عامان على طوفان الأقصى: حين انتصرت الإرادة وتكشّفت الحقائق
حين تدبّ الذكرى في الزمن، يغدو الماضي حاضرًا تتحسّسه الأعين ويسمعه القلب، ويظلّ يوم السابع من أكتوبر 2023 واحدًا من تلك اللحظات التي تغيَّرت فيها الموازين، وتبدَّلت الحسابات، وتشدَّدت فيها كل الأسئلة. عامان مرّا: عامان تُمتحن فيهما الأوضاع من كل زاوية، وتُقاس فيهما الأبعاد، من ميدانية إلى انسانية، من سياسية إلى أخلاقية. هذا التقرير محاولة لتجميع أجزاء الحكاية، وإعادة بناء الرواية في ضوء ما تكشّف من أسرار، وآثار ما زالت تستوطن الذاكرة.
عامان مرّا، وما زال صدى ذلك الصباح يتردّد. عامان من الحرب والدمار، من الصمود والمعجزات، من التفاوض من موضع القوة، لا الاستجداء، حتى جاءت اللحظة التي اعترف فيها العدو بما حاول إنكاره: لا طريق لخلاص أسراه إلا عبر تفاوض مع المقاومة، ولا نهاية للمعركة إلا بانسحاب كامل.
لم يكن العدو الإسرائيلي مستعدًا للصدمة، بل إن ارتباكه كان جزءًا من نصر المقاومة. في الساعات الأولى لعملية طوفان الأقصى، سقطت العديد من المستوطنات في “غلاف غزة”، أسرى بالمئات (ضباط، قادة ميدانيون)، وارتباكٌ شامل داخل الكيان. وهنا كانت البداية الفعلية لهزيمةٍ طويلة. أراد العدو الإسرائيلي أن يستعيد هيبته عبر عملية انتقامية شاملة، فأطلق أعتى عدوان عرفته البشرية، استهدف فيه كل ما هو حيّ، من الشجر إلى البشر، من المساجد إلى الحضانات، من البيوت إلى المستشفيات، لكنه ــ رغم كل ذلك ــ فشل.
فشل في إعادة أسراه. فشل في اختراق منظومة المقاومة. فشل في تقديم صورة النصر حتى لرأيه العام. والأنكى من ذلك أنه اضطر في النهاية ــ بعد عامين من الدم والمجازر ــ للقبول بما رفضه سابقًا: الجلوس مع المقاومة، والتفاوض معها، وفق شروطها.
كانت المفاوضات التي أجرتها المقاومة الفلسطينية في شرم الشيخ بمصر حدثًا دبلوماسيًا، بقدر ما كانت إعلانًا بانتصار الإرادة الفلسطينية. المقاومة تفاوض من الموقع الأعلى، من امتلاك أوراق القوة، وفي القلب منها ورقة الأسرى.
ويوم الأربعاء تم إعلان الاتفاق في عدة مراحل، لكن هذا الاتفاق يقرّ بعدم إطلاق سراح أي جندي إسرائيلي إلا ضمن صفقة تبادل شاملة. اتفاقٌ أنهى الحرب، فرض انسحابًا كاملًا لقوات العدو من غزة، فتح المعابر، وأدخل المساعدات. والأهم، أنه لم يتطرّق -لا من قريب ولا بعيد- إلى نزع سلاح المقاومة، أو شروط العدو المسبقة.
رئيس حركة المقاومة الإسلامية حماس في قطاع غزة رئيس الوفد المفاوض الدكتور خليل الحية، أعلن التوصل لاتفاق لإنهاء الحرب والعدوان على الشعب الفلسطيني والبدء بتنفيذ وقف دائم لإطلاق النار وانسحاب قوات العدو الإسرائيلي ودخول المساعدات وفتح معبر رفح في الاتجاهين، وتبادل الأسرى حيث سوف يطلق سراح 250 من أسرى المؤبدات و1700 من الأسرى من أبناء قطاع غزة الذين تم اعتقالهم بعد السابع من أكتوبر فضلا عن إطلاق سراح الأطفال والنساء جميعا.
وقال الحية، إن الحركة تسلمت ضمانات من الوسطاء ومن الإدارة الأمريكية مؤكدين جميعًا أن الحرب انتهت بشكل تام، وسنواصل العمل مع القوى الوطنية والإسلامية استكمال باقي الخطوات والعمل على تحقيق مصالح شعبنا الفلسطيني وتقرير مصيره بنفسه وإنجاز حقوقه إلى حين إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.
