حركة النفاق ونشر السرديات المضللة عبر المنصات الإعلامية والدينية

صادق البهكلي

المقدمة

تشكل ظاهرة النفاق في العالم العربي المعاصر واحدة من أخطر التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية والعربية في هذا العصر. إن حركة النفاق هذه تتجلى بوضوح في مواقف بعض الأنظمة العربية والنخب الحاكمة التي تتخذ من الخطاب الديني والقومي ستاراً، بينما تمارس في الواقع خيانة صريحة لشعوبها ولقضايا الأمة المصيرية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

يهدف هذا التقرير إلى تسليط الضوء على ظاهرة النفاق في العالم العربي المعاصر من خلال: كيفية نشر حركات النفاق للسرديات المضللة عبر منصات الإعلام والدين.

يعتمد هذا التقرير على مجموعة من المصادر الموثوقة، بما في ذلك خطابات السيد عبد الملك الحوثي التي تقدم رؤية تحليلية عميقة لهذه الظاهرة، بالإضافة إلى دراسات أكاديمية وتقارير إعلامية متخصصة. إن فهم هذه الظاهرة بشكل دقيق وشامل يشكل خطوة أساسية نحو بناء وعي جماعي قادر على مواجهتها والتصدي لها، وهو ما يسعى إليه هذا العمل عبر سلسلة من التقارير التي تتناول مختلف أبعاد هذه الحركة الخطيرة.

________________________________________

نشر السرديات المضللة عبر المنصات الإعلامية والدينية

آلة التضليل: كيف يُصنع الوعي الزائف ويُفرض على الشعوب

تشكل السيطرة على الخطاب الإعلامي والديني واحدة من أخطر أدوات حركة النفاق في العالم العربي المعاصر، فبدون هذه السيطرة، لن تتمكن الأنظمة المنافقة من تمرير سياساتها الخيانية أو قمع معارضيها أو تبرير تحالفها مع أعداء الأمة. لذلك، تستثمر هذه الأنظمة مليارات الدولارات في بناء إمبراطوريات إعلامية ضخمة، وفي شراء ذمم “علماء” ودعاة ومفكرين، وفي إنتاج خطاب ديني مزيّف يخدم أجندتها، وفي نشر سرديات مضللة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية والمنصات الدينية، بهدف تشكيل وعي زائف لدى الجماهير يجعلها تقبل بالهيمنة الصهيونية-الأمريكية، أو على الأقل تصمت عنها، كما تم حظر المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، بعد عملية “طوفان الأقصى”، بل وصل الأمر إلى حظر رفع الأعلام الفلسطينية أو ارتداء الكوفية في بعض دول الخليج، وقمع الصلوات المؤيدة للفلسطينيين حتى في مكة المكرمة.

وفي الإمارات، أرسلت الحكومة رسائل واتساب جماعية تحذر المواطنين والمقيمين من معارضة سياسة التطبيع، في محاولة سافرة لترهيب أي صوت معارض. أما في البحرين، فقد سُنَّ قانون يمنع موظفي الحكومة صراحة من معارضة سياسة التطبيع، تحت طائلة العقوبات الإدارية والقانونية، هذه الإجراءات القمعية تكشف عن خوف هذه الأنظمة من شعوبها، ومن ردة الفعل الشعبية الرافضة لسياسات التطبيع والخيانة.

لكن القمع وحده لا يكفي، فالأنظمة المنافقة تحتاج أيضاً إلى إنتاج خطاب إيجابي (أو على الأقل تبريري) لسياساتها، لذلك، تمتلك هذه الأنظمة شبكات ضخمة من القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية وحسابات التواصل الاجتماعي التي تروّج لسردياتها وتشوّه صورة خصومها.

ويصف السيد عبد الملك الحوثي في خطابه بمناسبة ذكرى استشهاد الإمام زيد بن علي عليه السلام (25-1-1438ه / 26-أكتوبر-2016م) هذا الدور:

“إن ما يقوم به اليوم النظام السعودي بشكلٍ مباشر وعبر أدواته في العالم الإسْلَامي، في مناطقَ متعددةٍ من العالم الإسْلَامي، ما هو إلا امتدادٌ في مضمونه وممارساته وشكله وأصله وفصله وفرعه للحركة النفاقية في عصر الإسْلَام كله، في تاريخ الأُمَّة الإسْلَامية بكلها، ولكنه اليوم بإمكانات أكثر، وبقدرات أكثر، وبثروةٍ أكثر، يمتلك اليوم القنوات الفضائية، يمتلك اليوم الأسلحة الحديثة.”

إن امتلاك النظام السعودي وحلفائه لشبكة ضخمة من القنوات الفضائية (مثل العربية، والحدث، وسكاي نيوز عربية، وغيرها) يمنحهم قدرة هائلة على تشكيل الرأي العام العربي والتأثير عليه، هذه القنوات تعمل بشكل منسق لتشويه صورة المقاومة وقواها، ولتبرير التطبيع والتحالف مع أمريكا وإسرائيل، ولتصوير إيران ومحور المقاومة كـ”تهديد” أكبر من تهديد العدو الإسرائيلي نفسها.

