الصراع العربي الإسرائيلي: قراءة شمولية في جذور المواجهة واستراتيجيات التفكيك والحرب على الوعي

ـ ميادين الصراع في رؤية الشهيد القائد: مواجهة شاملة لا تستثني مجالاً

ـ معركة الأمة مع الكيان: قراءة شمولية في الجذور والمآلات وميادين المواجهة

ـ من الميدان إلى الوعي: رؤية شاملة لطبيعة الصراع مع الكيان الصهيوني

الحقيقة ـ جميل الحاج

يُعدّ الصراع العربيّ ـ الإسرائيلي واحدًا من أطول النزاعات المعاصرة وأكثرها تعقيدًا، إذ تمتد جذوره إلى نهايات القرن التاسع عشر، قبل أن يتفجّر بصورة أكبر مع قيام الكيان الصهيوني عام 1948.

لم يكن هذا الصراع مجرد اشتباك حدودي أو حادثة عابرة، بل هو صراع شامل متعدد الأبعاد، يمتزج فيه السياسي بالعسكري، ويتداخل فيه الاقتصادي مع الثقافي والديني، في منظومة واحدة تحتاج إلى قراءة متكاملة لفهمها.

ويتميز الصراع العربي ـ الإسرائيلي عن غيره من الصراعات بأنه يشمل مختلف الجوانب الاستراتيجية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية وغيرها، هذا فضلا عن الاستخدام المكثف من قبل العقيدة الصهيونية للأساطير والمزاعم الدينية المؤسسة على التفسير المحرف واختلاق وقائع دينية من التوراة والتلمود وغيرهما من التفسيرات الدينية المحرفة التي مزجها قادة المشروع الصهيوني مع العقيدة الأيديولوجية العلمانية لهذا المشروع ومقولاتها الرئيسية.

إن إدراك هذا البعد الشمولي هو مفتاح فهم استراتيجيات العدو الإسرائيلي وآليات عمله بين الحروب المباشرة والحروب الرمادية، بين السيطرة العسكرية والهيمنة الناعمة على الوعي.

 ميادين الصراع في رؤية الشهيد القائد: مواجهة شاملة لا تستثني مجالًا

قراءة قرآنية في طبيعة الحرب مع أهل الكتاب 

تطرّق الشهيد القائد حسين بدرالدين الحوثي رضوان الله عليه في الدرس الأول من سورة المائدة إلى طبيعة المواجهة القائمة مع أهل الكتاب، مستندًا إلى قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ}. وأكد أن الصراع مع اليهود ليس محدودًا بجانبٍ عسكري أو سياسي، بل يشمل الاقتصاد والثقافة والإعلام، ويتطلب وعيًا إيمانيًا يوجه المؤمنين ليكونوا في موقع المبادرة بدلًا من موقع التلقي والدفاع.

وبين الشهيد القائد أن الغاية الكبرى للعدو هي أن يدفع الشعوب العربية نحو التخلي عن هويتهم الدينية، وأن يقودهم لطاعته حتى يصبحوا ظالمين مثلما أصبح هو ظالمًا في معصيتهم لتوجيهات الله خلال القرون الماضية، وهذه هي أخطر صور الاختراق التي تستوجب الصمود والوعي والمواجهة.

 الاستراتيجية الصهيونية: تفكيك الدول كوسيلة بقاء

منذ عقود طويلة بنى المشروع الصهيوني رؤيته الاستراتيجية على قاعدة رئيسية تتمثل في تفكيك البنى القومية للدول العربية والإسلامية المحيطة، كانت هذه الرؤية جزءًا من وثائق ودراسات وُضعت منذ ثمانينيات القرن الماضي، تؤكد أن أمن “إسرائيل” طويل الأمد يتحقق فقط عبر محيطٍ ضعيف ممزق يفتقد لوحدة دينية وسياسية أو عسكرية.

وبحسب هذه الرؤية، فإن تحويل الدول العربية إلى دويلات طائفية وعرقية صغيرة، وإغراقها في الصراعات الداخلية، هو السبيل لحماية الكيان الصهيوني من خطر التكتل العربي الموحد، ومن هنا جاءت سياسات التدخل، الدعم غير المباشر، وتمويل المجموعات المسلحة، واستغلال الانقسامات الداخلية في عدد من دولة عربية.

واليوم وفى قلب المشهد الإقليمي المتصدع تبرز استراتيجية الإسرائيلية كإطار محكم لإدارة بيئة التهديد المتعددة حول حدود الدولة العبرية المزعومة، هذه الاستراتيجية ليست مجرد امتداد لعقيدة الأطراف التقليدية التي حكمت تفكير النخبة الأمنية الإسرائيلية منذ منتصف القرن العشرين، بل هي تحول نوعى في منهجية الصراع، حيث لا تواجه الجبهات كوحدات صلبة متماسكة، بل تُعاد هندستها كنقاط ضعف متناثرة قابلة للتفجير أو التجميد حسب مقتضيات المصلحة الإسرائيلية.

