اليمن يوجه رسائل حادة إلى الرياض.. من خفض التصعيد إلى إنهاء العدوان والحصار

اليمن لا يُهزم، والإرادة لا تُكسر، والسيادة لا تُمنح.. بل تُنتزع

الحقيقة ـ جميل الحاج

في الذكرى السنوية لثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيدة، التي تمثل رمزًا خالدًا للتحرر الوطني من الاستعمار البريطاني، ألقى المشير الركن مهدي المشاط، رئيس المجلس السياسي الأعلى، خطابًا سياسيًا شاملاً حمل في طيّاته رسائل داخلية وإقليمية عميقة.

الخطاب لم يكن احتفاليًا فحسب، بل جاء بمضمونٍ استراتيجيٍّ يعيد تعريف مسار الثورة اليمنية بوصفها مشروعًا وطنيًا مستمرًا، لا يتوقف عند حدود التاريخ، بل يمتد في الحاضر والمستقبل.

ودعا الرئيس المشاط في خطابه النظام السعودي إلى إنهاء العدوان والحصار المفروضين على اليمن منذ أكثر من تسع سنوات، مؤكدًا تمسك صنعاء بخيار السلام المشرف القائم على السيادة والكرامة الوطنية، ومشيرًا إلى أن اليمن اليوم أكثر استعدادًا للدفاع عن مكتسباته الوطنية والتعامل مع أي تطورات في الساحة الإقليمية.

تأتي هذه الدعوة في لحظة إقليمية بالغة الحساسية، تتشابك فيها خيوط الأزمات من فلسطين إلى البحر الأحمر، في ظل اشتداد الصراع العربي–الصهيوني واتساع جبهة المواجهة مع قوى الهيمنة الغربية.

ومن هذا المنطلق، حمل خطاب المشاط دلالات استراتيجية تتجاوز الداخل اليمني، لتؤكد أن صنعاء باتت اليوم فاعلًا إقليميًا مؤثرًا، لا مجرد طرف في حربٍ فرضت عليها.

خطاب التحرر والسيادة.. قراءة في الدلالات السياسية

جاء خطاب الرئيس المشاط في توقيت دقيق، يعكس التحولات الكبرى التي شهدها اليمن على المستويين العسكري والسياسي.

فبعد تسع سنوات من العدوان، استطاعت صنعاء أن تفرض معادلة ردع متوازنة، وأن تُحوّل مسار الحرب إلى صراع مكلف للتحالف الذي تقوده السعودية، بعد أن فشل في تحقيق أهدافه رغم الدعم العسكري والاستخباراتي الغربي الهائل.

وأكد المشاط أن استمرار الحرب والحصار لا يخدم أي طرف، وأن إنهاء العدوان هو السبيل الوحيد لإحلال الأمن والاستقرار في المنطقة، محذرًا من أن القوى المعادية وفي مقدمتها الكيان الصهيوني تحاول استثمار النزاعات العربية لخدمة مشروعها التوسعي.

وبلغة واضحة وهادئة في الوقت نفسه، شدد المشاط على أن صنعاء لا تبحث عن الحرب، لكنها لن تتراجع أمام أي تهديد، وأنها تمتلك الإرادة السياسية والعسكرية الكفيلة بفرض معادلة جديدة قائمة على الندية والاحترام المتبادل.

الرسالة المبطّنة في الخطاب كانت أن اليمن لم يعد الطرف الأضعف في المعادلة، بل أصبح رقماً إقليميًا صعبًا، قادرًا على فرض شروطه وقراراته السيادية، بعيدًا عن الوصاية أو الإملاءات الخارجية.

العدوان على اليمن.. فشل التحالف وصمود الدولة

منذ مارس 2015، تحولت الحرب على اليمن إلى أطول وأعنف صراع في شبه الجزيرة العربية.

وخلال تسع سنوات، أنفق تحالف العدوان مئات المليارات من الدولارات دون أن يحقق أيًّا من أهدافه المعلنة.

وفي المقابل، استطاعت قوات صنعاء أن تطور قدراتها العسكرية النوعية، من الصواريخ الباليستية إلى الطائرات المسيّرة، لتصبح قوة ردع إقليمية معترفًا بها ضمن توازنات المنطقة.

لم تقتصر المعركة على الميدان العسكري، بل امتدت إلى الحرب الاقتصادية والإنسانية، حيث فرضت دول تحالف العدوان حصارًا خانقًا على الموانئ والمطارات، ما أدى إلى تفاقم الكارثة الإنسانية وتدهور الاقتصاد.

ورغم ذلك، واجه اليمنيون هذا الواقع بصبرٍ وصلابة، واستطاعوا تحويل المعاناة إلى وقود لصمود وطني أسطوري، جعل اليمن نموذجًا في مقاومة العدوان والوصاية.

اليوم، وبينما تتآكل قدرة تحالف العدوان على الاستمرار في الحرب، تتنامى الأصوات الإقليمية والدولية الداعية إلى تسوية سياسية شاملة تنهي العدوان وتعيد فتح الممرات والمطارات وتطلق عملية سلام قائمة على الاحترام المتبادل وحسن الجوار.

رسائل حادة إلى الرياض.. من خفض التصعيد إلى إنهاء العدوان

اللافت في خطاب المشاط أنه تجاوز اللغة الدبلوماسية التقليدية إلى خطاب وطني صريح ومباشر.

وجه فيه رسائل قوية إلى النظام السعودي، داعيًا إياه إلى الانتقال من مرحلة خفض التصعيد إلى مرحلة إنهاء العدوان والحصار والاحتلال، محذرًا من أن التأخر في ذلك يفتح الباب أمام قوى “تستثمر في الحروب خدمة للعدو الصهيوني”.

