حين انتصر الرسول صلى الله عليه وآله

بقلم د. حمود الأهنومي

كان الفتح الأعظم لمكة المكرمة ذروة المواجهة بين جاهلية الكفر وثورة الإسلام، جاهلية الكفر التي كانت تروج الأوهام والتصورات الخاطئة تجاه الكون، وتدعم التمويل غير المشروع، والإفساد في الأرض، ولا تعترف للإنسان بقيمة سوى قيمة النسب والمنصب والجاه والمال، بينما ثورة الإسلام جاءت لتصحيح مفاهيم التوحيد والإيمان بالله الواحد الأحد، وتقف إلى صف الإنسان، وتؤسس وعيا بأهمية تكريمه واحترامه لأنه ابن آدم وذو روح، ، وحرمت استغلاله استغلالا سيئا.

إن أول مهمة قام بها الرسول صلى الله علهي وآله وسلم غداة الانتصار هو أن أعلن الدين الحق سواء ما له علاقة بالتصور الإسلامي الصحيح أو ما له علاقة بالتعاملات بين الناس بعضهم بعضا، فوضع الملامح والظروف العامة التي يجب أن تحكم الجميع بحسب نظرية الإسلام تحت التنفيذ، لقد أدخل نظام الإسلام بجميع مجالاته في مجال الواقع، وقضى فعليا على كل المفاهيم والطرائق والمآثر الجاهلية التي تناقض هذا الدين، فكسر الأصنام، وأعلن التوحيد، وألغى الربا، ووضعه تحت رجليه، وأعلن للملإ المستكبرين أن الإسلام يعتبر الكفاءات والقيم والحقوق أولا، قبل أي معيار آخر.

لقد كان نداؤه وشعاره (جاء الحق زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا)، وفي هذا ما يشير لصياغة تلك المرحلة الجديدة من الحياة الإسلامية في جميع علاقاتها المختلفة.

حينما انتصر صلى الله عليه وآله وسلم ودخل مكة منتصرا ظافرا، كاد أن يمس عثنونه (أطراف لحيته) واسطة رحله حمدا لله وتواضعا لله، فلم يكن مزهوا، ولا منتقما، ولا متجبرا. ولدى المسلمين ثروة هائلة في هذا الصدد، تبرهن لهم بشكل كبير لا يقبل الجدل أن الغرور والإعجاب بالذات ما دخل في نصر إلا أفسده وبسرعة كبيرة، ولا في قوم إلا شوّههم وهزمهم في أنفسهم قبل غيرهم، إنه وضع سوف لن يشجع أعداء الخارج فقط على الثورة المضادة، بل يصنع ناقمين من الداخل، ألم يعترض هذا الخلق الوبيء صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حنين فعوجلوا بالهزيمة في ذات الموقف.

ينبغي القول أنه لم يعرف التاريخ فاتحا مثل هذا النبي الكريم الذي دخل أحب البلاد إليه والتي آذاه فيها قومه وحاولوا قتله ثم طردوه وترصدوا له وشنوا عليه الحروب لكي يقتلعوا وجوده، فما كان منه عند انتصاره على هؤلاء الأعداء إلا أن جازاهم بالصفح والحلم، لقد علّم العالَمين كيف تكون أخلاق النبيين، ومن سار على هديهم من القادة المصلحين تواضعا وحلما وصفحا وبناء للأمة العظيمة، وإن كلمة (اذهبوا فأنتم الطلقاء) لتتردد في صدى التاريخ المضيء والكبير بما يجعل الجميع ينحني إعجابا وإكبارا. عفى عنهم ليستفيدوا من الوضع الجديد بتهيئة أنفسهم لهذا الدين، وليتم تهذيب نفوسهم وإعادة صياغتها بحسب معايير المرحلة الثورية الإسلامية الجديدة. إنها الفرصة التي هي من مقتضيات عدل الله ورحمته بعباده لعلهم يتذكرون أو يعودون إلى رشدهم.

حين علمنا رسول الله الرقي في التعامل مع النفس البشرية، فإن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال الإبقاء على الظروف الموضوعية المختلفة التي تكرّس الجاهلية وتعيد أنشطتها ومخرجاتها، بل وضع ظروفا جديدة بأن أعلن في خطبته التي ختمها بالعفو عنهم كثيرا من ملامح المرحلة الجديدة في المجالات المختلفة، لقد هدم كل مآثر الجاهلية التي صنعت ذلك الكفر بالله وأنتجت ذلك الطغيان بالعباد، ها هو الآن ذلك العبد الحبشي (بلال) يؤذن على ظهر الكعبة بكلمة التوحيد، وبشعائر الإسلام الأساسية، رغم أن نفوس هؤلاء الطلقاء كان تغلي وتضطرم غيظا، كيف يعتلي ظهر الكعبة عبد حبشي أسود، لقد أحل شرائع الإسلام المختلفة محل كل تلك الأعراف الجاهلية، وانتقل بالناس نحو حياة التمدن الحقيقية التي رضيها الله لعباده.

هناك أيضا علمنا صلى الله عليه وآله وسلم كيف نتعامل حين ننتصر مع الذين كان لهم دور مساير للفطرة، فقد أراد بعضهم انتزاع مفاتيح الكعبة من بني عبد الدار، فأعلن صلى الله عليه وآله وسلم أن يوم الفتح “يوم بر ووفاء”، فما أحرى المنتصر منا حين ينتصر أن يكون بارا برفقته وفيا معهم منتصرا للأدبيات والأخلاق التي طالما ترددت في أوساطهم. إن هذا يشير إلى أهمية اجتنابنا لأخلاق اللئام، وأن نمضي على سَنن الكرام، فنؤدي لكل ذي حق حقه.

إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبني الأمة التي أرسله الله إليها، استدعى عتاب بن أسيد، وعمره بضع وعشرون سنة، ولاه أمر مكة المكرمة، وهناك من ملإ قريش، وقادتها المحاربين، وكبرائها المتعظمين، لكنه ترك جميعهم وولى هذا الشاب الصغير صاحب الكفاءة والنشاط والأمانة، لأن الولاية أمانة على حياة الناس وأموالهم وحقوقهم وكرامتهم وأعراضهم.

إذا كنت أنت قد ثرت على الانحراف أيا كان ذلك الانحراف ثم تركن إلى منحرف لم يقدم دليلا كافيا على تغيره بما يكفي، فإن ذلك يعني أنك أخرجت ذلك الانحراف من النافذة وأدخلته من الباب، إن هذا يفيدنا أن لا نتخذ المضلين عضدا.

قد يبقي القائد المصلح على أناس طالما ركبوا موجة الانحراف ولكن يجب أن يكون ذلك في ظل وضعٍ مستقرٍ تحكمه ظروف وملامح موضوعية تتطابق مع أهداف الإسلام وغاياته العظام، ولكن لا يمكن أن يبقي على مفسدين ويمكنهم من الولايات الخطيرة المتحكمة والتي لا يؤمَنون حينها أن يعودوا بالأمة إلى حالة الارتكاس والتراجع، وإلى عهد الانحراف السابق.

إن هذا وضع خطير، يعطي الثورة المحقة وضعية منحرفة، إنها وضعية (الخبال) التي تحدث عنها القرآن الكريم، (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا)، (ما زادوكم إلا خبالا)، والخبال هو الفساد الذي يجتاح الأعضاء فتورثها اضطرابا.

هذا الخبال هو الجسر الذي من خلاله ستعود وضعية الانحراف بالأمة مرة أخرى، وهذا ما يجب الحذر منه.

قد يعجبك ايضا