من فلسطين إلى لبنان، ومن سوريا إلى العراق واليمن، وصولا إلى عمق إيران، تتحرك إسرائيل وفق رؤية تستند إلى تفكيك بُنى التهديد إلى مكونات معزولة، تُدار كل واحدة بمعادلة ضغط مختلفة. تُبنى عقيدة الطوق المتشظى على قاعدة نظرية مستمدة من مفاهيم الأمن الوقائي، إدارة النزاع منخفض الشدة، وحرب المناطق الرمادية، حيث لا تُدار المواجهة من خلال الحسم العسكري المباشر أو الردع التقليدي فقط، بل عبر تفكيك بيئة التهديد إلى جبهات مشظاه قابلة للإدارة والسيطرة دون الانزلاق إلى صراع شامل.

 التكفيريون كأداة أميركية إسرائيلية

تستخدم أمريكا دولا وكيانات وتنظيمات للعمل على اشغال الأمتين العربية والإسلامية، وادخالها في صراعات داخلية بعيدا عن العدو الحقيقي المتمثل في الكيان الصهيوني، ونذكر منها استخدام أمريكا للتنظيمات التكفيرية لحماية المصالح الأمريكية والأهداف الصهيونية من خلال تغذية الفتن الطائفية وحرف الناس عن  الجهاد القرآني.

هذا ومثلت أحداث غزة المأساوية فضيحة كبرى للتنظيمات التكفيرية والوهابية وعملائهم في معركة طوفان الأقصى بتخليهم عن المسلمين في غزة  وتواطؤهم مع الكيان الصهيوني المجرم .

وكان السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي ـ يحفظه الله ـ قد كشف في خطابه بمناسبة عاشوراء 1436هـ : عن الأداة الأخطر التي استخدمها الأعداء في تنفيذ مخططات التفكيك، وهي الجماعات التكفيرية.

ووصف هذه الجماعات بأنها أداة قذرة اعتمد عليها الأمريكي والإسرائيلي لضرب الأمة من الداخل، عبر القتل والدمار، وإغراق الشعوب في الفتن والصراعات.

وأكد أن هذه الجماعات نفّذت المهمة المطلوبة منها بوحشية هائلة، من قتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتخريب الأمن والاستقرار في البلدان التي دخلتها، وأنها كانت ولا تزال عنصرًا أساسيًا في مشروع التفكيك.

 جذور الفتن ليست عفوية

في خطابه حول المستجدات والقدرات العسكرية عام 1438هـ أوضح السيد القائد أن الحروب والفتن التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الماضية ليست نتيجة أحداث طارئة، بل هي جزء من مشروع كبير تقوده أمريكا و(إسرائيل) للسيطرة على المنطقة وتدمير دولها وتمزيق شعوبها.

وهو مشروع يقوم على خلق أدوات داخلية تتولى تنفيذ المهام، سواء في شكل حكومات أو جماعات أو تنظيمات.

وفي هذا السياق، يصبح تدمير أي دولة، أو إسقاط أي نظام، أو تمزيق أي نسيج اجتماعي، خطوة متقدمة في سياق تحقيق الهيمنة، وليس مجرد حدث منفصل عن سلسلة طويلة من التحركات الاستراتيجية.

الحرب على الوعي: من ميدان الاشتباك إلى ميدان الإدراك

تعيش الأمة الإسلامية اليوم مواجهة غير مسبوقة تتجاوز حدود الميدان العسكري إلى عمق الوعي والفكر والقيم، فالمعركة لم تعد فقط على الأرض، بل على الإنسان ذاته: على معتقده، هويته، ولائه، ومبادئه التي تشكل جوهر انتمائه الديني.

العدو الإسرائيلي لم يعد يركز فقط على السيطرة العسكرية، بل طور استراتيجيات ترتكز على اختراق وعي الأمة، عبر الإعلام، والتعليم، والمحتوى الثقافي، ومنظمات المجتمع المدني، وحتى الترفيه، إن الهدف هو إعادة تعريف الهوية الدينية والوطنية بصورة تُفقد الأمة قدرتها على مقاومة المشروع للهيمنة والاحتلال.

وهو ما أكدة السيد القائد في خطابة بمناسبة يوم القدس 1439هـ أن مشكلة الأمة الأساسية اليوم هي ضبابية الرؤية وشدة التضليل والتشويش، وأن الولايات المتحدة تمثل الأب والأم للمشروع الإسرائيلي وتوفر له جميع أشكال الدعم. كما أشار إلى أن الأنظمة العربية تُدفع دفعًا نحو مواقف تخدم العدو، بينما يتم تدجين الشعوب وإبعادها عن القضية المركزية.