وفي كلمته، وجه تحية لمن شارك الشعب الفلسطيني الدم والمعركة من أمتنا في اليمن ولبنان والعراق والجمهورية الإسلامية في إيران.
القيادي في حركة المقاومة الإسلامية حماس أسامة حمدان، كشف أنَّ الاتفاق الذي وافق عليه الطرفان هو وقف نهائي للحرب على غزة، وأنه لن يجري تبادل الأسرى إلا إذا أعلن اتفاق يقضي بإنهاء الحرب. وأكد أنَّ النقطة الأساس في هذا الاتفاق هي وقف الحرب على قطاع غزة. وأشار إلى أنَّ الوسطاء قدموا ضمانات بأن كيان العدو لن يخرق الاتفاق.
في ما يتعلق بإدارة قطاع غزة أكد حمدان أنه شأن وطني ولن نسمح بأي تدخل خارجي، مؤكدًا أنه “من يريد أن يساعد شعبنا فليفعل ذلك بعيدا عن سيناريوهات الانتداب والوصاية”. وأوضح أنَّ الفصائل قدمت مقترحا من 40 اسما لتولي مسؤولية إدارة قطاع غزة، مؤكدًا أن إدارة غزة يجب أن تكون من شخصيات وطنية فلسطينية، من دون تدخل “إسرائيلي”.
لقد أثبتت المقاومة أن الكيان الصهيوني هشٌّ من داخله، متآكلٌ في بنيته، مترنّحٌ في أخلاقه. عشرات الآلاف من القتلى والجرحى من جنوده، مئات الدبابات والعربات المحترقة، وضباطٌ كبار أُسروا أو هربوا أو سقطوا أمام عزيمة مقاوم لا يملك إلا إيمانه وسلاحه، هما درعه وسيفه.
فصائل المقاومة الفلسطينية أكدت أن الاتفاق ثمرة من ثمار صمود الشعب الفلسطيني ولا منّة لأحد فيه على الغزيين.
حركة الجهاد الإسلامي أكدت أن إنجاز اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى مع العدو الصهيوني لم يكن منحة من أحد. وأضافت “رغم أننا لا ننكر الجهود العربية والدولية، فإننا نؤكد حجم التضحيات الهائلة التي قدمها شعبنا الفلسطيني، وشجاعة وبسالة مقاتليه في الميدان الذين واجهوا قوات العدو وأظهروا شجاعة غير مسبوقة في القتال؛ ولولا ذلك، لم تكن المقاومة قادرة على الوقوف نداً قوياً على طاولة المفاوضات”. وتابعت الحركة: “لن ينسى شعبنا -في هذه اللحظات التاريخية- شهداءه العظام الذين كان لهم الدور الأهم في أن تبقى المقاومة صامدة، وتصل إلى هذه المحطة المهمة التي تستطيع فيها عقد ما تم الاتفاق عليه لإجبار العدو على وقف العدوان”.
هيئة علماء فلسطين أكدت أن الاتفاق لم يكن منّة من الاحتلال أو الوسطاء، بل نتيجة لصمود الشعب الفلسطيني، وتلاحمه السياسي والميداني، وتضحيات المقاومة التي حافظت على الثوابت الوطنية. مشيرة إلى أن الاتفاق لا يعني نهاية المعركة، بل بداية مرحلة جديدة من المسؤوليات، وأكدت أن المقاومة لم تتنازل عن حقوقها أو سلاحها، وأنها أثبتت خلال الحرب الأخيرة أنها أمينة على قضية شعبها.
عضو المكتب السياسي في حركة حماس، عزت الرشق، أكد أن اتفاق وقف العدوان يشكل إنجازا وطنيا جسد وحدة الشعب الفلسطيني، والتزامه بخيار المقاومة. وأوضح أن ما فشل العدو الصهيوني في تحقيقه عبر الإبادة والتجويع على مدار عامين لم يستطع إحرازه عبر المفاوضات، مشيرا إلى أن وقف إطلاق النار جاء نتيجة التضحيات العظيمة، والصبر الأسطوري لشعب غزة، وقوة وصمود المقاومة.
لجان المقاومة في فلسطين أكدت أن الاتفاق جاء ثمرة لصمود الشعب الفلسطيني وتضحياته الأسطورية خلال عامين من الحرب. موضحة أن الموقف الموحد لفصائل المقاومة ورفضها لمعادلة الإبادة أو الاستسلام، أفشل جميع مخططات العدو الصهيوني.
