غنائم حنين روح الأنصار تتجدد في غزة

عبدالرحمن الحمران

لم تكن معركة حنين مجرّد صفحة عسكرية عابرة، بل لحظة فارقة كشفت عن عمق الحكمة النبوية في إدارة النفوس، وامتحانًا دقيقًا لصفاء القلوب.

فبعد النصر الكبير، تكدّست الغنائم بأعداد لم يعرفها العرب من قبل، واشتعلت شهية الطلقاء والأعراب الجدد الذين ما زال الإسلام في قلوبهم طريًا.

النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي جاء ليبني أمة لا لتغريها الغنيمة، وقف أمام هذا المشهد بحكمة القائد المربي, بدأ بتوزيع الأعطيات على المؤلفة قلوبهم من زعماء قريش وسادات القبائل, أعطى أبا سفيان وأبناءه، وصفوان بن أمية، وغيرهم من حديثي العهد بالإسلام, فتعالت الأصوات: “إن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر”و كانت قلوبهم معلقة بالبعير والفضة، أما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان يوزّع العطاء ليزرع الإيمان، ويتألف القلوب.

لكن في الجانب الآخر، كان هناك الأنصار, رجال المدينة الذين آووا ونصروا، الذين ثبتوا حين فرّ الآخرون في حنين، الذين حملوا على أكتافهم الدعوة يوم كانت غريبة محاصرة, وهؤلاء لم ينالوا شيئًا من الغنائم, أحسّ بعضهم بالمرارة، وقال قائلهم: “لقد لقي رسول الله قومه” .

عندها جمعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حظيرة، وألقى فيهم خطابًا من أعمق ما سجّلت السيرة: ذكّرهم بماضيهم يوم جاءهم طريدًا فآووه، فقيرًا فأغنوه، خائفًا فأمّنوه. ثم قال: (أوجدتم في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألّفت بها قومًا أسلموا، ووكلتكم إلى ما جعل الله لكم من الإسلام؟! أفلا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟).

انفجرت عيون الأنصار بالدموع، وبكوا حتى ابتلّت لحاهم. عندها سجّل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسامًا خالدًا في جبين التاريخ: (فو الذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا، لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار).

وسيظل درس الأنصار حاضرًا: أن بناء الأمم لا يقوم على المكاسب الآنية ولا على فتات الغنائم، بل على الرجال الذين يقدّمون الدين على الدنيا، والمبدأ على المصلحة, والأنصار لم يكونوا أصحاب حسابات ضيقة، بل أصحاب رسالة.

فموقف الأنصار يوم حنين، حين ارتفعوا فوق الغنائم وارتضوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسمًا، هو نفسه ما ينعكس اليوم في موقف أبناء الأنصار في اليمن تجاه غزة وفلسطين حين تركوا مطامع الدنيا، وصبروا على الحصار والجوع والشدائد، لكنهم لم يتخلوا عن نصرة الحق، ولم يقايضوا قضيتهم بفتات المال أو إغراءات السياسة.

أما الذين غرتهم الغنائم يومها، فقد أخذوا نصيبهم من الدنيا ومضوا، لكن الأنصار أخذوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، ومحبته، وثناءه، ودعاءه: «اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار».

وأمتنا اليوم أحوج ما تكون إلى روح الأنصار، إلى رجال لا تهزّهم مغريات الدنيا ولا تربكهم أراجيف الطغاة والمستكبرين, وأبناء اليمن – أحفاد الأنصار – يمثلون الامتداد الأصيل لذلك الخط، وقد عبّر عن هذا الفخر الشاعر الكبير عبد الله البردوني في قصيدته فجر النبوة قائلاً:

أنا ابنُ أنصارِك الغرِّ الألى قذفوا               جيشَ الطغاةِ بجيشٍ منك جرَّار

نحن اليمانين يا “طه” تطيرُ بنا                  إلى روابي العلا أرواحُ أنصار

إذا تذكَّرت “عمَّاراً” ومبدأَهُ                       فافخر بنا: إنَّنا أحفادُ “عمَّار”

 

 

 

قد يعجبك ايضا