سياسي عربي يكتب : اليمن «السعيد» بأمجاده!

في التاريخ أن اليمن كان «سعيداً»، أو «الأرض العربية السعيدة»، كما وصفه العالم اليوناني بطليموس. يعود ذلك إلى أمرين: الأول، حضارة عظيمة جعلته منبع ابتكار وإبداع في حقول شتى. الثاني، الخصب، وإنجازات معتبرة في مجال الري والزراعة عبر السدود وأشهرها في التاريخ «سد مأرب» الذي استتبع انهيارُه تحولات وهجرات فاضت عرباً عاربة تشكّلت منها معظم القبائل العربية.

في إقليم «سبأ» اليمني كانت الملكة الحكيمة «بلقيس» التي حمل إليها هدهد النبي سليمان رسالة إيمان وهداية، فاستجابت وقومها للدين الحنيف. في التراث الديني أيضاً، أن «عدْن» مقر الـ«جنان» أو الجنَّات التي بُشّرَ المؤمنون بنظيرتها بعد «النشور»، حيث «يكون حساب ولا عمل»، يتطابق اسمها، على اختلاف بسيط في اللفظ، مع مدينة عدن في جنوب اليمن على ساحل خليجها في «بحر العرب» المقفل، حتى وقف الإجرام وحرب الإبادة، في وجه العدو والمتعاملين معه.

اليمن المعاصر الذي احتفظ شعبه بخصال الشجاعة والمروءة والكرامة، ليس على هذه الصورة «السعيدة» التاريخية بشكل عام. جملة أحداث: منذ استعمار جنوبه، وبعد تحريره من الاستعمار البريطاني، إلى خيبات الانقسام والانفصال، إلى انهيار التجربة الاشتراكية، الأولى والوحيدة عربياً في جنوبه على النمط السوفياتي، زادت في عدم استقراره.
منعت «أنصار الله» مصادرة انتفاضة الحرية الشبابية الشعبية اليمنية لعام 2011، من قبل واشنطن، كما حصل في معظم بلدان «الربيع العربي».

أثار ذلك قلقاً غير مشروع، لدى سلطات المملكة السعودية التي سبق وتدخّلت، بالقوة، لقمع انتفاضة أكثرية الشعب البحريني السلمية، عبر «قوات درع الجزيرة» في منتصف آذار عام 2011. تكرار التجربة في اليمن من قبل الجارة الكبرى وحلفائها، أدى إلى خسائر كبيرة وفاقم في الإفقار الذي بلغ حد الجوع الذي ضرب شريحة كبيرة جداً من السكّان… لكن نظام «أنصار الله» في صنعاء صمد في وجه خصوم الداخل، وألحق بالمعتدي السعودي وحلفائه وداعميه الأميركيين، هزيمة كبيرة، ما أدى إلى انسحاب الوحدات العسكرية الغازية لتدارك خسائر أكبر وهزيمة أفدح.

أشرت نتائج الحرب على صنعاء إلى تبلور حالة، أو تجربة، لافتة فيها: الجمع ما بين الثورة الشعبية والدولة، الميليشيا الحزبية والجيش النظامي، بالاستناد إلى عقيدة دينية تعمّق بُعدُها التحرري عبر التحالف مع قيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمقاومة الإسلامية اللبنانية. تأكّد ذلك في الرد السريع والمدهش من قبل صنعاء على الحرب الصهيونية الأطلسية البربرية والهمجية على عملية «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر عام 2023.

بدأت مفاجآت اليمن، منذ اللحظات الأولى، حين أعلنت انخراطها في حرب «الإسناد» عبر فرض حظر على السفن الإسرائيلية وتلك المتوجهة إلى موانئ العدو. وهي، كما كان متوقعاً، وجدت واشنطن في مواجهتها دعماً للعدو وتأكيداً للدور المهيمن لواشنطن في كل الممرات ذات الطابع الإستراتيجي في حركة التجارة العالمية. لم يعبأ اليمنيون بالتهديدات الأميركية، واصلوا الحصار، ثم تصدّوا للهجوم الأميركي والبريطاني بشجاعة وتصميم وكفاءة، مؤكدين استعدادهم للمضي قدماً مهما كان الثمن. صنعاء بعيدة ولم تكن في الماضي لا جبهة مواجهة ولا جبهة مساندة.

كانت المقارنة بين موقف نظامها ونظام الرئيس بشار الأسد تشير إلى حجم الجرأة والإقدام والشعور بالمسؤولية العروبية والقومية التحررية مهما غلت التضحيات. المراحل اللاحقة كانت أكثر دلالة وأكثر خطورة حين استمرت صنعاء في الإسناد رغم وقف إطلاق النار الملغوم بالخداع الأميركي والغدر الإسرائيلي على الجبهة اللبنانية. في السياق توقف أيضاً التوتر وتبادل التهديدات والغارات بين طهران وتل أبيب.

رغم ذلك أيضاً واصل اليمنيون مسارهم عبر عملية مثلثة: استمرار فرض الحصار على موانئ العدو في البحرين العربي والأحمر، التصدي للعدوان الأميركي الكبير ثم البريطاني الهادف إلى وقف الحصار، تطوير استهداف العدو مع تصعيده حرب الإبادة والقتل والتهجير ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية المحتلة، وتوسيع الحصار إلى الجو، والنجاح الكامل رغم عمليات القصف الأميركية الشاملة، في تعطيل مطار «بن غوريون» وتخطي شبكة الدفاع الإسرائيلية الأميركية كلها! لقد تواصل الهجوم اليمني بالمسيرات والصواريخ البلاستيكية الـ«فرط صوتية»، كما حدث في الأيام الأخيرة، ما أصاب ملايين المستوطنين الإسرائيليين بالذعر والهلع بشكل عام وشبه يومي.

ما حصل أن صنعاء انتقلت، أخيراً، بقراراتها الجريئة والشجاعة، ونجاحاتها المدهشة، من «حرب الإسناد» إلى الحرب الشاملة والمباشرة. الأكثر إثارة، أن ذلك قد ترك إرباكاً لا يخفى على مواقف الطرفين الأميركي والإسرائيلي وعلى العلاقة بينهما. أمِلت تل أبيب أن تورط واشنطن في حرب شاملة ضد صنعاء وطهران أساساً. أمّا واشنطن، فقد كان لها رأي آخر. خسائرها الفادحة المتصاعدة فرضت على الرئيس ترامب تراجعاً مبكراً فاجأ تل أبيب وخيّب رهاناتها. لقد صنعت صنعاء معجزة حقيقية!

ميزة النهج اليمني، في هذه المرحلة، هي بتفرده، ليس فقط على نطاق المنطقة العربية والإسلامية الصامتة بسبب تواطؤ وخيانة الكثير من حكامها، بل حتى على مستوى العالم بأسره الذي يراقب بتواطؤ أو بصمت أو بعجز، الإجرام الفاشي الصهيوني الأطلسي الذي يدمر، مع عمران غزة وأطفالها ومدنييها، كل القيم الإنسانية والحضارية على مرأى ومسمع من كل دول العالم ومؤسساته الأممية والقارية والمحلية.

ربما ينبغي القول، في امتداد ذلك، إن صنعاء تمثّل، في هذه المرحلة، ضمير البشرية الذي لم يمت واستمر حياً وحاضراً، وتنقذ بعض شرفها المهدور في حرب الإبادة في غزة التي تضحي، كما لم يفعل إلا قلائل في التاريخ، من أجل العدالة والحرّية والسعادة!

سعد الله مزرعاني كاتب وسياسي لبناني السبت 10 أيار 2025

قد يعجبك ايضا