حماس والمحور بعد انتصار الطوفان
من اللحظة الأولى لجلوس الوفد الفلسطيني المقاوم على طاولة المفاوضات في شرم الشيخ، وصولاً للإعلان عن “اتفاق وقف إطلاق النار” بصيغته الأخيرة، بدأ الإرباك الصهيوني يظهر جليا على المشهد الإعلامي، وتعزز ذلك باتهامات قادة العدو على وسائل الإعلام الصهيونية بالفشل والإخفاق الكبير بعد أن دخل الاتفاق حيز التنفيذ، وظهر في غزة مشاهد العزة والفرح والفخر الذي صدم الأعداء، وأكد من جديد أنّ العدو الصهيوني عجز وفشل في تحقيق أهدافه المعلنة من حرب الإبادة الجماعية على غزة، وهي استعادة أسراه بالقوة العسكرية، ما اضطره للخضوع لأبرز مطالب المقاومة الفلسطينية، والتفاوض غير المباشر حول وقف العدوان الهمجي على غزة، وإجراء صفقة التبادل.
على الرغم من حجم الإجرام الصهيوني، والتدمير الهائل، والأعداد الكبيرة للشهداء والجرحى، ورغم الحصار الخانق والمعاناة الشديدة، إلا أنّ الشعب الفلسطيني ظل صامداً في غزة، ولم تُكسر إرادته، واستطاع أن يثبت أنّه شعب مقاوم بامتياز، وأنّه شعب عظيم فريد في هذا العالم، بقدرته على تحمل الضغوط غير المسبوقة، وأنّه شعب متفوق بصلابة إرادته وعزيمته، وقدّم نموذجاً لم يسبق له مثيل في الإرادة الصلبة والإيمان الراسخ والصبر، ما أوصلنا إلى هذا الإنجاز المهم للمقاومة بمختلف مكوناتها، وللشعب الفلسطيني المجاهد.
شواهد الفشل الصهيوني في غزة
كثيرة هي الوقائع والشواهد على انتصار المقاومة الفلسطينية. بعد سريان وقف إطلاق النار انتشرت أجهزة حماس الأمنية لضبط الوضع في غزة، فيما باشرت البلديات عملها، إضافة إلى مظاهر التفاف الجماهير الفلسطينية حول المقاومة، وتصريحاتها المتداولة على وسائل الإعلام التي عبّرت عن فرحتها رغم غصة الألم.
أما المشهد في الكيان الصهيوني فقد بدت آثار الصدمة والإرباك الداخلي ظاهرة على وسائل الإعلام الصهيونية، والتجاذب وتقاذف الاتهامات، يعززها التهديدات بالاستقالات. إضافة للإجراءات الصهيونية المشددة لمنع مظاهر الفرح في الضفة الغربية والقدس باستقبال الأسرى الفلسطينيين المحررين ضمن صفقة التبادل.
هناك أيضاً مؤشرات أخرى تؤكد مدى فشل العدو، منها نجاح المقاومة في التصدي للعدو الصهيوني، واستنزاف جيشه، وتسطير ملحمة بطولية لم يسبق لها مثيل، وكذلك التنسيق غير المسبوق بين الفصائل الفلسطينية المقاومة على المستوى العسكري في غزة، وعلى المستوى السياسي خارج غزة. إضافة للصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني في غزة، وتحمله ما لا يستطيع أحد تحمله، من ضغوط ومعاناة في ظل حرب الإبادة الجماعية والتجويع والحصار. ووصول الأمر إلى المستوى المتقدم من التعاضد والتكافل الإنساني الملحوظ بين أبناء الشعب الفلسطيني في غزة. وكذلك النجاح في المعركة الإعلامية بإعادة الاعتبار للمقاومة الفلسطينية، ودحض مزاعم العدو وأكاذيبه، بعدما حاول الإعلام المعادي تشويه صورتها من جهة، وتسليط الضوء على المجازر والجرائم الصهيونية الوحشية من جهة ثانية.