هذه العبارة، التي التقطها المراقبون باهتمام، تعكس رؤية يمنية متقدمة تربط بين العدوان على اليمن والمخططات الإسرائيلية في المنطقة، وتعيد تعريف الحرب باعتبارها جزءًا من معركة الأمة ضد المشروع الصهيوني الأمريكي.

ولم يكتفِ المشاط بالتوبيخ السياسي، بل وجه نداءً عاطفيًا ووطنيًا إلى أبناء المحافظات الجنوبية:

“ندعو أحفاد المناضلين في عدن ولحج وأبين والمهرة وشبوة وحضرموت ومأرب وتعز أن يضطلعوا بدورهم التاريخي المشرف.”

بهذه الكلمات، أعاد المشاط توجيه البوصلة جنوبًا، مؤكدًا أن الثورة الحقيقية لا تموت، وأن الجنوب اليمني الذي فجّر أول ثورة ضد الاحتلال البريطاني سيعود اليوم ليشارك في معركة التحرر من الاحتلال الجديد بأشكاله الأمريكية والسعودية والإماراتية.

من أكتوبر إلى سبتمبر.. وحدة المسار الثوري

ربط الرئيس المشاط ببراعة بين ثورتي 14 أكتوبر 1963م ضد الاستعمار البريطاني، و21 سبتمبر 2014م ضد الوصاية الخارجية، معتبرًا أن الثورتين تنتميان إلى سياق وطني واحد.

وقال يكفيكم فخرًا أن بنادق ثورة الرابع عشر من أكتوبر لا تُرى اليوم إلا في أيديكم يا أبناء الحادي والعشرين من سبتمبر.

بهذه العبارة، أعلن الرئيس عن وحدة الوعي الثوري في اليمن، مؤكدًا أن ما بدأه رجال الجبال في الجنوب قبل أكثر من ستين عامًا، يواصله اليوم رجال الميدان في الشمال والجنوب على حد سواء، في معركة تحرر واحدة ضد الاحتلال والهيمنة.

الخطاب بذلك لم يكن مجرد تذكيرٍ بماضٍ مجيد، بل خريطة طريق فكرية ووطنية، تقوم على معادلة ثلاثية.. من الوعي تبدأ الثورة، ومن الثورة تولد السيادة، ومن السيادة تُصان الكرامة.

آفاق السلام.. من الحرب إلى الشراكة

رغم التحذيرات الحادة، حمل خطاب المشاط روحًا إيجابية واضحة تجاه خيار السلام.

أشار الرئيس إلى استعداد صنعاء للانخراط في أي عملية سياسية تضمن لليمن سيادته واستقلاله، شريطة أن تكون خارطة الطريق واضحة ومرتكزة على إنهاء العدوان ورفع الحصار بشكل كامل.

وشدد على أن السلام لا يمكن أن يكون على حساب الكرامة الوطنية، وأن الحل الحقيقي يبدأ من إرادة جادة لدى الرياض في الانتقال من التفكير العسكري إلى السياسي.

في هذا السياق، تبرز الوساطة العُمانية ودور بعض القوى الإقليمية كجسور ممكنة لاستئناف الحوار، خصوصًا في ظل توافق متزايد على ضرورة إغلاق ملف الحرب في اليمن الذي بات عبئًا على المنطقة بأسرها.

فإنهاء العدوان لا يعني فقط وقف نزيف الدم اليمني، بل يمثل خطوة مفصلية نحو استقرار إقليمي أوسع يمتد من الخليج إلى البحر الأحمر، ويغلق باب الفوضى أمام التدخلات الأمريكية والإسرائيلية.

اليمن في معادلة المنطقة الجديدة

خطاب المشاط أكد بما لا يدع مجالًا للشك أن اليمن اليوم طرف فاعل في معادلة التوازن الإقليمي.

فمن جبهة البحر الأحمر إلى ميدان غزة، أثبتت صنعاء أنها جزء من محور المقاومة الذي يعيد رسم خريطة القوة في المنطقة.. وأنه لم يعد ممكنًا تجاوز اليمن أو تجاهله في أي معادلة تخص الأمن الإقليمي.

إن الرسالة الأعمق التي أراد المشاط إيصالها هي أن السلام في اليمن ضرورة إقليمية، لا مجرد مطلب محلي.

فاستمرار الحرب لم يعد مقبولًا لا سياسيًا ولا إنسانيًا، بينما السلام العادل هو الطريق الوحيد لضمان مستقبل مزدهر للجميع.

اليمن من ثورة إلى دولة.. ومن مقاومة إلى رؤية

في نهاية المطاف، لم يكن خطاب الرئيس مهدي المشاط مجرد كلمة في مناسبة وطنية، بل بيانًا سياسيًا جامعًا أعاد تعريف الثورة اليمنية بوصفها مشروعًا متجددًا للتحرر والسيادة.

ومن خلال لغته الهادئة ورؤيته العميقة، قدّم المشاط صورة اليمن القوي، الواثق، الساعي إلى السلام من موقع الندّية لا التبعية، القادر على الدفاع عن أرضه وقراره الوطني، وفي الوقت نفسه المنفتح على بناء علاقات تعاون قائمة على الاحترام المتبادل.

وإن 14 أكتوبر لم يعد مجرد تاريخ في الذاكرة اليمنية، بل نبض حي في وجدان الأمة، يمتد من عدن إلى صنعاء، ومن صنعاء إلى فلسطين، في مسيرة تحرر واحدة عنوانها.. اليمن لا يُهزم، والإرادة لا تُكسر، والسيادة لا تُمنح.. بل تُنتزع.

قد يعجبك ايضا