لم يكن رد الفعل داخل الكيان الصهيوني سوى تأكيد على عمق الهزيمة. أصوات كثيرة خرجت غاضبة، تتهم “الحكومة ” الصهيونية بالخذلان، بالانبطاح، بالتخلّي عن أهداف الحرب. محللون صهاينة قالوا إن “حماس انتصرت سياسيًا وأخلاقيًا، واستعادت المبادرة”.
من كان يُريد سحق المقاومة بات يتفاوض معها. ومن وعد بتصفية كتائب القسام بات يُفاوض قادتها عبر الوسطاء. ومن أعلن أن “غزة ستعود إلى العصر الحجري” خرج يبحث عن حلول تحفظ له ماء وجهه. إنها السياسة حين تُجبر على الركوع أمام الإرادة.
وفي قلب هذه الملحمة، كان الشعب الفلسطيني -بمختلف أماكن تواجده- هو البطل الحقيقي. نتحدث هنا عن مقاومين في الميدان، وعن ملايين الفلسطينيين الذين صمدوا تحت القصف، تحت الحصار، تحت فقد الأحباب، وتمسّكوا بفلسطين أكثر من أي وقت مضى. لم تزدهم المجازر إلا إصرارًا، ولم يزدهم النزوح إلا إيقاظا لروح العودة. ومن القدس إلى الضفة، ومن مخيمات الشتات إلى ساحات التظاهر في العواصم العالمية، ارتفعت فلسطين مجددًا قضيةً أولى، ووجدانًا حيًّا، وصوتًا لا يخبو.
من بركات الصمود الفلسطيني أنه لم يكشف فقط عورة العدو، بل فضح كذلك زيف المطبعين، وسقوط العملاء، وتآمر المتخاذلين. لقد ارتفعت راية الفرز بين أمةٍ تؤمن، وأخرى تساوم. بين أحرارٍ ربطوا مصيرهم بالقدس، وعبيدٍ باعوا أنفسهم في أسواق السياسة الرخيصة. انكشفت المواقف كما لم تنكشف من قبل. لم يعد هناك مجالٌ للحياد الرمادي، فالمعركة كانت بين حقٍّ جليٍّ وباطلٍ صريح. من ناصر المقاومة كتب اسمه في سجل الخالدين، ومن تواطأ مع الكيان ارتبط اسمه بالعار، ومضى في سجلّ الخيانة إلى يوم يُبعثون.
وإذا كان العالم قد نظر، فإنه نظر بعين العاجز، أو المتواطئ. الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وكل مؤسسات «الشرعية الدولية»، وقفوا متفرجين على المجازر، عاجزين عن وقفها، أو غير راغبين في ذلك. لقد سقط القناع عن هذه المنظمات التي تتحدث عن السلام وحقوق الإنسان، فإذا بها تصمت عن قتل الإنسان الفلسطيني، وتصوغ قوانينها بما يخدم الصهاينة. وهكذا، كانت غزة وحدها، تقاتل، وتدافع، وتُظهر للعالم أن الكرامة لا تُمنح، بل تُنتزع.
واليوم، بعد عامين، حين نُراجع المشهد بهدوء، نجد أن المقاومة بقيت، وازدادت قوة، بينما العدو خسر كل ما طمح إليه: لم يستطع القضاء على المقاومة. لم يستطع استعادة أسراه. لم يحسم المعركة عسكريًا. خسر عشرات الآلاف من جنوده قتلى وجرحى. خسر سمعته. خسر هيبته، ومركزه.
وفي المقابل، انتصرت غزة. انتصرت لأنها بقيت، لأنها قاومت، لأنها فاوضت من موقع القوة، وتُراكم في ميزانها أوراقًا جديدة في كل يوم. انتصرت لأنها أعادت للناس ثقتهم بأن للحق سلاحا، وأن للكرامة ثمنًا، وأن هذا العدو، مهما بلغ من القوة، يمكن هزيمته إذا تماسك الصف، واشتد الإيمان، وسُدّت ثغرات التواطؤ.
سبعةٌ وسبعون عامًا على النكبة، وعقود من التخاذل، والتطبيع، والانبطاح. لكن صمود الشعب الفلسطيني فتح للزمن بابًا جديدًا، فيه المقاومة صاحبة المبادرة. والقضية عادت إلى أولويات الأمة، وسقطت أوهام الحلول الأمريكية، والهيمنة الغربية.
موقع أنصار الله