كربلاء مستمرة.. من انقلاب الأمة على الحسين إلى خذلانها لفلسطين

صادق البهكلي

من شرف النبوة إلى الانقلاب

حين نعود إلى واقعة كربلاء بعين الباحث لا بعين الباكي فقط، ندرك أن ما جرى للإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن حدثاً منعزلاً عن السياق التاريخي، بل كان نتيجة طبيعية لانقلاب عميق في بنية الأمة الإسلامية، بدأ منذ اللحظات الأولى لوفاة رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله). لم تكن المسألة مجرد انحراف سياسي في مسار الحكم، بل كان الأمر أكبر من ذلك بكثير. لقد حدث انقلاب على المفاهيم، على منظومة القيم، على النظرة إلى الحق والباطل، على دور الأمة نفسها في حمل رسالة الإسلام. أمةٌ كان من المفترض أن تكون نموذجاً في طهارتها، في عزتها، في نقائها، في حملها لهمّ الرسالة، انزلقت إلى أن تكون أداة بيد الطغاة. تغيرت طبيعة القيادة، تغيّرت رموز القدوة، وحلّ محل الهداة الطيبين أناس عرفوا بالفسق والمجون. ولذا، لم يكن من الغريب أن يصل إلى سدّة الحكم رجلٌ كشخص يزيد، رجل يعرفه القاصي والداني بأنه لا يمثل روح الإسلام، ولا سيرة النبي، بل يمثل نقيضها الصارخ. لقد أراد الله لهذه الأمة أن تسير على نهج “الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً”، فأخذت تتبع من هو غارق في الرجس، مأخوذ بالفسق، محاطٌ بالمستشارين من نصارى الروم وشاربي الخمر ومروّجي الفجور. وكأننا أمام مشهد يعكس انقلاباً كاملاً: من القدوة النبوية إلى الفجور السلطوي، ومن الهدى الإلهي إلى الانحدار الدنيوي. هذا التحول لم يكن مجرد غفلة، بل كان ثمرة تربية مشوهة، وتراكم لسكوت طويل عن الانحراف، حتى وجدت الأمة نفسها بين خيارين: إما أن ترضى بهذا الانقلاب، أو أن تواجهه بدم الإمام الحسين. فاختار الإمام الحسين أن يكون صرخة مدوية في وجه الانهيار، وأن يكون دمه الجواب الحاسم على سؤال: إلى أين تتجه هذه الأمة؟

يزيد.. الوجه القبيح للسلطة حين تفقد هويتها

حين نتأمل في شخصية يزيد بن معاوية، لا نجد أمامنا قائدًا سياسيًا أو زعيمًا أمّة، بل نواجه نموذجًا صارخًا لانفصال السلطة عن القيم، وانهيار المعايير التي من المفترض أن تحكم شرعية القيادة.

لم يكن يزيد مجرد حاكم منحرف السلوك وحسب، بل كان إعلانًا رسميًا عن تبنّي مشروع مناقض لرسالة محمد (صلى الله عليه وآله). لم يكن رجلًا مجهولًا، بل كان معروفًا بلهوه، بمجلسه المليء بالخمر والقرود، بمستشاريه الذين لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، يتصدرهم “سرجون النصراني”، رجل يمثل الهيمنة الرومية في قلب الحكم الإسلامي، يملي التوجيه ويصوغ القرارات، في دلالة واضحة على أن مشروع يزيد لم يكن إسلاميًا لا في مضمونه ولا في رموزه.

وهنا نسأل: كيف لأمةٍ أن تتنازل عن قيادة هي امتداد لرسولٍ عظيم، طاهر، زكِيٍّ، حمل همّ الأمة وبناها على أسس التقوى، لتضع رقابها طواعيةً تحت سيوف يزيد وأمثاله؟ كيف تنتقل من نور الهداية إلى عتمة المجون؟ من سكينة الوحي إلى ضجيج الطبل والخمر؟ المسألة لم تكن وليدة لحظة، بل تراكمات من التزييف والانخداع والتطبيع مع الظلم. عندما غابت التربية القرآنية وحضرت التربية السلطانية، عندما أصبح المنبر أداةً للسلطة بدل أن يكون وسيلة للهداية، انقلبت المفاهيم وتشوّهت البصائر.

لقد كان يزيد مشروعًا مضادًا للرسالة، ومن براهين ذلك اقتحامه واسبتاحته لعاصمة الرسالة، وكان يمارس فصول التهتك والانحراف لا في السر، بل في العلن، بلا حياء ولا ورع، وهو ما يجعل من خروجه على قيم الإسلام خروجًا مكشوفًا لا يحتاج إلى دليل. ومع ذلك، قبلت الأمة… صمتت… رضيت. وكان لا بد أن يأتي الإمام الحسين، لا ليطلب الحكم، بل ليعيد للأمة رشدها، ويضعها أمام الحقيقة، ويقول لها: “أيها الناس، إن لم يكن لكم دين، فكونوا أحرارًا في دنياكم”.

