الكيان الصهيوني: لا بقاءَ للفلسطينيين في أرضهم. والعالم “منتبهٌ لم يسمع شيئا”
بكل تبجح وإجرام، يقف “وزير الدفاع” الإسرائيلي المجرم “يسرائيل كاتس” ليعلن مرسوم الموت: “من يبقى في مدينة غزة سيُصنَّف “مقاتلاً أو مؤيداً للإرهاب”. جملة تختصر مشروع إبادة، تُنذر بمجزرة ضد مئات آلاف المدنيين المحاصرين، الذين لم تمنعهم صواريخ الطائرات من التشبث بمدينتهم، لكنهم الآن يواجهون تهديداً علنياً بأن وجودهم ذاته أصبح جريمة يعاقَبون عليها بالقتل.
هذا التصريح هو بمثابة بيان نعي للأمم المتحدة وأمينها العام والمنظمات الدولية. قبل أربعين يوماً من هذا التهديد الصريح، أعلن خبراء الأمم المتحدة رسمياً، وللمرة الأولى في تاريخ “الشرق الأوسط”، تفشي المجاعة على نطاق واسع في مدينة غزة. في 22 أغسطس 2025، أصدر “التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي” تقريره الكارثي، مؤكداً أن نحو 514 ألف إنسان يعيشون المجاعة فعلياً، أي ما يقارب ربع سكان القطاع، وأن العدد سيرتفع إلى 641 ألفاً بنهاية سبتمبر. حينها لم يجد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس ما يقوله سوى: “لا يمكننا السماح باستمرار هذا الوضع من دون عقاب”، داعياً إلى وقف فوري لإطلاق النار وإيصال المساعدات الإنسانية. كلمات تبدو أخلاقية، لكن “وزير دفاع” العدو أثبت أنه فوق الجميع، وأن المؤسسات الدولية بيانات جوفاء لا أثر لها في واقع الحياة ما دام المجرم صهيونيا.
منسق الأمم المتحدة للإغاثة الطارئة، توم فليتشر، وصف المجاعة في غزة بأنها “عار عالمي”، مؤكداً أنها كارثة كان يمكن تفاديها بالكامل لو لم تمنع “إسرائيل” -بشكل ممنهج- دخول المساعدات الغذائية. ليس هذا مجرد إقرار أممي بالعجز، بل إدانة صريحة لسلوك احتلال يستخدم الجوع كسلاح حرب.
حين يقف “وزير دفاع” العدو ليعلن أن البقاء في غزة يساوي الموت. هو إعلان واضح لإبادة جماعية تتم تحت أعين العالم، فيما ملايين البشر يتابعون عبر الشاشات صور الأطفال الذين يُولدون ناقصي الوزن، والرضع الذين يتنفسون أنفاسهم الأخيرة في حضانات بلا كهرباء، والنازحين الذين يتقاسمون كسرة خبز أو جرعة ماء.
منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) حذرت من أن واحداً من كل خمسة أطفال في قطاع غزة يُولد قبل أوانه أو يعاني من نقص في الوزن، في ظل سياسة التجويع الإسرائيلي الممنهج المستمرة منذ نحو عامين بحق الفلسطينيين. كما دعت إلى الإجلاء الفوري لما لا يقل عن 25 رضيعا مريضا أو خداجا من حضانات مدينة غزة، لإنقاذ حياتهم، وذلك بعد أن استهدف العدو الإسرائيلي مستشفى الحلو، الذي يضم قرابة نصف هؤلاء الأطفال.
المتحدث باسم “يونيسف” ريكاردو بيريس قال إن الوضع في مدينة غزة بلغ مرحلة خطيرة، مضيفا: “حان الوقت لنقلهم، لأن مدينة غزة أصبحت مرة أخرى منطقة قتال، لكن إلى أين ننقلهم؟ لا يوجد مكان آمن لهم”. وأوضح أن عملية الإجلاء تعني نقل الأطفال -وكثير منهم حديثو الولادة- في عربات بدائية ملفوفين ببطانيات مع إمدادات أكسجين محمولة وقطرات طبية، محذراً من مخاطر العدوى، والتغيرات الحرارية، واحتمال نفاد الإمدادات أثناء النقل.
إن ما يجري في غزة لم يعد مجرد معركة عسكرية، بل هي معركة وجودية تُختبر فيها إنسانية العالم. المجاعة المعلنة رسمياً، والتهديد العلني بالإبادة، يضعان الجميع أمام امتحان أخلاقي نتائجه معلنة مسبقا: السقوط نهائياً في وحل التواطؤ والصمت.
منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وحتى اليوم، ارتفع عدد الشهداء إلى أكثر من 66,148 إنساناً، بينهم آلاف الأطفال والنساء، فيما تجاوز عدد الجرحى 168,716 إصابة، كثير منهم بلا علاج، وبعضهم بلا أطراف أو بلا أمل. وفي الأسابيع الأخيرة وحدها، حصدت الحرب أرواح 13,280 شهيداً إضافياً، بينهم أطفال ماتوا جوعاً أو برداً أو تحت الركام.
الموت في غزة لم يعد نتيجة القصف وحده، بل صار له وجوه أخرى: الجوع، العطش، المرض، وانعدام الدواء. فقد سجّلت وزارة الصحة 455 وفاة بسبب المجاعة وسوء التغذية، بينهم 151 طفلاً، في مشهد يختزل وحشية الحصار وغياب الضمير الإنساني.
ولفتت إلى استمرار استهداف المدنيين أثناء محاولات الحصول على المساعدات الإنسانية، حيث سُجّل خلال اليوم الأخير 4 شهداء و57 إصابة، ليرتفع الإجمالي إلى 2,580 شهيدًا وأكثر من 18,930 إصابة منذ بدء الحرب.
لم يعد القصف الإسرائيلي يميز بين بيت ومدرسة، أو بين مستشفى وسيارة إسعاف. فقد دُمّرت 38 مستشفى و 96 مركزاً صحياً، وأُعطبت 197 سيارة إسعاف، ما جعل غزة مدينة بلا بنية طبية تقريباً. ومع ذلك، يواصل الأطباء والممرضون والفرق الطبية نضالهم الإنساني، رغم أن 361 من أفراد الطواقم الطبية يقبعون في سجون العدو تحت ظروف صحية كارثية.
حتى الحضّانات التي تضمّ الأطفال الخدّج لم تنجُ من نيران الحرب. في مستشفى “الحلو” بمدينة غزة، يُحتجز نحو 25 رضيعاً في حضانات مهددة بالتوقف بسبب انقطاع الكهرباء ونقص الأدوية، فيما يتصاعد القصف حولهم بلا رحمة. منظمة يونيسف حذّرت من أن واحداً من كل خمسة أطفال في غزة يُولد قبل أوانه أو ناقص الوزن، في نتيجة مباشرة للحصار والتجويع.
ارتكب جيش العدو الإسرائيلي -فجر الأربعاء- جريمة مروعة بحق طواقم الدفاع المدني خلال محاولتها انتشال شهداء وإنقاذ مصابين في مدرسة “الفلاح” التي تؤوي نازحين في حي الزيتون شرقي مدينة غزة. الناطق باسم الدفاع المدني محمود بصل قال في تصريح صحفي: إن هذه الجريمة -التي تضاف إلى سجل الجرائم- أدت إلى استشهاد منذر رائد الدهشان، وإصابة 7 من ضباط الإنقاذ والإطفاء، بينهم اثنان في حالة الخطر الشديد.
وأشار إلى أن هذا الاستهداف الإسرائيلي السافر لطاقم الدفاع المدني لم يكن الأول خلال حرب الإبادة المستمرة، وبه يبلغ اليوم عدد جرائم استهدافات العدو لهذه الطواقم 27 مرة في ميدان العمل الإنساني، و 11 استهدافاً داخل المراكز.
ونبه إلى أن العدو الإسرائيلي استهدف طاقم الدفاع المدني في مدرسة الفلاح بشكل متعمد، عندما كانوا يؤدون واجبهم الإنساني ويرتدون ملابسهم الرسمية مع وجود مركباتهم واضحة المعالم، دون أن يضع هذا العدو اعتبارات لأي قوانين إنسانية أو مواثيق دولية.
وذكر أن استهداف الطاقم بعد دقائق من وصوله إلى المدرسة المستهدفة، يؤكد أن العدو يقصد ارتكاب هذه الجريمة ليحدث حالة من الفراغ في التدخل الإنساني بمدينة غزة.
الهروب من الموت لم يعد خياراً، فالطرق التي يدّعي العدو الإسرائيلي أنها “آمنة” تحولت إلى مقابر متنقلة. شارع الرشيد الساحلي، أحد الشرايين الأخيرة التي تربط شمال القطاع بجنوبه، أُغلق أمام المدنيين، ليبقى عشرات الآلاف محاصرين داخل “مصيدة الموت”.
