الصفقة التي لم يُعلن نصفها: كيف أجبر ترامب نتنياهو على التراجع؟
في السياسة، كما في الحروب، ليست الهزيمة هي ما يُقال، بل ما يُخفى. فبعد عامين من حرب الإبادة في غزة، خرج اتفاق “وقف النار” إلى العلن، لكنه ليس سوى نصف القصة. النصف الآخر، المسكوت عنه، هو كيف انكسرت “إسرائيل” تحت ثقل عزلتها، وكيف اضطرّ دونالد ترامب، على طريقته الفجة والبراغماتية، إلى فرض ما يشبه “الاستسلام السياسي” على بنيامين نتنياهو، ليوقف حربًا لم يعد أحدٌ في العالم مستعدًّا لتبريرها.
الاتفاق الذي سُمِّي “اتفاق شرم الشيخ”، بوساطة مصرية–قطرية–تركية وبرعاية أميركية، يبدو في ظاهره صفقة تبادل أسرى ووقفًا مؤقتًا للنار. لكن وراء كل بند فيه يكمن انقلاب في ميزان القوة السياسي والأخلاقي. فحماس، التي صمدت لعامين كاملين تحت القصف والمجاعة، لم تُجرد من سلاحها، ولم تُرحَّل، ولم تُستبدل بسلطة جديدة. بقيت هي الحاكمة الفعلية لغزة. بينما خسر نتنياهو ما كان يراه “الهدف المقدس”: نزع سلاح المقاومة وتغيير المعادلة الأمنية.
الصفقة التي خرجت إلى العلن تعطي “إسرائيل” 20 أسيرًا “إسرائيليًا” مقابل 2000 أسير فلسطيني، بينهم 250 من أصحاب المؤبدات، في مقدمتهم مروان البرغوثي وأحمد سعدات وعبد الله البرغوثي وإبراهيم حامد وعباس السيد. هذا وحده انقلاب رمزي هائل. فإطلاق هؤلاء يعني إعادة الروح إلى المشروع الوطني الفلسطيني الذي حاولت “إسرائيل” تفريغه طوال عقدين. أما على المستوى السياسي، فالمفارقة أن ما قبلت به “إسرائيل” اليوم كان مطروحًا منذ نوفمبر 2023، لكنها رفضته وأصرت على الحسم العسكري، لتكتشف بعد عامين أنها لم تحسم إلا عزلتها.
بين نتنياهو وترامب: الصفقة كاستسلام مشروط
لم يكن قرار وقف الحرب “إسرائيليًّا” خالصًا. فكل المؤشرات الدبلوماسية تشير إلى ضغوط غير مسبوقة مارستها إدارة ترامب الثانية، التي دخلت البيت الأبيض هذه المرة بوعي مختلف للشرق الأوسط. ترامب الذي لطالما قيل إنه صديق “إسرائيل” الأول، اكتشف متأخرًا أن هذا الصديق يورطه في أبشع صور الجرائم ضد الإنسانية، وأن صور الأطفال المقتولين في غزة باتت تُشعل الميادين الأوروبية والأميركية ضده شخصيًا.
مصادر قريبة من دوائر البيت الأبيض تحدثت عن “توتر شديد” بين ترامب ونتنياهو بعد محاولة اغتيال قادة حماس في الدوحة، إذ اعتبر ترامب أن نتنياهو “يتصرف كقائد مهووس يريد جرّ واشنطن إلى مستنقع دائم”. في أحد الاجتماعات، وفق تسريبات صحفية، قال ترامب بحدة: “أنا لا أريد أن أكون شريكًا في محرقة، أوقفوا هذه الحرب الآن.”
هذه ليست لغة إنسانية مفاجئة من رجل مثل ترامب، بل لغة حسابية باردة. كان يدرك أن استمرار الحرب يهدد صورته عالميًا، وأن الناخب الأميركي الشاب بدأ يرى في “إسرائيل” دولة فصل عنصري، كما أظهرت استطلاعات “بيو” التي أكدت أن أكثر من 60% من الشباب في الولايات المتحدة ينظرون إلى “إسرائيل” بسلبية. وخصوصًا أن ترامب يسعى للحصول على جائزة نوبل للسلام.
