الغدرُ والغَدير! بقلم / مصباح الهمداني

الغدرُ والغَدير! بقلم / مصباح الهمداني
————-
كثيرًا ما أسألُ نفسي في لحظاتِ الخُلوة: هل أنا صادق مع الله ومع نفسي ومع الناس؟ هل وصلت إلى امتلاك الشجاعة الكاملة في قول الحق، حتى لو أدى ذلك إلى الموت؟ هل أُخادِعَ نفسي وأغشها؟ هل أنا مؤمن حقًا أم مُنافقٌ عليم اللسان؟ كل هذه الأسئلة تتصارع في عقلي بين رُكامٍ من الذنوب والتقصير، وأمواجٍ من التوبةِ، وبحرٍ من الدموع.
وتأتي ذكرى الغدير كفاصلة تاريخية ومحطة اختبارية يُمكِن للمرء أمامها أن يضل أو يستنير، والسؤال الذي يُكرره الموالفُ والخالف:
لماذا الغدير؟
لماذا علي؟
لماذا التركيز على هذا الشخص؟ لماذا لا يتم الحديث عن أبي بكر أو عمر أو غيرهما من الصحابة؟ وتتسلسل الأسئلة المؤيدة لإقامة المناسبة أو الرافضة لها، وقد وصلتُ لقناعة كبيرة من خلال القراءة والبحث المتجرد عن أي هوى أو عصبية؛ بأنَّ لشياطين الجن والإنس دورٌ موحَّدْ في إبعاد الناس عن الغدير!
ستستغرب كثيرًا حين تجد الكثير من الناس في مشارق الأرض ومغاربها لا تهتز له شعرة، ولا يرمش له جفن، وهو يسمع ويُشارك في احتفالات كثيرة وطنية أو اجتماعية كعيد الجلوس والعيد الوطني وعيد الاستقلال وعيد الأم وعيد العمال وكمية الأعياد التي لا تنتهي، لكنه ما إنْ يسمع بعيد الغدير؛ حتى تجده وكأنَّ إبرةً وخَزَتْ وجنتيه، وأبكت عينيه، وتراه يتشنج كالملدوغ، ويتلوى كالمصروع.
لماذا علي ع ولي المسلمين بالتحديد؟
مثل هذا السؤال سيسوقنا إلى السؤال لماذا تم اختيار محمد ص رسولاً للأمه بالتحديد؟
وجواب كلا السؤالين ومثلهما من آلاف الأسئلة؛ إنما هو الاختيار الإلهي، وتيسير وتسيير الأسباب النفسية والجسدية والتأهيلية لوصول الاختيار إلى أرقى مستوى مما يحقق خدمة البشرية وسعادتها في الدارين.
ولحكمة أرادها وعلمها الله، ولتاريخٍ مليء بالجهاد والصبر والتقوى؛ كان الإمام علي ع هو الأقدر والأجدر على حمل ِمشعل الهداية، وراية القيادة الدينية والدنيوية، وكان أبو بكر وعمر أنفسهما؛ أكثر الناس معرفةً بعلي، وجهاد علي، وكرم علي، وصبر علي، وعبادة علي، وتقوى علي…
لهذا كانا من المبادرين على تهنئة الإمام في يوم الغدير، ومقولة عمر المشهورة برواياتٍ متعددة منها؛ “بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب أصبحتَ مولاي ومولى كل مسلم ومسلمة” وما رواه أحمد بنص “هنيئًا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمنٍ ومؤمنة”.
وقد روى حديث الغدير (110) صحابيًا، و(84) تابعيًا، و(370) عالمًا ومحدثًا، ومن المصادر التي أخرجته؛ (مسلم، والنسائي، وأحمد بن حنبل، والخطيب البغدادي، والطبري، وابن حجر…إلخ.)
