ضربة على الخاصرة.. اليمن المُعادِل الاستراتيجي المفاجئ
في اللحظة التي تُسقِط فيها طائرة مسيّرة يمنية مظلة من القلق، فوق أجواء “مدينة إسرائيلية”، لا يكون الهدف مجرد منشأة أو مطار، بل البنية العميقة لمشروع الهيمنة “الإسرائيلي” نفسه. ما نشهده، اليوم، من اختناق اقتصادي وتوتر تجاري في كيان الاحتلال ليس صدفة عابرة، هو نتيجة منطقية لتراكمات استعمارية وسلوك استيطاني قائم على منطق الإفلات من المحاسبة الدولية، والرفض التام لأي بنية إقليمية عادلة.
الاقتصاد في خدمة القوة… والانعكاسات حين تهتزّ السيطرة
لطالما وُظّف المشروع الصهيوني الاقتصاد أداة لإنتاج الاستقرار الداخلي والتفوّق الإقليمي، مستندًا إلى دعم غربي غير مشروط، واستثمار أجنبي يغذّيه وعد الاستقرار المزيف. غير أن الضربات الصاروخية والمسيّرات اليمنية، بما تُمثّله من تحدٍ رمزي واستراتيجي، بدأت تعيد رسم حدود الجغرافيا السياسية، لا من خلال التوغّل الجغرافي، بل عبر خنق المسارات الاقتصادية.
في نظام عالمي مهووس بسلاسل التوريد وكفاءة المرافئ البحرية، تتحوّل كل سفينة مؤمّنة بثلاثة أضعاف تكلفتها السابقة إلى رصاصة ضد رواية “إسرائيل القوية”، وإلى مؤشر على أن التكاليف لم تعد تُدفَع فقط في غزة أو جنوب لبنان، أيضًا في “تل أبيب” وحيفا ومطار “بن غوريون”.
اليمن يرسم حدود النار على جسد الهيمنة “الإسرائيلية”
إن ما يقوم به اليمن، في استهداف خطوط الملاحة البحرية المرتبطة بـــــ”إسرائيل”، لا يُقاس فقط بمدى تدمير السفن أو تعطلها، أيضًا بقدرته في تحطيم هيكل “القوة النّاعمة” التي حاولت “إسرائيل” بناءها منذ اتفاقات أوسلو مرورًا بـ”أبراهام”، وانتهاءً بتسويق نفسها مركزًا آمنًا للاستثمارات والتكنولوجيا.
عندما ترتفع أقساط التأمين بنسبة 300%، ويتردد المستثمرون في دخول السوق “الإسرائيلية” بسبب المخاطر الإقليمية، فذلك يعكس خللًا في “البيئة الأمنية”، ويعكس تبدّلًا في مفهوم الردع نفسه، حيث لم تعد “القبة الحديدية” ولا السياسات التحفيزية كافية لطمأنة رؤوس الأموال.
مهدي المشاط (القائد الأعلى للقوات المسلحة) لا يتحدث بلغة رجل سياسة، بل بلغة “السوق العالمية”. يعرف كيف يقرأ بيانات الاستثمار العالمي، ويوجّهها كسلاح استراتيجي. تصريحه العلني بدعوة الشركات للانسحاب من “إسرائيل” هو بحد ذاته إعادة صياغة لمفهوم “المقاومة الاقتصادية”، وللتفاعل مع رأسمالية معولمة باتت أكثر حساسية تجاه التهديدات غير المتماثلة.
أزمة السيارات.. رفاهية السوق في مهبّ الانكماش الأمني
لا يمكن فصل ما يجري في سوق السيارات الكهربائية، من ارتباك الوكلاء وتخزينهم آلاف المركبات، عن مشهد أوسع من فقدان القدرة في التنبؤ. إذ إن الاقتصاد “الإسرائيلي”، والذي كان يُفاخِر بنموذجه المرن، يجد نفسه اليوم أسيرًا لسياسات جمركية متعجلة وانكشافات لوجستية وهجمات خارجية أربكت انتظام السلاسل التجارية. هذه الأزمة الكامنة في تفاصيل تسجيل “مالك ثانٍ” لمركبات كانت تُعدّ واجهة للحداثة الاقتصادية، تعكس هشاشة العمود الفقري لسوقٍ يعتمد على السرعة والثقة والتصدير الاستهلاكي. أما الخصومات الحادة التي تتجاوز 20%؛ فهي ليست إلا محاولة للالتفاف على حقيقة أعمق، وهي: الركود قادم، وإن ارتفعت الأرقام الظاهرة.