وأشار أيضًا إلى أن معركة اليوم هي معركة وعي قبل أن تكون معركة سلاح، وأن الأعداء يبذلون جهودًا ضخمة لمنع الأمة من امتلاك الفهم الصحيح لطبيعة الصراع.

إعادة تشكيل الوعي عبر فوضى المفاهيم

يعتمد العدو على استراتيجية الإلهاء التي تغرق الشعوب في موضوعات ثانوية استهلاكية، تستهلك الوقت والطاقات. كما ينتهج سياسة خلق المشكلات وبيع الحلول التي تقيد الحريات تدريجيًا.

ومع التلاعب بالمصطلحات مثل الاعتدال، السلام، الحقوق، يتم تدوير المفاهيم بحيث يصبح الوعي الجمعي هشًا قابلًا للاختراق.

وبالتوازي مع ذلك، تقوم منظومات رقمية متقدمة بجمع البيانات وتحليلها، وتصميم حملات تستهدف كل فئة بأسلوبها لجرّها إلى مواقف سياسية واجتماعية معدّة مسبقًا.

ويرى العدو الإسرائيلي أن الدين الإسلامي هو أكبر عائق أمام مشروع السيطرة، لأنه يمنح الأمة وعيًا وكرامة ورفضًا للهيمنة، لذلك تتجه الاستراتيجيات نحو تشويه القيم الدينية ونشر الإلحاد والانحلال الأخلاقي وتقديمهما كرموز للتحضر.

تظهر هذه السياسات بشكل واضح في بعض الدول العربية، لا سيما في السعودية التي تحوّلت فيها المواسم الترفيهية إلى نشوء بيئات انحلال تبتعد عن القيم الإسلامية، وقبل ذلك عمل العدو على إنتاج فني في مصر وغيرها يسعى لضرب الأخلاق العامة.

كما أن من أخطر أدوات الاختراق قيام بعض الأنظمة بتغيير المناهج الدراسية وحذف الآيات المتعلقة بالصراع مع أهل الكتاب، وتقليص المحتوى الديني، بجانب توجيه الإعلام لصناعة وعي استهلاكي منفصل عن الهوية.

كما تسعى قوى الطاغوت إلى إغراق الدول بالديون وجعل اقتصاداتها مرتبطة بالمؤسسات الدولية، بما يضعف قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة، إن تقييد المجال الاقتصادي يجعل الدولة أكثر هشاشة أمام الضغوط الخارجية ويقلص قدرتها على بناء دفاعات وطنية مستقلة.

 تزييف البوصلة: تحويل العدو إلى خصوم داخليين

من أخطر ما يُمارس اليوم تحويل الصراع من اتجاهه الصحيح نحو العدو الحقيقي، إلى معارك داخلية بين الطوائف والمذاهب والقبائل. بهذه الطريقة تتحول جهود الأمة من الدفاع عن أرضها وقضيتها إلى اقتتال داخلي يستهلك طاقاتها.

لقد استُخدمت حجة “الحرب على الإرهاب” لإعادة تشكيل المنطقة، وجرّها نحو صراعات تُسهّل التواجد العسكري الأمريكي والإسرائيلي، فيما يبقى الاحتلال الإسرائيلي ينفذ أجندته بأمان.

وعلى الرغم من كل أشكال الاستهداف، يبقى أخطر ما يخشاه العدو الإسرائيلي هو يقظة الأمة وعودتها إلى قيمها الأصيلة، تكمن قوة الأمة في هويتها الدينية والأخلاقية، وفي قدرتها على استنهاض الوعي الجمعي نحو التحرر، ولهذا يعمل العدو باستمرار على تفكيك هذه العودة وتشويهها.

 مواجهة شاملة تحتاج إلى استراتيجية شاملة

إذا أرادت الأمة أن تقرأ صراعها مع العدو الإسرائيلي بصورة صحيحة، فعليها أن تُعيد رسم معاركها وفق رؤية شمولية تدرك أن المواجهة ليست عسكرية فقط، بل فكرية واقتصادية وتربوية وثقافية.

وتحتاج الأمة إلى مشروع نهوض يعيد بناء الوعي، ويحصّن الهوية، ويحرر القرار السياسي والاقتصادي من الهيمنة، إن إدراك آليات عمل العدو الإسرائيلي وتفكيك خطابه واستراتيجياته هو الخطوة الأولى لاستعادة القدرة على الدفاع عن الذات وصناعة المستقبل.

قد يعجبك ايضا