لبنان في تقارير الحرب الأمريكية: الدعم الشعبي لا يزال عقبة كبيرة
يتعاطى خصوم المقاومة مع الملف اللبناني بمنطق الساعي لاقتناص الفرصة وعدم تفويتها. في سياق يسير باتّجاه واحد في أكثر من ملف ساخن تشهده المنطقة: من الضغوط الأميركية – السعودية لحل الحشد الشعبي في العراق، إلى محاولات الابتزاز الذي يُمارس في غزّة تحت مُسمى “التفاوض” لنزع سلاح المقاومة، مرورًا بالتهديدات والاعتداءات التي لم تُسجل فارقًا في اليمن، وصولًا لقرع أبواب الأمن الإيراني من حدوده الشمالية الغربية. ويعكس النهج استعجالًا واضحًا لحسم الملفات وكأن كلّ يوم يمر دون تحويل المنجزات التكتيكية “الإسرائيلية” في المنطقة إلى مكاسب إستراتيجية يُعتبر هدرًا لفرصة حسم الصراع الدائر على منطقة غرب آسيا.
في لبنان، وعقب صدور قرار العار، بإقرار حكومة نواف سلام للورقة الأميركية، وجّه المبعوث الأميركي، توم براك، تهنئة عبر منصة “إكس”، للسلطة اللبنانية على ما وصفه بـ”القرار التاريخي والجريء”، مختتمًا منشوره بشعار “أمة واحدة، جيش واحد للبنان”؛ وهو الشعار الذي ترفعه الرياض اليوم، في سياق استهداف سلاح فصائل المقاومة، في فلسطين المحتلة ولبنان والعراق.
وبمعزل عن مضمون الشعار، وانسجامه مع واقع المنطقة التي تشرع أبوابها أمام التقسيم والتفتيت للأمة الواحدة، في الوقت الذي تُستهدف مخازن تسليح جيوشها، وتُفرض القيود على حجم تسليحها ومصادره، ما يجعلها قاصرة عن الدفاع عن أوطانها، التي لا يهدّدها تغوّل “إسرائيل” فقط، بل أصل وجودها وأطماعها في المنطقة، وبعيدًا عن الاندفاعة الإقليمية نحو الذهاب إلى مواجهة مفتوحة مع المقاومة في لبنان مهما بلغت تكاليف المواجهة، يبقى السؤال: أي قراءة يقدّمها الأميركيون للواقع اللبناني اليوم؟ وأي معوّقات يرونها تحول دون تحقيق أهدافهم فيه؟
يقدم معهد دراسات الحرب الأميركي قراءته في تقرير نشره في ٧ آب/أغسطس الجاري عن التطورات اللبنانية. غير أن اللافت في الأمر أن الأميركيين، الذين يرفعون شعار “أمة واحدة وجيش واحد” للبنان، يدرجون الأحداث اللبنانية والعراقية والسورية كما اليمنية والفلسطينية تحت عنوان: “آخر المستجدات الإيرانية”، ليختصر العنوان واقع الصراع كما يريد الأميركيون تكريس صورته وسرديته.
توقف التقرير عند إعادة هيكلة قيادة حزب الله وبناء وحداته، مشككًا بكفاءة البنية الجديدة بدعوى “نقص القادة ذوي الخبرة”، وذلك بالاستناد إلى وقائع اغتيال قادة الصف الأول من ذوي الخبرة التي امتدت لأربعين عامًا، وإلى خسائر تفجيرات البيجر. واعتمد على تصريح فاقد للمصداقية نشرته “اسوشييتد برس” للقول إن أيًا من المصابين بتفجيرات البيجر لم يتعافَ بعد ليعود إلى ممارسة مهامه، ما يفقد الحزب أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل من صفوفه. وتجاهل التقرير بذلك وقائع ميدانية أثبتت مشاركة جرحى بيجر في المعارك الأخيرة وسقوط بعضهم شهداء، وقد نشر الإعلام الحربي للمقاومة الإسلامية خلال الحرب صورًا توثق هذه المشاركات. ما يعني أن إعادة انخراط بعض جرحى البيجر سبقت حتّى عملية إعادة الهيكلة. كما أن الحقائق الميدانية تنسف ادّعاء افتقار حزب الله للقادة من ذوي الخبرة جملة وتفصيلًا، فالخبرات الممتدة إلى أربعة عقود لا تزال موجودة بشكل مباشر أو عبر الأجيال التي شكلت امتدادتها، وقد غذتها خبرات الثمانينيات، ومواجهات التسعينيات إلى التحرير، وملاحم العام 2006، وما تلاها من ميادين قتالية كانت تضعهم أمام طبيعات قتالية مختلفة. والكلام ثبتته وقائع الملاحم في قرى الحافة الأمامية، بضع مئات من المقاتلين، بعد اغتيال القادة وتفجيرات البيجر، منعوا ارتال الجيش “الإسرائيلي” من تثبيت نقطة واحدة له في الأراضي اللبنانية على مدى 66 يومًا.
ثم ذهب التقرير الذي كان يقدم تقدير موقف لعدد من الباحثين في المعهد، للحديث عن “ضعف حزب الله”، بالقول إن ذلك يتجلى في تصرفات الحكومة وقوات اليونيفيل “المتزايدة الثقة، واللتين لم يسبق لهما أن تحدتا حزب الله بهذا الشكل من قبل”. واستعرض جملة خطوات أقدمت عليها الحكومة من فصل للموظفين في المطار وتشديد إجراءاتها لتفتيش الطائرات والواصلين وكذلك على المعابر البرية المتصلة بسورية، وإزالة مواقع عسكرية للمقاومة جنوب الليطاني، ليوحي التقرير أن هناك فرصة جدية للقضاء على ما تبقى من وجود فاعل للحزب في الداخل اللبناني.
تقرير آخر، نشره المعهد نفسه في اليوم التالي، توقف فيه – لبنانيًا – عند جزئية واحدة فقط: مظاهر التأييد الشعبي للمقاومة. وفي الوقت الذي كان الشارع اللبناني يشهد غليانًا على خلفية قرارات حكومة نواف سلام، وكانت النقاشات الشعبية تطرح تساؤلات كبرى حول مآلات قرارات الحكومة وجدوى التحركات الشعبية غير المنظمة، كان للأميركيين قراءة مختلفة، فجاء في تقرير ٨ آب/ اغسطس الجاري: “نظّم مناصرو حزب الله احتجاجات في 16 موقعًا مختلفًا في أنحاء لبنان، ردًّا على دعم الحكومة اللبنانية لخطوة نزع سلاح حزب الله. ويشكّل الدعم الشعبي لحزب الله عقبة كبيرة أمام تقليص نفوذه في لبنان على المدى القصير”.
واحتلت هذه السطور العناوين الأبرز للتقرير، الذي ذهب لتفسير أسباب هذا الدعم. فاختزل التقرير الأسباب بـ “الحوافز المالية” ورواتب عوائل الشهداء والتعويضات المالية التي قدمها الحزب بعد عدوان تموز ٢٠٠٦، ليفسر بذلك ما أقدمت عليه السلطة اللبنانية لعرقلة إعادة الإعمار، بالتضييق على وصول المساعدات المالية من الخارج، وللوقوف دون تكرار تجربة حزب الله “الذي أعاد إعمار لبنان بسرعة ووفّر شبكة أمان اجتماعية للمدنيين اللبنانيين بعد حرب 2006″، كما ذكر المعهد.
هل كان المعهد الأميركي بالفعل يقدم تفسيرًا يرتكز لقراءة العقل الرأسمالي للجماعات؟ أم أنه كان يرسم صورة لمجتمع يتبدى في كلّ مرحلة أنه عصي على التطويع مهما بلغت تضحياته؟!
لقد قدمت القراءة القاصرة تبريرًا لسلوك الحكومة اللبنانية، لتظهره أنه استكمال لحرب تطويع مجتمع المقاومة واخضاعه. لكنّها تجاهلت الجذور الحقيقية للالتفاف الشعبي حول حزب الله منذ تأسيسه، وتصاعده مع أداء المقاومة في التسعينيات وصولًا إلى التحرير، ثمّ إلى عدوان تموز وما أعقبه من محطات كانت تسجل في كلّ مرة احتضانًا شعبيًا غير مسبوق. والقراءة الأميركية بدت عاجزة عن رسم صورة واقعية لطبيعة العلاقة بين المقاومة وحاضنتها الشعبية، وتفسير كيف يبدو المجتمع في ردود فعله العفوية سبّاقًا للمقاومة نفسها في المواجهة. هذا في مرحلة يشعر فيها هذا المجتمع أن تهديد المقاومة وسلاحها هو تهديد يلامس الوجود؛ في وقت يجد نفسه محاصرًا بالتحديات ومناطقُه وأبناؤه عرضة للاستهداف اليومي، ويجري كلّ هذا فيما يطالبه خصومه بالاستسلام… الاستسلام الكامل إما للإبادة، أو للذبح.
موقع العهد ـ إسراء الفاس