وتشير التقارير إلى أن العدو الإسرائيلي نفسه أطلق “حرباً رقمية” ضد الفلسطينيين من خلال إغراق وسائل التواصل الاجتماعي بحسابات مزيفة مصممة لنشر المعلومات المضللة، وتشويه السرديات، وشيطنة المقاومة الفلسطينية، وخلق رأي عام مزيف. هذه الحسابات غالباً ما تنتحل شخصيات عربية وتحاكي اللهجات الإقليمية لتعزيزالانقسام بين الدول العربية وتعزيز الأجندة الإسرائيلية. وقد أفادت شركة إسرائيلية متخصصة (Cyabra) بوجود حوالي 40,000 حساب مزيف على منصتي X وTikTok متورط في محادثات حول هجمات 7 أكتوبر، ينشر ادعاءات مضللة.

كما أن منصات التواصل الاجتماعي مثل TikTok وX (تويتر سابقاً) وFacebook وInstagram وYouTube تمتلئ بـ”ادعاءات كاذبة، ونظريات مؤامرة، ومحتوى مليء بالكراهية” حول الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. ويتم استخدام أنواع مختلفة من المعلومات المضللة: فيديوهات قديمة من صراعات أخرى، أو لقطات من ألعاب فيديو، أو فيديوهات معدلة لتقديم ادعاءات كاذبة، أو ادعاءات بأن الضحايا في غزة ”ممثلون أزمات“ يستخدمون الماكياج والأزياء لخلق إصابات واقعية، بهدف التقليل من التكلفة البشرية للصراع.

أما على المستوى الديني، فإن الأنظمة المنافقة تسعى جاهدة لاستخدام الخطاب الديني لتبرير سياساتها الخيانية. ويتجلى ذلك بوضوح في محاولة إضفاء صبغة دينية على اتفاقيات التطبيع، مثل تسمية “اتفاقيات إبراهيم” التي تستحضر شخصية النبي إبراهيم عليه السلام لإضفاء شرعية لاهوتية على ما هو في حقيقته “تواطؤ غادر”. ويقول السيد عبد الملك في خطابه بمناسبة يوم الولاية (الأحد 18-12-1443ه / 17-يوليو-2022م):

“واتجهوا عملياً كذلك على مستوى القوانين، على مستوى الأنظمة، وعلى مستوى البرامج التي يعملون فيها في الساحة في بلدانهم، في المملكة العربية السعودية، في الإمارات، إلى نشر الفساد، إلى الترويج للفساد، إلى مستوى الترويج للفساد الأخلاقي، إلى نشر الرذيلة بين أوساط الشباب، إلى تهيئة البيئة المهيأة للفساد، عدَّلوا حتى القوانين من أجل ذلك، بمعنى: أنَّ هذه المسألة تنزل وتصل إلى كل مجال، حتى إلى المستوى الأخلاقي، المستوى القيمي. اتجهوا إلى إضلال الأمة في مسألة من أهم المسائل، وهي: في تحديد من هو العدو، ومن هو الصديق، فقدَّموا أعداء هذه الأمة، الذين قال الله عنهم في القرآن الكريم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ}[المائدة:82]، قدَّموهم على أنهم هم من تتجه الأمة لتتولاهم، لتحبهم، لتقبل بهم، لتقبل بقيادتهم، لتعادي من يعاديهم، ثم جعلوا العدو الرئيسي للأمة، هو من تجعله إسرائيل عدواً أساسياً لهذه الأمة، فإذا بإسرائيل، إذا بالصهاينة اليهود، إذا بأمريكا هي التي تحدد لهذه الأمة من هو العدو، وهذا انحرافٌ كبير وخطيرٌ جدَّا عن منهج الله “سبحانه وتعالى”.

إن هذا التحليل يكشف عن أن التضليل لا يقتصر على الجانب الإعلامي، بل يمتد إلى الجانب الأخلاقي والقيمي والديني. فالأنظمة المنافقة تسعى إلى إعادة تشكيل وعي الأمة بالكامل: من هو العدو ومن هو الصديق، ما هو المعروف وما هو المنكر، ما هو الحلال وما هو الحرام. وهذا يتم من خلال استغلال المنابر الدينية والمساجد والمؤسسات الدينية الرسمية لنشر خطاب ديني مشوّه يخدم الأجندة الأمريكية-الصهيونية.