ندمًا يصمت المنبر ويسقط الوعي

كانت مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) يومًا ما منارة الحق، ساحةً لصناعة الإيمان، فيها نزل الوحي، ومنها انطلقت ألوية الجهاد، وعلى منابرها صدح صوت النبي يعلّم الناس مكارم الأخلاق ويربطهم بالله. لكن، كيف انقلب هذا المشهد النوراني إلى واقع يخذل فيه سبط الرسول؟ كيف غابت الأصوات التي كان يُفترض أن تصدع بالحق؟ وكيف أصبح الصمت لغة النخبة، والخوف عنوان الأمة؟

لقد خُذل الإمام الحسين في المدينة، كما خُذل من قبلُ أخوه الحسن، وكما خُذل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حين قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين. الصمت هنا لم يكن محايدًا، بل كان مشاركة في الجريمة، وخذلانًا للحق، وفسحًا للمجال أمام المشروع الأموي أن يتمدد بلا مقاومة. كان يمكن للمدينة أن تقول “لا”، أن تحفظ وجهها من عار السكوت، لكنها آثرت السلامة، والنتيجة أن صمتها لم يحفظ أمنها، بل جرّ عليها نقمة يزيد لاحقًا، حين اجتاحها بجيشه، وأباح فيها الدماء والأعراض والأموال.

عندما يُصادر المنبر، ويُسكت صوت الحق، تصبح الأمة فريسة سهلة للطغيان. هذا ما حدث فعلاً. لقد تغيّر مضمون الخطاب الديني، وصار مبررًا للسلطة بدل أن يكون رقيبًا عليها، وانطفأت جذوة الوعي، فتحوّل الناس إلى جمهور بلا بصيرة. في ظل هذا الغياب، لم يكن غريبًا أن يُضطر الإمام الحسين إلى الخروج من المدينة خائفًا يترقّب، كما خرج موسى، وكما خرج جده المصطفى من مكة.

إن صمت المسلمين خصوصا في وقت لم يمر كثير على وجود رسول الله بينهم لم يكن لحظة تاريخية عابرة، بل كان رمزًا لانحراف كبير وغياب للوعي بخطورة الموقف. وكربلاء لم تكن فقط معركة على الأرض، بل كانت مواجهة بين من أرادوا للإسلام المحمدي أن يبقى نقيا، ومن أرادوه سلطويا طاغوتيا. والإمام الحسين عليه السلام، حين خرج، لم يكن فقط في مواجهة يزيد، بل في مواجهة ذلك الإنحراف.

الإمام الحسين مشروع جهاد واستشهاد لا مأتم بكاء ولطم

كثيرًا ما تحوّلت ذكرى عاشوراء في وجدان المسلمين إلى مناسبةٍ موسمية للبكاء واستحضار الحزن، لكن ما أراده الإمام الحسين لم يكن دمعةً على خدّ التاريخ، بل وقفة وعي في وجه الظلم. إن تقزيم عاشوراء إلى مأتم، دون أن تُفهم كحركة نهوض ورسالة إصلاح، هو نوع من الظلم الثاني للحسين، بعد ظلم السيوف. فالإمام خرج من المدينة لا ليبحث عن الشهادة كهدف مجرد، بل ليواجه انحرافًا أراد أن يجعل من الأمة قطيعًا يتبع حاكمًا لا يُمثل دينًا ولا خُلُقًا ولا هُدى.

لقد أراد الإمام الحسين أن يبني مشروعًا مضادًا لمشروع يزيد، مشروعًا يُعيد تعريف الإنسان في علاقته بالله، في مسؤوليته أمام العدالة، في وعيه برسالته كخليفة في الأرض. ولذلك قالها بوضوح: “وإني لم أخرج أشِرًا ولا بطرًا، ولا ظالمًا ولا مفسدًا، ولكن خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي”. فهل يكون الإصلاح بالبكاء فقط؟ أم بالموقف؟ بالمجابهة؟ بالتضحية؟