وفي مناطق النزوح جنوباً، انهارت 93% من الخيام التي كانت تؤوي النازحين، تاركة عشرات الآلاف من العائلات بين العراء والبرد والجوع، يتقاسمون الطرقات والمكاره الصحية، بينما تتكدّس الكثافة السكانية في منطقة المواصي إلى حدود غير إنسانية، حيث يقطن نحو 70 ألف إنسان في كل كيلومتر مربع. ما يقارب من 125 ألف من أصل 135 ألف خيمة، انهارت وعشرات آلاف الخيام تضررت بفعل القصف المباشر أو العوامل الطبيعية، لتتحول إلى “كارثة إنسانية غير مسبوقة”.
وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) قالت، الإثنين، إن نحو نصف مليون فلسطيني لا يزالون محاصرين بمدينة غزة، في مساحة لا تتجاوز ثمانية كيلومترات مربعة، بينما يتكدس 70 ألف فلسطيني في كل كيلومتر مربع في مناطق جنوب القطاع التي تنذر “إسرائيل” المدنيين بالنزوح إليها.
مكتب الإعلام الحكومي أدان قرار العدو الإسرائيلي إغلاق شارع الرشيد/ البحر، والذي يمثل أحد الشرايين الحيوية التي يعتمد عليها المدنيون في تنقلهم بين محافظات قطاع غزة، مؤكدا أن هذا الإجراء التعسفي يندرج في إطار سياسة التضييق والحصار والإبادة الجماعية التي يواصلها العدو بحق شعبنا الفلسطيني في القطاع.
الادعاءات التي يروجها العدو حول السماح “بالانتقال جنوباً بشكل حر ودون تفتيش” ما هي إلا ذرائع مضللة تخفي حقيقة الممارسات الإجرامية الممنهجة التي تستهدف تهجير السكان قسراً، وتعريض حياتهم للخطر، وحرمانهم من حقهم الطبيعي في الحركة والتنقل الآمن، حسب الإعلام الحكومي.
الأمم المتحدة نفسها اعترفت بأن ما يجري في غزة “غير مقبول أخلاقياً وسياسياً وقانونياً”. نائب المنسق الخاص لعملية السلام بالأمم المتحدة راميز ألاكباروف وصف المشهد بأنه “كارثة من صنع الإنسان”، وأدان سياسة العقاب الجماعي والتجويع، محذراً من أن المجاعة انتقلت بالفعل من مدينة غزة إلى الوسط والجنوب.
وقال في كلمة ألقاها، الاثنين، خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي حول ‘الوضع في الشرق الأوسط بما في ذلك القضية الفلسطينية’ إن تصعيد العمليات العسكرية الإسرائيلية في جميع أنحاء قطاع غزة يثير الذعر، مشدداً على أن الهجمات الإسرائيلية تواصل جلب مستويات غير مسبوقة من الموت والدمار للفلسطينيين.
لكن هذه الإدانات -مهما بدت قوية- تبقى كلمات في الهواء، إذ لم تُترجم حتى الآن إلى فعلٍ ينقذ الأرواح أو يوقف النزيف.
رغم كل هذا الموت، تبقى غزة عصيّة على الانكسار. رجال الدفاع المدني الذين يُستهدفون وهم ينتشلون الضحايا، أقسموا أن استهدافهم لن يزيدهم إلا إصراراً على واجبهم الإنساني. الأطباء الذين يعملون بلا دواء ولا كهرباء يواصلون إنقاذ الأرواح بما تيسّر من أدوات بدائية. والأطفال الذين يولدون تحت القصف، ناقصي الوزن أو بلا حضّانات، يحملون شهادة ميلاد على صلابة الحياة في وجه آلة القتل والإجرام الصهيونية.
إن ما يحدث في غزة إبادة جماعية تُرتكب بحق شعب مسلم، تُنفذ بالقصف والتجويع والحصار. مأساة متواصلة منذ 726 يوماً، تفضح عجز المجتمع الدولي، وتكشف زيف كل شعارات حقوق الإنسان.
إن القانون الذي يسود البشرية اليوم هو قانون الغاب، وبالتالي فلا خيار للنجاة من هذا الجحيم سوى خيار الجهاد والمقاومة، فالإجرام الصهيوني لا يمكن له أن يسمع سوى صوت السلاح.
موقع أنصار الله