المرحلة الثانية في اتفاق غزة… التزام المقاومة يصطدم بمناورة الاحتلال ومظلة الدعم الأمريكي
الحقيقة ـ جميل الحاج
منذ اللحظة التي أُعلن فيها اتفاق وقف إطلاق النار في غزة وفقًا لخطة الرئيس الأمريكي ترامب، بدا جليًا أن المرحلة الأولى لا تتعدّى كونها خطوة تمهيدية لضبط الإيقاع الميداني، فيما تُركت المرحلة الثانية معلّقة في مساحة واسعة من الغموض.
فقد أنجزت المقاومة الفلسطينية كل ما طُلب منها في المرحلة الأولى، من تسليم الأسرى الإسرائيليين الأحياء والتعاون في تسليم الجثامين، وصولًا إلى تثبيت الانسحابات غرب القطاع. لكنّ “إسرائيل” والولايات المتحدة تعاملتا مع الاتفاق بذهنية انتقائية: تنفيذ الفقرات التي تخدم مصالحهما، وعرقلة ما يمكن أن يقيّد حركتهما لاحقًا.
تنصّ المرحلة الثانية على انسحاب شبه كامل من قطاع غزة، بما يشمل المناطق الشمالية والشرقية والجنوبية التي ما تزال تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية، هذه الخطوة هي المعيار الحقيقي لمدى استعداد الاحتلال لإنهاء وجوده العسكري وفتح المجال أمام “مجلس السلام”، الهيئة الدولية المؤقتة، لتولّي مسؤولياتها الأمنية والإدارية.
غير أنّ هذه المرحلة لم تبدأ بعد، ما يطرح سؤالًا مباشرًا: ما الذي تخشاه إسرائيل من الانسحاب؟
الجواب، وفق منطق القوة، يتمثّل في أن الانسحاب يعني نهاية القدرة على فرض الهندسة الجغرافية والاجتماعية التي تعمل عليها “إسرائيل” منذ بدء الحرب، فهو يفتح الباب أمام واقع سياسي وميداني جديد في غزة، ويُنهي مرحلة “إعادة تشكيل القطاع” القائمة على السيطرة على 53% من مساحته خلال المرحلة الأولى. بعبارة أخرى، تريد إسرائيل إتمام عملية تفكيك قدرات المقاومة قبل الانسحاب، بحيث يتحوّل الخروج المستقبلي إن حصل إلى خطوة شكلية بعد تحقيق الهدف الأمني.
بعد إتمام المقاومة تسليم الأسرى الأحياء، ظهر أول سبب للتعطيل: الجثامين، سرعان ما تحوّل الملف إلى “شرط أمني” يبرّر تعليق المرحلة الثانية، وحين بدأ هذا العذر يفقد زخمه، انتقلت “إسرائيل” إلى ذريعة جديدة: “وجود مقاتلي حماس داخل أنفاق رفح”.
هذه الذرائع لا تعكس مخاوف أمنية حقيقية بقدر ما تعكس استراتيجية إسرائيلية ثابتة: إبقاء الاتفاق مفتوحًا على التأويل بحيث يكون أي تفصيل قابلًا للاستخدام لتبرير استمرار الاحتلال.
أحد أخطر نتائج المماطلة الإسرائيلية هو تثبيت ما بات يُعرف بـ“الخط الأصفر”، الفاصل بين المناطق التي تُدار فلسطينيًا وتلك التي تبقى تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية، هذا الخط المؤقت يتحوّل تدريجيًا إلى واقع دائم، على نحو مشابه لما حصل في مناطق “ج” في الضفة الغربية.
ويبدو أن “إسرائيل” تعمل على إعادة تشكيل مناطق سيطرتها أمنيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، بما يتيح لها لاحقًا تبرير فصل دائم يمنحها القدرة على إدارة غزة عن بعد دون تحمّل أعباء الاحتلال المباشر.
تقدّم الولايات المتحدة نفسها كـ“الضامن”، لكنها تؤدي فعليًا دورًا حاسمًا في تعطيل المرحلة الثانية.. فخطة ترامب، بصيغتها الفضفاضة وصلاحيات “مجلس السلام” غير الواضحة، صُمّمت بصورة تتيح لواشنطن إدارة المرحلة الانتقالية فعليًا، بما ينسجم مع مصالحها الإقليمية والأمنية.
وتشير تسريبات إعلامية إلى بحث واشنطن إنشاء قواعد عسكرية شرق غزة مرتبطة بغرفة العمليات في كريات جات، ما يعني أنّ الانسحاب الإسرائيلي – إن تم – سيظل شكليًا طالما أن البنية الأمنية ستبقى تحت يُسر الإدارة الأمريكية.
تدرك واشنطن وتل أبيب أن الانتقال إلى المرحلة الثانية يمنح الفلسطينيين مكسبًا كبيرًا: إنهاء الاحتلال عن معظم القطاع وفتح باب إعادة الإعمار وعودة النازحين، لذلك، تستمر الضغوط المتدرجة التي تهدف إلى انتزاع تنازلات من المقاومة:
ـ التحكم في فتح وإغلاق المعابر.
ـ إدخال المساعدات بسياسة “التقطير”.
ـ منع أي خطوات فعليّة لعودة النازحين.
ـ استخدام الوقت لتليين الموقف الفلسطيني من الملفات الكبرى مثل نزع السلاح وإعادة هيكلة الإدارة.
بهذه الاستراتيجية، يتحوّل الاتفاق إلى أداة ضغط بدلاً من أن يكون إطارًا لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي.
تكشف المرحلة الثانية جوهر المعركة السياسية الدائرة: هل الهدف هو تثبيت وقف إطلاق النار، أم إعادة صياغة غزة بما يخدم مصالح الاحتلال؟
حتى اللحظة، لا تُظهر واشنطن وتل أبيب رغبة حقيقية في الانتقال إلى المرحلة الثانية، بينما تلتزم المقاومة بما وقّعت عليه، الأمر الذي تحاول “إسرائيل” توظيفه لإملاء شروط جديدة.
لكن الحقيقة تبقى أن المرحلة الثانية ضرورة فلسطينية عاجلة، فهي السبيل الوحيد لبدء إعادة الإعمار، وعودة النازحين، وتفكيك الهيمنة العسكرية على القطاع، وكل يوم تأخير ليس إلا محاولة جديدة لتحويل المؤقت إلى دائم، والاتفاق إلى أداة إدارة وضبط، بدل أن يكون خطوة نحو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي بالكامل.