الإمام الحسين في كربلاء لم يكن شهيدًا عاديًا، بل كان رمزًا متحركًا للقرآن، مشروعًا لا يزال مفتوحًا حتى اليوم. من يتأمله يجد فيه خارطة طريق لكل مظلوم، ولكل أمة تخضع لهيمنة الطغيان. فحين نتحدث عن الإمام الحسين، نحن لا نحكي قصة بكاء، بل نُعيد فتح معركة الوعي، نُعيد تسليط الضوء على مسؤوليتنا نحن في زمننا: من هم يزيدو العصر؟ من هم خطباء البلاط؟ من هم الساكتون عن الدماء؟ من هم الذين اختاروا الذل على الكرامة؟ ومن هم الذين على خُطى الإمام الحسين يمشون؟

كربلاء… مدرسة في الوعي والتحدي

كربلاء لم تكن نهاية لمسيرة، بل كانت بداية لوعي مختلف. كانت ثورة تنتمي إلى جوهر الإسلام، لا إلى هامشه، وتؤسس لمرحلة عنوانها أن الدم قد ينتصر على السيف إذا اقترن بالحق. لم تكن كربلاء جرحًا يُندمل، بل كانت ذاكرة تنبض في ضمير كل حرّ، تُعيد تشكيل الوعي الإنساني كلما خبا، وتوقظ القيم النائمة حين يستبدّ الجور وتسود الغفلة.

الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن قائدًا يبحث عن نصر عسكري، بل عن نهضة روحية. أراد أن يُربّي الناس، أن يُحفّز فيهم الضمير، وأن يُحرّك فيهم مشاعر المسؤولية تجاه أنفسهم ودينهم ومجتمعهم. فحين قال: “ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟”، كان يُحدّث كل زمان، كل أمة، كل فرد.

لقد أرادنا أن نُبصر الباطل حين يُزيَّن، وأن لا ننخدع بالشعارات حين تكون على ألسنة الطغاة، وأن لا نساوم على القيم، ولو كلفنا ذلك أغلى ما نملك.

في كربلاء، تعلمنا أن الكثرة لا تعني الحق، وأن الغلبة المادية ليست معيارًا للشرعية. فكم من جيش عرمرم يقوده الباطل، وكم من نفرٍ قليلٍ يحمل لواء الحقيقة؟ كانت هذه المدرسة تُعيد تعريف البطولة، ليس بأنها قتل ودمار، بل بأنها ثبات وإباء، بأن تُواجه الموت ولا تنحني، بأن تقول “لا” في وجه من يقول الجميع له “نعم”، بأن تختار الكرامة على الحياة.

إن كربلاء، بكل تفاصيلها، ليست تكرارًا لعنفٍ تاريخي، بل دعوة دائمة للثورة على الظلم، لا بسيف الإمام الحسين فقط، بل بفكره وموقفه ووعيه العميق.

دم الإمام الحسين… خارطة طريق للمستقبل

لم يكن دم الإمام الحسين نهاية لحياته فقط، بل كان بداية لحياة جديدة في وعي الأمة. لقد رسم الإمام بدمه خارطة طريق لكل من يريد أن ينهض، أن يتحرر، أن يواجه، أن يكون صادقًا مع الله ومع نفسه. فدم الإمام الحسين ليس أثرًا عاطفيًا نرثيه بالدموع، بل هو نبضٌ مستمر في شرايين كل من رفض الذل وأبغض الطغيان.

إن كل من عاش تجربة الظلم، في أي زاوية من هذا العالم، يجد في كربلاء مشعلًا يهديه. وكل من وقف أمام طاغية، وكل من صرخ في وجه مستكبر، هو ابنٌ للحسين وإن لم يلتقِ به نسبًا. لقد وسّع الإمام الحسين مفهوم الانتماء، فجعل الدم الذي سُفك على أرض كربلاء لغةً يفهمها المقهورون في كل العصور، وجعل من صرخته رمزًا يتجاوز التاريخ والمذهب والجغرافيا.

في يوم عاشوراء، لم يُقتل الإمام الحسين فقط، بل وُلد مشروع الإنسان الواعي. فقد علّمنا أن التضحية ليست هروبًا من الحياة، بل هي ولادة لحياة أكثر قيمة وعمقًا. الإمام الحسين لم يخسر المعركة، بل ربح الذاكرة، واستحوذ على التاريخ، وانتصر بقوة الكلمة والموقف. ولذا، فإن كل مقاومة في هذا الزمن تستمد شرعيتها من مداد دمه، وكل ثائر على الظلم يجد في الإمام الحسين أبًا روحيًا وملهمًا دائمًا.

وهنا ندرك أن كربلاء ليست حادثة في الماضي، بل نداء للحاضر، ودعوة للمستقبل. فمن لم يفهم الإمام الحسين اليوم، لن يستطيع أن يواجه يزيد الغد. ومن لم يزر كربلاء بقلبه، سيبقى تائهًا في زحام المساومة والخذلان.