ومن الآثار الكارثية للصمود الفلسطيني على العدو الصهيوني تصدع جبهته الداخلية، وظهور خلافات واسعة داخل قياداته السياسية والعسكرية، وتبادل الاتهامات حول المسؤولية عن الإخفاق الأمني والعسكري، وتزايد الانقسامات الحادة، وتصاعد وتيرة الانتقادات لـ”حكومة” العدو بسبب ضعفها الواضح في مواجهة المقاومة رغم الدعم المادي والعسكري المطلق من دول كبرى في العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا. يضاف إلى ذلك الشلل في الاقتصاد الصهيوني والحركة التجارية، بسبب طول الحرب من جهة، وسقوط صواريخ المقاومة في عمق الكيان من جهة ثانية، ما أدى إلى أضرار اقتصادية بالغة، وتعطيل الحياة اليومية، وخسائر فادحة في البنية التحتية.
إنّ عملية طوفان الأقصى محطة تاريخية مهمة من محطات المقاومة، ومهما كان الثمن باهظاً لا ينبغي الرضوخ لخيار الاستسلام، والتنازل عن الحقوق والأرض والمقدسات في فلسطين. وإذا سلّمنا جدلاً بأنّ المنتصر في الحرب هو صاحب اليد العليا، وأنّ اليد السفلى للمهزوم، فإنّ نتيجة معركة طوفان الأقصى حتى الآن تظهر أنّ المقاومة في غزة هي المنتصرة، وأنّ العدو الصهيوني قد مُني بالفشل والهزيمة.
وبناء على ما تقدّم، فإنّ من يقرر مستقبل غزة هو المنتصر، وهذا ما بدا جليّاً في المشهد الذي رآه العالم في غزة، منذ اللحظات الأولى لدخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ.
طوفان الأقصى وإحياء الدور الشعبي المقاوم
وفيما يتعلق بالإنجازات الاستراتيجية لعملية “طوفان الأقصى” فإن العملية وما أعقبها من تداعيات إقليمية ودولية أعادت للقضية الفلسطينية مكانتها المحورية، وجعلتها تحتل المكانة المركزية المتصدرة للمشهد العالمي بعدما أراد العدو أن تكون ضمن القضايا الهامشية، إضافة إلى التأسيس لأسلوب جديد من المواجهة يعتمد على المقاومة الشعبية بدلاً من الجيوش النظامية.
ربما تكون القضية الفلسطينية من أكثر القضايا ظلمًا وتعقيدًا في التاريخ الحديث والمعاصر؛ فالوقائع التي استطاعت القوى الاستعمارية فرضها في المنطقة وفي العالم عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية، لتصدير أزماتها الداخلية وفرض هيمنتها على العالم، وتشكُّل نظام استعماري تقوده الولايات المتحدة بعد الحرب الثانية هي التي منحت المشروع الصهيوني إمكان النجاح والتحقق كمشروع استيطاني احتلالي، وجعلت من مواجهة هذا المشروع في فلسطين والمنطقة مواجهةً مع القوى الاستعمارية نفسها. وبالتالي، اتخذت المواجهة الرسمية العربية مع هذا المشروع والدعم الغربي له منحىً انكساريًا، منذ نكسة عام 1948 التي أُعلن معها قيام «إسرائيل»، مرورًا بحرب عام 1967 التي انتهت بهزيمة عربية كبرى، وبإقرار الدول العربية بحق اليهود الصهاينة في الوجود على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، ثم بحرب عام 1973 التي انتهت باتفاقية كامب دايفيد وتقييد مصر، ثم بحرب 1982 في لبنان، التي استهدفت المقاومة الفلسطينية في الخارج، إلا أن عملية طوفان الأقصى المباركة في الـ7 من أكتوبر 2023 استطاعت أن تؤسس لعصر جديد من المواجهة المسلحة ضد الكيان الصهيوني، يقوم على اعتماد الشعوب على قدراتها بعيدا عن أنظمتها المرتمية في أحضان المشروع الصهيوني.
