المقر الأمريكي في كريات غات .. وصاية جديدة بغطاء إنساني
في مشهد يعكس تعقيدات المرحلة التي تلت وقف إطلاق النار في غزة، أعلنت القيادة المركزية الأمريكية عن بدء عمل ما يُعرف بـ”مركز التنسيق المدني-العسكري” في إسرائيل، وهو مقر يهدف –بحسب واشنطن– إلى متابعة تنفيذ اتفاق وقف النار وتسهيل تدفق المساعدات الإنسانية.
لكن خلف هذه الصيغة المطمئنة، تتكشف دلالات سياسية عميقة تعيد إلى الواجهة سؤال السيادة الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره دون وصاية أو هيمنة خارجية.
إدارة مرحلة ما بعد الحرب
الولايات المتحدة التي قادت التحركات السياسية والعسكرية في حرب غزة خلال العامين الماضيين، تحاول اليوم إعادة صياغة حضورها في المنطقة عبر هذا المركز، الذي يوصف بأنه “تنسيقي” لكنه في جوهره يمثل – وفق الخبراء- محاولة لإدارة مرحلة ما بعد الحرب من موقع الوصي والمتحكم بأولويات تركز على أمن الاحتلال بدلا من حماية المدنيين الفلسطينيين الذين تعرضوا لإبادة جماعية من الاحتلال الإسرائيلي على مدار عامين.
وفي الوقت الذي تجتمع الفصائل الفلسطينية في القاهرة جماعيا وثنائيًّا لمناقشة ترتيبات الحكم في قطاع غزة من منظور فلسطيني خالص، يأتي الحديث عن وجود أكثر من 200 جندي أمريكي في كريات غات، ما يكشف عن توجه نحو “تدويل” الإشراف على غزة، في ظل محاولات تغييب أي تمثيل فلسطيني حقيقي في إدارة الشأن الإنساني أو السياسي.
فقد أكد عضو المكتب السياسي لحركة حماس، حسام بدران، أن الفصائل الفلسطينية عقدت اجتماعات في القاهرة لمواصلة العمل على تنفيذ بنود اتفاق شرم الشيخ، مشيرًا إلى التزام حركة حماس والفصائل الأخرى بالتقدم في تطبيق ما تم الاتفاق عليه.
وفي تصريح صحفي، أوضح بدران أن الاجتماع الأخير شهد مشاركة واسعة من الفصائل الفلسطينية الرئيسية، مؤكدًا أن هذا اللقاء يأتي في إطار الرعاية المصرية المستمرة لجهود المصالحة والحوار الوطني الفلسطيني.
وأضاف بدران: “خلال اللقاءات الثنائية والجماعية مع مختلف الفصائل، تم التوصل إلى توافق عام حول رؤية موحدة لتنفيذ الاتفاق، بما يحقق مصلحة الشعب الفلسطيني، وبخاصة في قطاع غزة”.””.
البعد الأمني يتصدر
التصريحات الصادرة عن نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس خلال زيارته للموقع، والتي هدد فيها حركة حماس بـ”عواقب سيئة” إن لم تتخلَّ عن سلاحها، تؤكد أن البعد الأمني لا يزال يتصدر الرؤية الأمريكية.
فبدل أن يكون هذا المركز أداة لضمان حماية المدنيين أو مراقبة وقف النار، يبدو أنه يُستخدم لضبط موازين القوة في الميدان، وإبقاء غزة ضمن معادلة السيطرة الأمنية التي تضمن لإسرائيل تفوقها العسكري والسياسي.
وهذا ما عبر عنه وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، بأن العمل جار لإنشاء قوة دولية للمحافظة على الاستقرار في قطاع غزة، وأن هذه القوة يجب أن تتكوّن من الدول التي تشعر إسرائيل بارتياح تجاهها.
وأكد روبيو في مؤتمر صحفي بمركز التنسيق المدني العسكري في كريات غات جنوب تل أبيب، أن الإدارة الأميركية تنسق مع مختلف الأطراف بشأن القوة الدولية المزمع نشرها في قطاع غزة، مشيرا إلى أنه لم تُشكل بعد، وأن دولا كثيرة عبّرت عن رغبتها في المشاركة.
ويرى مراقبون أن إنشاء هذا المركز يأتي استكمالًا لنهج أمريكي يهدف إلى إحكام القبضة على إدارة الصراع، لا إلى إنهائه.
فواشنطن، التي تتحدث عن “إعادة إعمار غزة وتحويلها إلى ريفييرا”، تتجاهل أن أي إعادة إعمار لا يمكن أن تقوم على أنقاض السيادة أو على حساب حق الفلسطينيين في اختيار قيادتهم ونظامهم السياسي بحرية.
وصاية جديدة بغطاء إنساني
في السياق ذاته، يرى محللون فلسطينيون أن هذا التحرك الأمريكي يمثل شكلاً جديدًا من الوصاية، يعيد إنتاج تجربة “الإدارة الدولية” التي جُرِّبت في مناطق نزاع أخرى، من البوسنة إلى العراق، وانتهت إلى إدامة الانقسام وتعميق التبعية.
فالمقر الأمريكي لا يعمل داخل غزة بل على أراضٍ إسرائيلية، ما يعني أن الفلسطينيين يدارون عن بعد، وأن قضاياهم الإنسانية والسياسية تختزل في تقارير عسكرية وموازنات أمنية.
ويحذر خبراء من أن هذا النوع من “الإدارة الأمنية الدولية” قد يفتح الباب أمام ترتيبات دائمة تقصي القوى الفلسطينية الفاعلة، وتحوّل القطاع إلى منطقة نفوذ مشتركة بين أطراف خارجية، تدار عبر لجان ومراكز تنسيق بلا سيادة ولا مساءلة.
حماية المدنيين أولاً
بعد عامين من حرب وصفت بأنها الأشد فتكًا في تاريخ الصراع، ما يحتاجه الفلسطينيون ليس “مقرًا للتنسيق” بقدر ما يحتاجون إلى منظومة حماية دولية حقيقية تضمن وقف الانتهاكات ورفع الحصار وإعادة إعمار ما دمّرته آلة الحرب.
الأولوية يجب أن تكون لإنقاذ ما تبقّى من حياة في غزة، لا لترتيب مشهد إداري فوقي يقرر مصير أهلها دون مشاركتهم.
حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم ليس ملفًا تفاوضيًا يدار من مقرات عسكرية، بل مبدأ قانوني وإنساني وتاريخي ثابت لا يسقط بالتقادم، وأي محاولة لفرض “إدارة انتقالية” من الخارج ستصطدم بالوعي الجمعي لشعبٍ جرّب كل أشكال الاحتلال والوصاية، ولم يفقد إيمانه بحقه في الحرية والسيادة.
يبدو أن المقرّ الأمريكي في كريات غات ليس مجرد خطوة لوجستية، بل فصلًا جديدًا في معركة الإرادة بين شعبٍ يسعى إلى حماية حقه في الحياة والكرامة، وقوى دولية تحاول إعادة رسم خريطته من خلف الأسوار.
المركز الفلسطيني للإعلام