الصين في البحر الأحمر: الحياد المنحاز
توظّف الصين أزمة البحر الأحمر لتعزيز نفوذها الاقتصادي والجيوسياسي، مستفيدة من علاقتها بإيران و«أنصار الله»، مع الحفاظ على حياد ظاهر يقيها مواجهة مباشرة مع واشنطن.
مع تصاعُد أزمة الملاحة في البحر الأحمر، تواصل الصين رسم خيوط دقيقة تَجمع بين مصالحها الاقتصادية وعلاقاتها بدول الخليج، إلى جانب رغبتها في تقويض الهيمنة الأميركية على النظام العالمي. وفي ظلّ اتهام واشنطن، بكين، بتقديم دعم مادي إلى حركة «أنصار الله»، جاءت مقابلة القائم بالأعمال الصيني في اليمن، شاو تشنغ (صحيفة «الشرق الأوسط»)، لتُظهر محاولة لـ«احتواء» أيّ توتّر محتمل مع الرياض؛ إذ نفى الديبلوماسي أيّ علاقة لبلاده بشحنة الطائرات المسيّرة التي ضُبطت في عدن، مؤكّداً للصحيفة التزام بلاده الصارم برقابة الصادرات ذات الاستخدام المزدوج، كما أشار إلى التواصل المستمرّ مع السفير السعودي لدى اليمن، محمد آل جابر.
ويبدو أنّ إشادة شاو بالدور «البنّاء» للمملكة في عملية السلام، لم تكن مجرّد مجاملة ديبلوماسية، بل رسالة واضحة بأنّ بكين لا تسعى إلى منافسة الرياض على النفوذ في اليمن. وكشف القائم بالأعمال عن استعداد شركات صينية للعمل في مشاريع كهرباء في هذا البلد، بالتعاون مع السعودية أو تحت رعايتها، في رسالة اقتصادية مزدوجة تدلّ على أنّ الصين ليست مجرّد لاعب سياسي، بل شريك تنموي قادر على تعزيز الدور السعودي.
وجاءت هذه الرسائل في إطار قراءة أوسع للسياسة الصينية في البحر الأحمر واليمن، حيث ترى بكين أنّ هذا البلد يشكّل جزءاً من مسرح أوسع لتحدّي النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة. أمّا السياسة التي تتّبعها حياله، فتقتضي الحفاظ على حياد ظاهري، مع الاستفادة، في الوقت ذاته، من أيّ إخفاق أميركي في فرض «النظام القائم على القواعد»، وأيضاً من استمرار التورّط العسكري الأميركي في الشرق الأوسط، بما في ذلك حماية الملاحة في البحر الأحمر، باعتباره يُشتّت تركيز واشنطن عن جبهات حسّاسة بالنسبة إلى بكين، من مثل بحر الصين الجنوبي وتايوان.
وهكذا، تبدو الصين، التي لطالما قدّمت نفسها كقوّة تجارية سلميّة لا تتدخّل مباشرة في النزاعات، مستفيدةً من المعادلة التي فرضها اليمن في البحر الأحمر. ففي حين دفعت التوترات شركات الشحن العالمية إلى تغيير مساراتها حول رأس الرجاء الصالح، استمرّت السفن الصينية، المحمّلة بالسيارات والبضائع، في عبور الممرّات البحرية بأمان، ما أثار تساؤلات حول طبيعة العلاقة بين بكين وصنعاء.
وفي الغرب، يُنظر إلى هذا «الاستثناء الصيني» على أنه نتيجة شبكة مصالح وتحالفات غير معلنة، لا سيّما مع إيران، الحليف الإستراتيجي لليمن؛ إذ يمنح التقارب الصيني – الإيراني، الذي تُرجم اتفاقات تجارية واستثمارية بمليارات الدولارات، بكين، نفوذاً غير مباشر في مناطق النزاع، بما في ذلك اليمن. ورغم عدم اعتراف الصين بأيّ وساطة أو تفاهم رسمي مع صنعاء، فإنّ الوقائع تشير إلى أنّ سفنها تحظى بحماية فعلية من الهجمات، في ما يوحي بوجود تفاهمات خلف الكواليس.
وتحقّق هذه الإستراتيجية مكاسب مزدوجة لبكين؛ فمن جهة، تضمن لشركاتها سرعة وصول البضائع إلى الأسواق الأوروبية وخفض تكاليف الشحن مقارنة بمنافسيها اليابانيين والكوريين ومن جهة أخرى، تعزّز صورتها كقوّة صاعدة قادرة على حماية مصالحها في مناطق النزاع من دون الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة، على عكس النهج الأميركي التقليدي. ومع ذلك، تواجه الصين انتقادات غربية تتّهمها باستغلال الأزمة لتعزيز حصّتها في الأسواق والتغاضي عن أنشطة «أنصار الله» التي تهدّد أمن الملاحة الدولية.
وأشارت تقارير مراكز أبحاث أميركية، في هذا السياق، إلى أنّ بكين «تلعب لعبة مزدوجة»، فهي تدعو إلى التهدئة وضمان حرّية الملاحة وفي الوقت نفسه تحقّق مكاسب اقتصادية وجيوسياسية من استمرار التوتّر، مع استمرار الولايات المتحدة وحلفائها في مهمّة مكلفة لإعادة الأمن البحري.
وتمثّل علاقة الصين باليمن، سواء كانت مباشرة أو عبر إيران، نموذجاً لِما يسمّيه المحلّلون «القوّة بالوكالة»، أي استثمار نفوذ طرف محلّي لتحقيق أهداف إستراتيجية واقتصادية من دون الانخراط في الصراع علناً. وإذا استمرّ الوضع على هذا النحو، فقد يتحوّل البحر الأحمر إلى مسرح يعزّز النفوذ الصيني طويل الأمد، على حساب التوازنات التقليدية التي حكمت أمن المنطقة لعقود. وقد منحت هذه الإستراتيجية، بكين ميزة تنافسية ضخمة، إذ تصدّر شركات مثل «BYD» و«SAIC Motor» آلاف المركبات الكهربائية والهجينة إلى أوروبا عبر رحلات مختصرة توفّر 14 إلى 18 يوماً من الإبحار، مع تقليل تكاليف الوقود والتأمين.
ووفقاً لمركز «هنري ل. ستيمسون»، فإنّ الصين قدّمت بشكل غير مباشر تقنيّات مزدوجة الاستخدام لحركة «أنصار الله»، من مثل صور الأقمار الاصطناعية ومكوّنات للطائرات المسيّرة، ما يعقّد مهمّة الولايات المتحدة في حماية الممرّات البحرية. في المقابل، تلتزم بكين بخطاب ديبلوماسي حذر؛ فهي لا تدين الحركة صراحة، لكنها تضمن حماية مصالحها الاقتصادية.
لقمان عبد الله الخميس 14 آب 2025