الإمام الحسين في ضمير الأمة… مسؤولية لا ذكرى

أن نعيش الإمام الحسين، لا يعني أن نحفظ قصته أو نستعيد دموعنا في موسم معين، بل أن نُحمّل ضميرنا مسؤوليته. فالإمام الحسين ليس بطلًا من الماضي نُمجده من بعيد، بل هو إمامُ حاضرٍ في كل واقع نواجه فيه ظلمًا، أو نصمت فيه عن حق، أو نتنازل فيه عن كرامة. إن ذكرى الإمام الحسين تتحوّل إلى عبء على الأمة إذا بقيت في إطار الطقوس المجردة، دون أن تتحول إلى برنامج عمل ومنهج حياة.

لقد أرادنا الإمام الحسين أن نحمل كربلاء في وعينا لا في ثيابنا، في مواقفنا لا في مواكبنا فقط، في جرأتنا على قول “لا” لا في صوت نحيبنا وحده. نحن مطالبون اليوم أن نعيش عاشوراء كما عاشها الإمام الحسين: مواجهة للطغيان، كسر لهيبة الباطل، تحريك للوعي، ورفض للخذلان. فكلما سكتنا عن ظالم، أو برّرنا لمستكبر، أو خفنا من كلمة حق، نكون قد خذلنا الإمام الحسين من حيث لا نشعر.

الإمام الحسين (عليه السلام) لا يطلب منّا الحزن وحده، بل يطلب منّا أن نكون حسينيين في الموقف، في الخطاب، في النصرة. وما أشبه زماننا بزمانه، فالمعادلة نفسها: مشاريع استكبار، تطبيع مع الظلم، تضليل إعلامي، خطباء على أبواب السلاطين، وجماهير خائفة مترددة. فهل نبقى متفرجين؟ أم نستلهم من الإمام الحسين شجاعة البداية؟ شجاعة الرفض؟ شجاعة التغيير؟

إن عاشوراء في ضمير الأمة، ليست مناسبة نُحييها، بل مسؤولية نُحاسب عليها، والتاريخ لا يرحم من اكتفى بالبكاء حين كان الواجب أن ينهض، ولا يغفر لمن زيّن الذلّ باسم الحكمة أو برّر الخنوع تحت عناوين السلامة.

في هذا الزمن تتجدد مآسي كربلاء على أمتنا، ويتجدد معها الانحرافات والتخاذل، فتتكرر مأساة الظلم والقهر في كل مكان تُسلب فيه كرامة الإنسان. غزة اليوم هي كربلاء العصر، حيث تُعاد كتابة معاني البطولة والتضحيات في وجه العدوان الصهيوني، وتتجلى حقيقة الأمة في موقفها من هذه المأساة المستمرة.

وعلى الرغم من حجم المأساة وحجم التخاذل العربي والإسلامي والانحياز الفاضح للعدو الصهيوني من ما يسمى المجتمع الدولي فغزة باتت صوت الحق الذي لا يصمت رغم القصف والدمار.

في غزة، يُعاد رسم معاني البطولة والتضحية، ويُختبر صدق موقف الأمة من قضية فلسطين. ليست غزة مجرد مكان على خارطة الأرض، بل هي روح المقاومة التي تستنطق ضمير الأمة وتُحاسب كل متخاذل عنها.

إن ما يجري في غزة هو امتحان حي لما نُعلنه في ذكرى الحسين من قيم وشجاعة، ولذا فإن مسؤوليتنا تجاهها ليست في مجرد التعاطف أو النعي، بل في الفعل والعمل والدعم بكل الأشكال الممكنة.

كل صاروخ يسقط على بيت في غزة إدانة لكل متخاذل يدعي الإسلام او الدفاع عن حقوق الإنسان، وكل شهيد يروى ترابها هو صرخة في وجه الصامتين، والمتحجّرين.

إن عمليات الإبادة وحجم الإجرام الصهيوني لا يختلف جوهريًا عن ظلم يزيد، فالطغاة خط واحد عبر التاريخ وإن تعددت التسميات والقوميات فالجرم واحد.

لذا، فإن مسؤوليتنا لا تنتهي بالتذكير، بل تبدأ  من دعم الصمود الفلسطيني، ونصرة المظلوم، وكسر الحصار، وإيقاظ ضمائر الأمة لتتحرك قبل أن يُفقد الحق إلى الأبد.

في ضمير الأمة تكمن قوة التغيير، وفي موقفنا من غزة تتحدد حقيقة إيماننا بمبادئ الحسين وقيمه، فإما أن نكون معه في كل ساحة يقف فيها الحق، أو نكون في خانة الغافلين الذين تنازلوا عن الرسالة بأبخس الأثمان.

 

قد يعجبك ايضا