ومعَ تواتر الحديث وشهرته؛ إلاَّ أنّ الأيادِ المُعترضة على اختيار الله ورسوله؛ كانت حاضرة ومتهيئة منذ الوهلة الأولى، وما إن مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ حتى تُركَ الجسدُ الطاهر بدلاً من دفنه، واجتمعَ بعضُ الناس في السقيفة البعيدة لدفن حديث الغدير، ولم يجد النبي ص، وهو في المسجد الجامع القريب حوله سوى بني هاشم والمقداد وعمار وأبي ذر، وقلة قليلة من المؤمنين لمواراة جسده الطاهر.
لقد كانَت السقيفة مكانَ اجتماع الناس في الجاهلية، ومنذ جاء الإسلام أصبح المسجدُ مكانًا للاجتماع، وبعدَ موت النبي ص عُقدَ أول اجتماع في السقيفة في عهد الإسلام.
لقدْ تمَّ إحياء دور السقيفة لوجودِ جسدِ محمد ص في المسجِدْ، لوجود يد محمد ص والتي تُذكرهم بيد علي ع، والصوتُ المجلجلُ في خطبة الغدير قبل أيام:
“أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حت يردا علي الحوض…”
وصورة اليدان المرفوعتان، وصوت محمد ص وهو يقول بأعلى صوته:
“إن الله مولاي وأنا ولي كل مؤمن. ثم أخذ بيد علي كرم الله وجهه وقال: من كنت مولاه، فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله…”
كانَ اجتماع السقيفة بدلاً من المسجد؛ في توقيته ومكانه وهدفه؛ أوَّل ابتعاد عن وصية رسول الله ص قبل “أيَّامْ”!
كان اجتماع بعض الصحابة –غفر الله لهم-في السقيفة أمرًا مُحزِنًا لفاطمة وعلي والحسنين وكثير من الصحابة الأخيار!
كانت السقيفة مُهملةٌ وصغيرة، وكادَ سقفها المهجور أن يسقُط، ولا تُقارن بحجم المسجد الكبير العامر، لكنها انتعشت في ذلك اليوم، وتتحضر لتُقرر أمرًا خطيرًا، وقرارًا مفصليًا، ما زِلنا نعاني آثاره وأضراره، وقد كان الذهول مُخيمًا على من ساقتهم أقدامهم إلى تلك السقيفة في ذلك اليوم، حتى أنَّ البعض صرَّح بأن الخلافة يجبُ أن تكون للأنصار، ما دام والعترة غائبة، وكان الصحابي عمر رض بجسده الكبير، وصوته الجهوري؛ أسرعُ الحاضرين لحسم الأمر، واقتربَ من جسد أبي بكر رض النحيل، وأمسك بيده الضعيفة وبايعه، وكادت أن تقومَ معركةً في السقيفة الصغيرة. ويتحدث عمر عن ذلك اليوم بكل وضوح وصراحة ويقول “كانت بيعة أبي بكر فلتة”.
صدقت يا عمر فلقد كانت فلتة في غمرة الحزن الذي يملأ بيت فاطمة، ويموجُ ببيوت الأنصار، ويهز أركان المسجد.
ولم يكُن من المعقول أن يستجيبَ علي ع لفاطمة وهي تبكي وتستحثه لإخراجٍ سيفه وأخذ حقه، فيرد عليها “أتريدين يا فاطمة أن يُلغى اسم أبيكِ من الأذان…”
لقد كانت الخيارات صعبة ومُرة ومؤلمة وموجعة تتقلب ما بين جسدٍ مسجى لأطهر بشر على وجه الأرض، ومساجلات وجدالات على الخلافة…
مرَّت أيامٌ عصيبة على فاطمة وبعلها وبنيها وقلة من الصابرين المتناقصين مع مرور الساعات والأيام…
مرَّت الأيام العصيبة ورائحةُ المسكِ في يد علي ما تزالُ عالقةٌ من مسكةِ يدِ محمد يوم الغدير.
حاولوا جرَّ يد علي ع ليضعها في يد أبي بكر رض لكنه ذكَّرهُم بأنَّ يده ما تزال رطبة وممتلئة بيد محمد ص.