من هنا، جاء الضغط المباشر: اتفاق بأي ثمن، ولو كان على حساب هيبة تل أبيب. رفض نتنياهو في البداية، ثم اضطر للقبول بعدما لوّح فريق ترامب بتجميد الدعم العسكري وإيقاف شحنات الذخيرة المخصصة لغزة. وبهذا المعنى، فإن وقف الحرب لم يكن ثمرة “تفاهمات إنسانية”، بل نتاج “إكراه سياسي” أميركي، فرض على إسرائيل أن تتراجع تحت السوط الأميركي لا الرحمة الدولية.
“إسرائيل” المنبوذة: حين انقلب العالم على الجلاد
حين صعد نتنياهو إلى منصة الأمم المتحدة قبل أسابيع، كانت القاعة خالية. تلك الصورة تختصر كل شيء. “إسرائيل” التي اعتادت أن تملي خطابها الأخلاقي على العالم، وجدت نفسها في عزلة غير مسبوقة. أوروبا التي كانت تتذرع بـ”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، باتت تتحدث علنًا عن جرائم حرب، و28 دولة غربية طالبت بوقف الإبادة. حتى في واشنطن، بدأ أعضاء كونغرس من الحزب الديمقراطي يطالبون بوقف الدعم العسكري.
في الإعلام، تحولت لغة التبرير إلى لغة الإدانة. المجلات الغربية الكبرى، من “Politico” إلى “Foreign Policy”، وصفت “إسرائيل” بأنها “دولة فقدت بوصلتها الأخلاقية”، وأنها تحولت إلى عبء على التحالف الغربي. أما الأكاديمي “الإسرائيلي” نمرود غورين، فقد قال صراحة: “إسرائيل اليوم دولة منبوذة، والعالم لا يريد أن يسمع عنها”.
التحول لم يكن سياسيًا فقط، بل ثقافيًا أيضًا. جامعات أوروبية وأميركية شهدت أوسع حركة مقاطعة في تاريخها ضد المؤسسات “الإسرائيلية”. الفنانون والرياضيون والمثقفون انخرطوا في حملات تضامن مع غزة، لدرجة أن مجلة “تايم” وصفتها بأنها “أول انتفاضة عالمية ضد الكولونيالية الغربية منذ حرب فيتنام”. هذه اللحظة الأخلاقية – التي فشلت “إسرائيل” في إيقافها – جعلت استمرار الحرب عبئًا على حلفائها قبل أن يكون عبئًا عليها.
حماس: من العزلة إلى مركز الشرعية الأخلاقية
في المقابل، استطاعت حماس – رغم الدمار الهائل – أن تفرض سرديتها على الوعي العالمي. فقد أعادت تعريف المقاومة لا بوصفها “إرهابًا”، بل “ضرورةً أخلاقية في مواجهة نظام فصل عنصري”. أصبح خطابها في الغرب امتدادًا لحركات التحرر من الاستعمار، كما حدث مع فيتنام وجنوب إفريقيا.
لقد فشلت “إسرائيل” في تحقيق أي من أهدافها العسكرية: لم تُنهِ حكم حماس، لم تُحرّر الأسرى بالقوة، ولم تستطع السيطرة الكاملة على القطاع. والأسوأ أنها منحت خصمها فرصة ليظهر في موقع “المنتصر الأخلاقي”، وهو ما تخشاه تل أبيب أكثر من الخسارة العسكرية.
فالنتيجة النهائية أن من صمد لعامين تحت الحصار والنار، خرج يحتفظ بسلاحه وأرضه وشرعيته، بينما من شنّ حرب الإبادة خرج مهزومًا سياسيًا، متورطًا جنائيًا، ومعزولًا أخلاقيًا.
البند الرابع والخشية من السيناريو اللبناني
رغم أن الاتفاق يتضمن وقف الحرب الكامل، وجدولة انسحاب “الجيش الإسرائيلي”، وإطلاق سراح الأسرى، إلا أن هناك جملة مثيرة للقلق: “لن يعود الجيش الإسرائيلي إلى المناطق التي انسحب منها طالما نفذت حماس الاتفاق بالكامل”.