ويشير السيد عبد الملك الحوثي في خطابه بمناسبة ذكرى جمعة رجب (الجمعة 5-7-1444هـ / 27-يناير-2023م) إلى دور “العلماء” المزيفين في هذا التضليل:

“ولذلك فأحرار الأمة والشعوب الحية معنية بالتحرر من القيود، التي تكبلها بها حركة النفاق، وتسعى لتجريدها من الشعور بانتمائها الإيماني، وقيمها الإيمانية، والتزاماتها الإيمانية، ومواقفها الإيمانية، يجب أن تتحرر؛ لكي تستطيع أن تتحرك بالشكل الصحيح، وهذا هو مصلحة لها، حرية لها، شرفٌ لها، إنقاذٌ لها. ومن أبرز قوى النفاق المعاصرة، المخربة في أوساط المسلمين، المنحرفة، والمحرفة للانتماء الإيماني عن اتجاهه الصحيح، وعن أصالته، وعن حقيقته، هم: التكفيريون يلعبون دوراً تخريبياً وسيئاً جداً في ذلك، ومشوهاً للإسلام والمسلمين، ومعهم إلى جانبٍ آخر: الأنظمة الموالية لأمريكا وإسرائيل واللوبي الصهيوني اليهودي، والساعية لإفساد المسلمين، وضرب انتمائهم الإيماني، وإعاقة أي تحرك من داخل الأمة الإسلامية، للتصدي لهجمات الأعداء ومساعيهم ومؤامراتهم في استهداف الأمة الإسلامية في دينها، وفي كل شؤون حياتها، وهذا أمرٌ واضحٌ جداً، هم أداة، وارتباطهم بالأعداء ارتباط واضح جداً، وتحالفاتهم مع الأعداء مكشوفة وواضحة، ويجب أن يرتقي وعي الأمة ووعي الشعوب للحذر منهم، والانتباه من شرهم.”

هنا يكشف السيد القائد إلى تحالف خطير بين الأنظمة المنافقة والحركات التكفيرية (مثل داعش والقاعدة وأخواتهما) التي تشوّه صورة الإسلام وتنشر الفتنة والعنف الأعمى داخل الأمة. هذه الحركات التكفيرية، رغم ادعائها الإسلام، تعمل في الواقع لخدمة الأجندة الأمريكية-الصهيونية من خلال تشويه صورة الإسلام عالمياً، وتبرير التدخلات الغربية في المنطقة تحت ذريعة “مكافحة الإرهاب”، وإشعال الفتن الطائفية التي تفتت الأمة من الداخل.

كما تسعى الأنظمة المنافقة إلى “طمس الوعي وتغيير المناهج” التعليمية والثقافية. فقد تم، على سبيل المثال، إزالة اسم فلسطين من الكتب المدرسية السعودية، في محاولة لتجهيل الأجيال الجديدة بقضيتهم المركزية. كما يتم نشر “سرديات مضللة” عبر الإعلام والدين، مما يؤدي إلى “وعي منهار” حيث يتبنى بعض المسلمين خطاب “الحرب على الإرهاب” الأمريكي ويصبحون اعتذاريين عن إسلامهم، ويشعرون بالذنب لمجرد انتمائهم لهذا الدين.

ويتم خلق “شكل مذعن للإسلام” يتماشى مع الأجندات الغربية، مما يقسم الشعوب إلى “مسلمين جيدين” (المتعاونين مع الغرب وإسرائيل) و”مسلمين سيئين”(المقاومين والرافضين للهيمنة)؛ وقد وُصفت الأيديولوجية الغربية في هذا السياق بأنها “ازدواجية الألفاظ الأورويلية” التي تستخدم مصطلحات مثل “التحضر والديمقراطية” و”حقوق الإنسان” كغطاء لممارساتها الاستعمارية والعدوانية.

أما فيما يتعلق بالتحيز في وسائل الإعلام التقليدية، فقد كشف تقرير داخلي لهيئة الإذاعة البريطانية BBC عن تحيز خطير في قسم BBC Arabic. فقد اتُّهمت BBC Arabic في تقرير مبلّغ داخلي بـ”التقليل من معاناة الإسرائيليين” وبـ”رسم صورة إسرائيل كمعتدٍ بشكل متعمد”، وكذلك بإعطاء “وزن غير مبرر” لادعاءات حماس حول أعداد القتلى. كما زعم التقرير أن BBC Arabic وفرت وقتاً كبيراً على الهواء لصحفيين أدلوا بتعليقات معادية للسامية بشكل متطرف، حيث ظهر أحدهم 244 مرة وآخر 522 مرة في 18 شهراً. ووجدت مراجعة داخلية “اختلافات صارخة” في كيفية معالجة القصص الحساسة بين الموقع الرئيسي لـBBC وBBC Arabic، حيث اتُّهمت الأخيرة بحذف تفاصيل حاسمة من شأنها أن تعقّد السردية غير المواتية لإسرائيل.

إن نشر السرديات المضللة عبر المنصات الإعلامية والدينية يمثل واحداً من أخطر أدوات حركة النفاق في العالم العربي المعاصر. هذا التضليل المنظم يهدف إلى تشكيل وعي زائف لدى الجماهير، وإلى تدجين الأمة وإخضاعها للهيمنة الصهيونية-الأمريكية، وإلى قمع أي صوت معارض أو مقاوم. إن مواجهة هذا التضليل تتطلب بناء إعلام بديل حر ومستقل، وتحصين الأمة بثقافة قرآنية أصيلة، وفضح الخطاب الديني المزيّف الذي ينتجه “علماء السلاطين” و”وناشطي الدفع المسبق”.

قد يعجبك ايضا