ذكَّرهُم بأحاديث محمد ص كلها، ذكَّرهُم بسيفه البتار في بدر وأحد والأحزاب وحنين وخيبر، ذكَّرهم بأمورٍ يعرفونها ولا يُنكرونها؛ حتى بكى أبو بكر، وصعدَ المنبر لمراتٍ وهو يردد “أقيلوني أقيلوني” ولكنَّ عُمر بطوله الفارِعْ وجسمه الممتلئ، يحتضنُ أبابكرٍ في كل مرة وينزله عن المنبر، ويُشجعه ويشد على يديه، ويرفعُ معنوياته المنهارة أمامَ أحاديث محمد الطرية.
كان عُمر رض يعلمُ جيدًا صدق النبي ص حين قالَ لعلي ع” يا علي لا يُحبك إلا مؤمن ولا يُبغضكَ إلا منافق”
وكان النبي ص قد أسر واستأمنَ حذيفة بن اليمان رض ببعض أسماء المنافقين كما روى البيهقي، ولهذا كان عمر يُلاحق حذيفة بن اليمان في كل مكان ويستحلفه بإلحاح:
“يا حذيفة! بالله أنا من المنافقين؟” لكنَّ حذيفة يُذكِّر عمر بأنَّ رسول الله استأمنه على كتم السر، وأنها أمانة ولا يستطيع إفشاءها.
لقد ماتَ حديثُ الغدير بموتِ النبي ص، وتغيرتْ كثير من الوجوه نحو بيت الزهراء، حتى أنها ماتت غاضبة كما روى البخاري، وتم دفنها سرًا، ولا يُعلمُ قبرها حتى اليوم.
وبعدَ أن تمَّ إبعادُ اليد التي رفعها رسول الله بدأَ الولاةُ بإغراق الرواة، بالأموال الكثيرة، والعطايا الوفيرة؛ لإخراج حديث الغدير عن معناه، وإلباسه لباسًا لا يستقيم مع مبناه، وانقسمَ المسلمين جيلاً بعد جيل، فمنهُم من وضع يده بيد المصطفى ص ورفعَ معهُ يد علي ع قولاً وعملا، ومنهُم من تجاهَل الأمر، وابتعدَ عن أولي الأمر، وتنكرَ لوصية رسول الله ص التي وردت في كتاب الله
“قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى”، والمودة في سرِّهَا تقودُ إلى الإتِّباعْ، ولهذا أبعَدَ السلاطين الأمة عن عترة النبي ص، وحاربوها في كل عصر ومصر، وسُفكَ الدم النبوي في أصقاع الأرض من الشرق إلى الغرب، وكانت التُّهمة لكثير من هؤلاء العظماء هو الانتساب لهذه الدوحة المحمدية العلوية.

لكنَّا في اليمن، وبعدَ مرور أربعة عشر قرنًا، من صراع الغدر والغدير؛ نجدد الولاء أبًا عن جد، ونحتفلُ بإكمال الدين، وإتمام النعمة، ونرفعُ أيدينا مع يد محمد ص ونوالي من أمرنا الله بتوليه، ونسير على خطى من أرشدنا رسول الله بأنه مع القرآن.
وما الملايين التي تخرج في اليمن الميمون إلاَّ تجديد للعهد الإلهي وتنفيذ لوصية النبي، وسيرًا على طريق العترة، والتي لا تفترق عن سيدها حتى يلتقيا على الحوض.
وختامًا دعونا بهذه المناسبة ننشِدُ ونردد أبيات الصحابي حسان بن ثابت رض طريةً ندية، وصادقةً حيَّة:
يناديهم يوم الغدير نبيهم * بِخُم وأسمع بالرسول مناديا
فقال:فمن مولاكم ونبيكم؟ * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت نبينا * ولم تلق منا في الولاية عاصيا
فقال له: قم يا علي؟ فإنني * رضيتك من بعدي إماما وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أتباع صدق مواليا
هناك دعا اللهم؟ وال وليه * وكن للذي عادا عليا معاديا

د.مصباح الهمداني
19/08/2019

قد يعجبك ايضا