ثاد”.
كما استعانت بتكنولوجيا “NSO” وبرامج تجسس متطورة، وتعاونت مع شركات أمنية إسرائيلية مثل “G4S” في تنظيم موسم الحج، في مؤشر واضح على توسع الشراكات الأمنية.
فتح الأجواء أمام الطيران الإسرائيلي، ومشاريع التكنولوجيا المتقدمة، وخطط الربط البري والسككي التي تشمل ميناء حيفا، ومشروع كابل الألياف الضوئية الرابط بين تل أبيب والخليج.. كلها ملفات تجعل التطبيع الاقتصادي واقعًا فعليًا.
وتشير تقديرات إلى أن مشروع “الممر الهندي ـ الشرق أوسطي” كان سيُعلن إلى جانب التطبيع قبل أن يعرقله هجوم “طوفان الأقصى”.
أُجريت مراجعات عميقة على المناهج الدراسية السعودية بحذف مصطلحات تربط (إسرائيل) بالعدوان أو الاحتلال، وإلغاء المحتوى المرتبط بالمقاومة.
وفي المجال الفني، أنتجت أعمال إعلامية مشتركة مع جهات إسرائيلية، منها مسلسل “وشوشات من غزة” ومشاريع سينمائية وصحفية.
كما استضافت وسائل الإعلام السعودية مسؤولين إسرائيليين وقدّمت تغطيات تمهّد لتقبّل الجمهور لفكرة التعاون.
في حين شهدت السنوات الأخيرة مشاركة فرق إسرائيلية رسميًا في بطولات أقيمت داخل المملكة ورفع العلم الإسرائيلي، ضمن استراتيجية “الرياضة أولًا” في رؤية 2030.
الحقيقة الثابتة هي أن مسار التطبيع الناعم بين السعودية و(إسرائيل) ليس جديدًا، بل تراكم عبر عقود من التعاون السياسي والأمني والديني والاقتصادي.
وما يجري اليوم ليس تأسيسًا للعلاقة، بل تعميقًا لها بانتظار ظرف سياسي مناسب يُخرجها إلى العلن.
لكن بقاء هذا التعاون في الظل لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، كما أن الرهان على الزمن لتغيير الرأي العام يحمل مخاطر كبيرة، فالتطبيع دون مقابل سياسي حقيقي للفلسطينيين لا يمنح السعودية مكسبًا استراتيجيًا، وقد يضعها في مواجهة رفض عربي وإسلامي عارم، خصوصًا بعد مشاهد غزة التي أعادت مركزية القضية الفلسطينية إلى الواجهة بقوة.
في النهاية، يبقى التطبيع الرسمي مجرد خطوة شكلية لإعلان ما هو قائم أساسًا.. لكن ثمن الإعلان قد يكون أثقل بكثير من كلفة السرية.