الطيران في سقوط تدريجي
قطاع الطيران هو القطاع الأكثر حساسية لأي خلل أمني، لأنه يتعامل مع الخوف بأنها نقطة ارتكاز. تقليص الرحلات من شركات كبرى مثل Lufthansa وKLM ليس قرارًا اقتصاديًا فحسب، هو قرار سياسي – أمني يحمل رسالة واضحة: “إسرائيل” لم تعد استثناءً، هي باتت ساحة نزاع مكشوفة، كما باقي المناطق غير المستقرة في العالم. وحين تُجبر خطوط الشحن الجوي على رفع أسعار التأمين أو مراجعة رحلاتها، فذلك لا يعني فقط تراجع حركة الطيران، أيضًا يعني تعطّل منظومة كاملة من التجارة الدولية العابرة، ترتكز فيها “إسرائيل” على الاستيراد والتصدير عالي الكفاءة.
رأس المال الخائف لا يصنع استقرارًا
حين يتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 22%، في عام واحد، فهذا ليس رقمًا عارضًا، هو علامة تحذيرية على مستوى الثقة الدولي في استمرار “المعجزة الاقتصادية الإسرائيلية”. لم تكن هذه الثقة يومًا ناتجة عن مؤشرات اقتصادية مجرّدة، كانت ضمانات استراتيجية أميركية وغربية بعدم المساس بالبنية الاقتصادية.
لكن ماذا يحدث حين تبدأ هذه الضمانات بالتآكل تحت وقع الطائرات المسيّرة، وصور السفن المشتعلة في البحر الأحمر، وتصريحات يمنية تصيب المستثمرين في مقتل؟ ببساطة: يتحوّل رأس المال إلى طائر خائف يفرّ من مواقع التوتر، ويترك خلفه فراغًا لم تعتد عليه “إسرائيل” في اقتصادها.
قراءة في العمق.. “إسرائيل” ليست استثناءً
إن الإمبراطوريات تسقط حين تفقد قدرتها في إدارة التناقضات بين الداخل والخارج. هذا هو تمامًا ما تواجهه “إسرائيل”: اقتصادٌ قائم على استيراد شبه كلي، يواجه تدهورًا في أمن الموانئ والمطارات؛ و”مجتمع” استهلاكي مشحون، يواجه تضخم التكاليف وخوف المستثمر.
تقرير وزارة المالية “الإسرائيلية” يقدّر الخسائر المحتملة بـ1.2% من الناتج المحلي. وهذا ليس مجرد رقم، هو إقرار داخلي بأن “الهامش” – أي اليمن، أو غزة، أو حتى حزب الله – بات قادرًا على إحداث شلل نسبي في المركز.
نهاية الحصانة؟
لم تعد “إسرائيل” قادرة على الحفاظ على “الحصانة الاقتصادية” التي كانت سلاحها السري أمام الانتقادات السياسية أو المقاومة الشعبية. وحتى لو ظلّ الدعم الأميركي على حاله، فإن العالم والأسواق والمستثمرين، يتعاملون مع منطق آخر: المخاطرة والربح، لا الأخلاق أو التحالفات.
لقد كُسِرت صورة الكيان الاقتصادي النموذجي، ليس فقط في الأسواق، حتى في الوعي العام الإقليمي. لم يعد ممكنًا النظر إلى “تل أبيب” أنها وجهة موثوقة، لا للسياحة ولا للاستثمار ولا حتى حلقة وصل بين الشرق والغرب.
الاقتصاد مرآة للاختلال الأخلاقي
حين تنهار الثقة بالاقتصاد، لا يكون السبب فقط في ضربات عسكرية أو مسيّرات دقيقة، بل في طبيعة المشروع نفسه: كيانٌ بُني على نفي الآخر، واستغلال الأرض، وتكريس القمع أداةً للاستقرار. في النهاية، يدفع الاقتصاد ثمن الغطرسة السياسية. وحين تُصاب سلسلة التوريد بالشلل، وتُفرّغ الأسواق من المشترين، يُضرب الاقتصاد، وتُضرب معه أسس الفكرة الصهيونية نفسها ككيان قابل للحياة.
النصف الثاني، من العام 2025، هو لحظة اختبار اقتصادي، ولكن الاختبار الأكبر أنه اختبار وجودي لفكرة “إسرائيل” في محيط بات أكثر جرأة ووعيًا وقدرة على المسّ بنقاط ضعف لم تكن مرئية من قبل
موقع العهد : محمد الأيوبي كاتب صحفي فلسطيني