ويمكن الإشارة -في هذا الصدد- إلى أن أخطر مظاهر الانكسار العربي حدث بعد حرب الخليج الثانية عام 1991، التي أسست لنظام رسمي عربي يخضع للهيمنة الأمريكية، الانكسار الذي تكرس بانهيار الاتحاد السوفياتي في العام نفسه، وينحو باتجاه التخلي عن القضية الفلسطينية، وهو ما تم التأسيس له في “مؤتمر مدريد” في العام نفسه ثم في مسار “أوسلو” عام 1993، ثم حاولت الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي استكماله وإزالة العقبات التي وضعت أمامه بالقوة، فكان غزو العراق عام 2003، ثم حرب لبنان عام 2006، حتى جاءت تحولات الربيع العربي، التي انتهت بتدمير أو إنهاك من تبقى من دول عربية ممانعة للتطبيع مع الكيان الصهيوني، والمتخلي عن القضية الفلسطينية.
لكن في ظل هذا المنحى العام الانهزامي للنظام الرسمي العربي تجاه القضية الفلسطينية، كان مشروع المقاومة ينمو في لبنان منذ عام 1982، ثم امتد إلى فلسطين، وما لبث هذا المشروع أن توسّع إلى العراق واليمن في مراحل لاحقة. وهكذا نشأت المقاومة كحالة عسكرية وحيدة تقود الصراع في وجه المشروع الصهيوني ومشاريع الهيمنة الأمريكية في المنطقة، مقابل جيوش عربية عاجزة أو غير معَدَّة ولا مهيأة لخوض حرب ضد العدو الإسرائيلي. فبدأت قوى المقاومة تؤسس لمعادلات جديدة للمواجهات العسكرية مع الكيان الصهيوني، وهي مقاومة وُلدت من خارج صندوق النظام الرسمي العربي، وأسست لمرحلة جديدة انتقل مركز التأثير فيها من يد النظام الرسمي العربي وجيوشه المدافعة عن أنظمتها السياسية وحسب، إلى أيدي قوى شعبية أخذت تتحمل أعباء الدفاع عن القضية الفلسطينية، والصراع مع الإسرائيلي ومواجهة الهيمنة الأمريكية في المنطقة.
ومن هذا المنطلق فقد أدت عملية “طوفان الأقصى” إلى تقوية محور المقاومة الذي أثخن الجراح في العدو الصهيوني: ففي لبنان خاضت المقاومة الإسلامية معارك شرسة كبدت العدو الصهيوني خسائر كبرى لا يتسع المقام لذكرها، إضافة إلى ذلك العمليات العسكرية للمقاومة الإسلامية في العراق، وكذلك العمليات الانتقامية التي نفذتها الجمهورية الإسلامية في إيران، وصولاً إلى النجاحات التي حققتها القوات المسلحة اليمنية بفرض الحظر البحري على الملاحة الإسرائيلية واستهداف عمق الكيان الصهيوني بأكثر من ألف صاروخ وطائرة.
كل هذه الجهود مجتمعة مع العمليات البطولية للمقاومة الفلسطينية أدت إلى تكبيد العدو الصهيوني خسائر بشرية ومادية كبرى، أجبرته -في نهاية المطاف- للرضوخ لشروط المقاومة، والقبول بوقف إطلاق النار عبر اتفاق كان العدو يرفضه جملة وتفصيلا بداية المعركة.
واليوم نحن أمام مشهد مغاير لما أراد العدو الصهيوني أن يرسمه، فغزة بقيت صامدة، والشعب الفلسطيني متشبث بأرضه. أما خارج فلسطين فقد اكتسب محور الجهاد والمقاومة خبرات في مختلف الجوانب، أكسبته منعة قوية، وكشفت له نقاط الضعف والقوة لدى العدو الصهيوني، وتعمل الآن على الإعداد للجولة المقبلة من المواجهة مع العدو بالشكل الذي تكون فيه أكثر تأثيرا وتنكيلا به.