هذه الجملة تبدو ظاهريًا ضمانة، لكنها في نظر كثيرين تحمل فخًا مشابها لما حصل في لبنان بعد اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان 2024، حين استخدمت “إسرائيل” ذرائع أمنية لاستئناف الاعتداءات متى شاءت. الخشية أن تتحول “شروط التنفيذ” إلى ذريعة دائمة للعدوان، وأن يستنسخ الاحتلال نموذج “التهدئة المشروطة” بدل الانسحاب الكامل.
ومع ذلك، فإن وجود أربع دول ضامنة – بينها تركيا والولايات المتحدة – يقلل من احتمالات الغدر الكامل، خصوصًا في ظل رغبة ترامب في تقديم نفسه كـ”صانع سلام تاريخي” في الشرق الأوسط، وهي الورقة التي يلوّح بها استعدادًا لحملته الانتخابية المقبلة.
غزة بعد الحرب: من الركام إلى المعنى
لقد خاضت غزة حربًا غير متكافئة، لا فقط عسكريًا بل وجوديًا. لكنها خرجت اليوم من تحت الركام تحمل ما هو أثمن من النصر العسكري: الاعتراف بوجودها. حماس لم تُهزم، وسلاحها لم يُنزع، والشعب لم يُهجّر. في عرف الحروب الكولونيالية، هذا وحده كافٍ ليُكتب أنه نصر.
فـ”إسرائيل”، التي أرادت أن “تمحو غزة”، وجدت نفسها مضطرة للتفاوض معها والاعتراف بها طرفًا سياسيًا كاملًا. هذه هي المفارقة الكبرى التي لا يستطيع نتنياهو تبريرها لشعبه. ولهذا سيحاول أن يقدّم الاتفاق بوصفه “مرحلة انتقالية”، لكن العالم يعرف الآن أن النهاية قد كُتبت: لم تعد “إسرائيل” القوة التي لا تُقهر، ولا حماس التنظيم الذي يمكن محوه.
ترامب في الدور الذي لم يتوقعه أحد
ربما أكثر ما يثير المفارقة أن دونالد ترامب، الذي كان في ولايته الأولى أحد أعمدة التطبيع والتواطؤ مع الاحتلال، يجد نفسه اليوم في موقع “الضامن” لوقف الحرب. ليس لأنه تغيّر أخلاقيًا، بل لأن بنية النظام الدولي تغيّرت من حوله. الصين وروسيا وتركيا وإيران كلها كانت مستعدة لملء الفراغ، فيما أوروبا تغلي تحت ضغط الشارع. لم يعد ممكنًا أن تبقى واشنطن في موقع المتفرج. فاضطر ترامب إلى أن يمسك العصا من النصف: أن يوقف الحرب، ويحافظ في الوقت نفسه على علاقته بـ”إسرائيل”، ولكن بشروطه هو لا بشروط نتنياهو.
إنها لحظة نادرة في التاريخ “الأميركي-الإسرائيلي”: أن يُجبر رئيس أميركي حكومة “إسرائيلية” على التراجع عن حرب، لا لأن ضميره استيقظ، بل لأن كلفة التحالف أصبحت أعلى من كلفة التراجع. وهنا يكمن جوهر الصفقة التي لم يُعلن نصفها.
في النهاية، الصفقة التي لم يُعلن نصفها ليست مجرد تسوية إنسانية، بل علامة على تبدّلٍ تاريخي في موازين القوة. إنه نقطة تحوّل في التاريخ السياسي للمنطقة. لقد انكسرت هيبة الاحتلال، وسقطت دعايته الأخلاقية، وبرزت المقاومة الفلسطينية باعتبارها الفاعل الأكثر صدقية في معادلة القوة الجديدة. ومع أن الاحتلال لم يسقط بعد، إلا أن بنيانه الأيديولوجي بدأ يتهدّم من الداخل. وما أجبر نتنياهو على التراجع اليوم، قد يجبر “إسرائيل” غدًا على ما هو أبعد من التراجع: الاعتراف بأن زمن التفوق المطلق قد انتهى إلى الأبد.
الكاتب:
د.محمد الأيوبي
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق